لقيت مبادرة الإخوان المسلمين لوقف معارضتهم للنظام السوري استغراباً من البعض الذي اعتبرها “مزحة”. لكنها برأينا لا تعدو تركاً لعواطف جياشة لتقود سفينة الإخوان في المنفى حسب عواصف غزة الدموية.
فحسب الأفكار القديمة لنصف القرن المنصرم اعتاد “الثوريون” من قوميين وإسلاميين أن يستثاروا عند مفاصل الحروب المندلعة دورياً ويخرجوا للشوارع في مسيرات واعتصامات ويصدروا بيانات واستنكارات ويهاجموا سفارات ويتاجروا بالخسائر البشرية والمادية ويتهموا كل من يتلكأ في مجاراتهم بالتواطئ، وأن العرب والعالم لا يفعل شيئاً لدعم الفلسطينيين، وأن قرارات مجلس الأمن – قبل صدورها- مدانة بانحيازها لإسرائيل. أكثرية من يتعاطى بالسياسة لا يكلف نفسه السؤال عن المتسبب بالحرب وأهدافها ونتائجها وأفضل طريقة لوقفها..؟ وعشرات الاسئلة الأخرى العقلانية.. كبديل للهياج على دقات طبول الحرب، والدعوة العبثية لتوحيد الصف العربي والإسلامي تمهيداً لتوسيعها..
منطلق المبادرة الإخوانية غير مدروس، والمراجع التي يستندون إليها لا تتعدى في معظم الأحيان النصوص التي تحض على الجهاد، وسير فتوح الإسلام وأبطال المسلمين، واعتبار فلسطين بأجمعها وقفاً إسلامياً والاستمرار في المقاومة حتى لو أبيد كل سكان غزة –حسب هنية-، فالموت كسب للحياة الآخرة الأبقى من الحياة الدنيا الفانية..
لكن المبادرة حسب المراقب العام لإخوان سوريا “لقيت تجاوباً وترحيباً في الداخل والخارج”. عملياً سمعنا صوتاً واحداً فقط يرحب بها لمسؤول الاتحاد الاشتراكي الناصري السوري مصرحاً بأن المبادرة هي تحية من الإخوان للنظام دعاه للرد عليها بأحسن منها. والسؤال الذي يتبادر للذهن لماذا لا يتبناها الاتحاد ويوقف معارضته للنظام؟ أم أنه فعل ذلك منذ خروجه من إعلان دمشق؟ فرئيس الاتحاد أشاد بوطنية السياسة الخارجية للنظام وأن الاختلاف معه في أمور داخلية، وهو نفس موقف أحزاب مشاركة في جبهة النظام. فيما إيقاف الإخوان لمعارضتهم يمكن أن يفسر خروجاً من إعلان دمشق وجبهة الخلاص الوطني، فالمنظمتان أعلنتا مواقفهما من الحرب دون الإضطرار لإعلان هدنة مع النظام.
لقد سبق للمراقب العام البيانوني أن أعلن عدم اعتراضه على التفاوض مع إسرائيل لاستعادة الجولان، ولكن الإخوان دعوا تماشياً مع الهستيريا العامة لفتح جبهة الجولان “للتخفيف” عن غزة، حتى أن نائب المراقب العام طالب الرئيس السوري “بأن ينخلع من خيار السلام.. ويبادر للحرب في الشمال.. بتسليم الإخوان مهمة تحرير الجولان، “فإذا انتصروا يهدونه انتصارهم” فالإخوان متواضعون لا يرغبون بانتصارات بل “بمرضاة الله”!.
يبدو أن أحداث غزة أفقدت إخوان سوريا حسن التقدير. فإذا كان النظام يخوض مفاوضات غير مباشرة كانت في طريقها للتحول لمباشرة، وهو لم يغامر بأي عمل عسكري في الجولان منذ حرب 1973، ولم يرد على غارات جوية على مواقع سورية لكيلا يعطي ذريعة لهجوم أسرائيلي، وجبهة الجولان ظلت صامتة أثناء اجتياح بيروت 1982 وحروب حزب الله وآخرها حرب 2006، وحرب الخليج الأولى والثانية وحرب العراق.. فلماذا سيستجيب للإخوان ويلزٌمهم الجولان؟. علماً أن أمران غير متوفران: الأول أن معارضة الإخوان في الخارج كانت مؤثرة قبل إيقافها، والآخر أن للإخوان قوة عسكرية ما فيما لو افتتحت جبهة الجولان.
سبق للإخوان أن وصلوا إلى نتيجة أن النظام غير قابل للإصلاح والحوار، حتى أنهم في الأسبوع الاول لحرب غزة طالبوا شعب سوريا “بالخروج للشوارع لإسقاط مشروعات التسوية والتصفية بكل أشكالها..” مما يشمل مشروع النظام التفاوضي حول الجولان. وفي آب الماضي اعتبروا النظام فاقد للشرعية وغير منتخب وغير مؤهل للتفاوض باسم شعبه، وحملتهم على النظام في مركزهم الإعلامي لم تتوقف: “النظام مستعد لبيع الجولان كله.. لقاء تثبيته في كرسي الحكم..”، وكتابهم لا يعترفون بمحاور المنطقة، فحسب قيادي إخواني: “..هناك محور واحد هو محور الاستسلام والخذلان..”!.
لا شيء يشير إلى أن توقف الإخوان عن معارضة النظام سيشجعه على التصالح معهم، فالإخوان شكلوا خطراً عليه أوائل الثمانينات واعتبر أن الحوار معهم خط أحمر، وهم لو عادوا لسوريا سيوسعوا نفوذهم بما يهدده من جديد، فلماذا يعيد الدب إلى كرمه؟؟ أما السماح لمقاومة إخوانية رابعة في أرض الشام تكمل المقاومات الإسلامية الثلاث – حزب الله وحماس والقاعدة- فهي من رابع المستحيلات. وإذا لم تكن هناك توافقات سرية بين الإخوان والنظام بوساطة حماس وهو ما نستبعده، فالنظام رد بشكل غير رسمي بأن عليهم البرهنة “أنهم لا يتعاطون مع أشخاص وتنظيمات فارغة وأنظمة معادية لسوريا..”.
المبادرة بالنسبة للإخوان على الأغلب كانت لتسجيل موقف “وطني” ومحاولة الكسب في الأوساط المتحمسة للعنف والحروب، فقد ظنوا أن الشعارات الوطنية تجتذب الأنصار أكثر من الدعوة للحاكمية لله وحبس المرأة في البيت.. وحتى هذا الاحتمال ضعيف، فالناس ملت منذ زمن استغلال القضية الفلسطينية من أجل الكسب السياسي..
آن الأوان للإخوان أن يتعلموا ممن سبقهم أن أولوية القضية أصبحت من الماضي البعيد، فالقوميون أيام العروبة “الظافرة” خاضوا الحروب وركزوا جهودهم لتحرير فلسطين والنتائج معروفة: الكوارث والهزائم وهدر الإمكانيات وعرقلة التطور وتأجيل الديمقراطية والتنمية.. فهل يكرر الإخوان نفس التجربة الفاشلة في عهد “الصحوة” الإسلامية في ظروف أسوأ ليتسببوا بكوارث وهزائم جديدة لشعوبهم؟
التياران الإسلامي والقومي سقطا في مأزق الصراع الدائم مع الخارج على حساب أولوية المواجهة الرئيسية مع الاستبداد والتخلف المحليين. ومبادرة الإخوان لوقف معارضتهم أشارت إلى أن التغيير الذي أعلنوا عنه في مشروعهم لسوريا المستقبل لا يتبنى المسألة الجوهرية: “أولوية الديمقراطية والتنمية على أي شيء آخر” وهي أولوية لا تنفي المسائل الأخرى ذات الأهمية. فتأجيل الديمقراطية من أجل القضية الفلسطينية يمكن اعتباره الكارثة الأكبر في تاريخ المنطقة في الستين عاماً المنصرمة. إن سير المبادرة الإخوانية على نفس المنهج يؤكد ما ذهبنا إليه في مقالات سابقة من أن الديمقراطية بالنسبة للإسلام السياسي إجمالاً هي فقط وسيلة للوصول إلى السلطة، يمكن التضحية بها في أي وقت.
الصحوة سجلت فشلاً متلاحقاً حتى الآن: انهيار حكم الطالبان الظلامي، تحول التيار الأصولي الجزائري والمصري لارتكاب المجازر ضد مواطنيه، إنقلاب عسكر الأسلام السياسي السوداني على نظام الحزب الواحد الترابي، فشل التيار الصدري في الهيمنة على السلطة لصالح النفوذ الإيراني في العراق، فشل الخاتمية في إصلاح النظام الإسلامي الإيراني الذي يقوده رجال دين غير منتخبين…
والفشل الأكبر هو لحماس، التي رغم كسبها الانتخابات التشريعية قامت بانقلاب دموي على السلطة في غزة وصفت خصومها. وهي عندما رجحت العنف والانتحار، لم تسأل عن أهالي غزة رغم واجبها كسلطة في حماية مواطنيها العالقين منذ زمن بين سندانها ومطرقة إسرائيل، فقد تسببت للشعب الفلسطيني بنزيف دائم من حياة أبنائه وممتلكاتهم كنتيجة لإصرارها على إطلاق صواريخها الدعائية. وبدل تحويل غزة بالتعاون مع الفصائل الأخرى إلى دولة نموذج لما ستكون عليه الدولة الفلسطينية بعد الانسحاب الإسرائيلي، دولة التنمية والإعمار بمساعدات عربية وإسلامية ودولية لانتشال مواطنيها من الأوضاع المعيشية البائسة، ودولة سيادة القانون الإنسانية كبديل للقوانين التي شرعتها مؤخراً لقطع الأيدي والأرجل والأعناق.
ويجري الآن بدون نجاح ملحوظ فبركة “انتصار إلهي” ما لحماس بعد وقف النار شبيه بانتصار حزب الله، الذي رغم الخسائر البشرية والدمار وإخراج مسلحي الحزب من الجنوب وجعله تحت سيطرة القوات الدولية والجيش اللبناني فقد “انتصر” الحزب لاستمراره في الوجود، كما اعتبر البعض أن الأنظمة القومية العربية انتصرت في حرب حزيران لأنها لم تفقد سلطاتها. لقد تجولت إسرائيل في القطاع على هواها فقتلت ودمرت دون أن تجد من يعترضها جدياً حماسياً أو محلياً أو دولياً، وانسحبت لعدم إحراج الإدارة الامريكية الجديدة ويمكن أن تعود متى شاءت. ويقترح مفبركوا “انتصار حماس!!” مكافأتها بإعطائها السلطة في الضفة أيضاً لتحقق “انتصارات” مماثلة لإنجازاتها في غزة!.
ظهرت مدى عبثية مبادرة إخوان سوريا بعد وقف إطلاق النار في الجبهة الوحيدة المفتوحة، فهل تنهار أحلامهم بفتح الجبهات الأخرى، أم يجددون أوهامهم في مناسبات قادمة؟ على الأغلب سيكررون مواقفهم العبثية طالما استمروا في الاستناد إلى أيديولوجيا سياسية “إلهية” لاعقلانية.
تعرضنا للمبادرة ليس لأهميتها بالنسبة لسوريا أو لغزة فهي أقرب لفقاعة إعلامية، ولكن الكتابة مناسبة لإعادة التأكيد على نقد الأفكار والمواقف السائدة المكررة رغم نتائجها الكارثية، مع التوضيح بأن من حق الإخوان العودة لسوريا بعد إلغاء القانون 49، ولكن ليس عن طريق تأجيل الديمقراطية. ونقدهم لا يعني رفض حقهم في العمل السياسي إلى جانب القوى السياسية الأخرى بعد إنهاء احتكار الحزب الواحد للسلطة.
ahmarw6@gmail.com
* كاتب من سوريا