تشهد الأيام والأسابيع المقبلة عدة استحقاقات انتخابية في مغرب العالم العربي ومشرقه. وإذا كانت العهدة الرابعة للرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة، والولاية الثالثة لرئيس الوزراء العراقي نوري المالكي من باب تحصيل الحاصل، والانتخابات الرئاسية في سوريا ومصر محسومة، تبقى انتخابات رئيس جمهورية لبنان متوقفة على حزمة تجاذبات محلية وإقليمية ودولية.
لكن الخلاصة الواضحة أننا في الغالب أمام انتخابات معلبة أو وهمية لا تعكس حقيقة الرأي العام لأنها نتاج ترتيبات الفئة المتحكمة بالسلطة دون التفات إلى التماسك المجتمعي أو إلى وجود قوى سياسية معترضة. ولذلك يصح التساؤل عن جدوى العملية الانتخابية من دون ضوابط وشفافية ورقابة، تتيح تداول السلطة وتعزيز السعي لاكتساب شرعية ضاعت تحت وطأة الاستبداد.
كانت الشرعية سلعة نادرة في غالبية الدول العربية الناشئة في القرن العشرين. وغالبا ما كانت القضية الفلسطينية أو الدين، الغطاء أو الذريعة لتأمين شرعية سياسية تعوز أنظمة تفتقد التمثيلية الشعبية أو الأساس القانوني.
وفي الحقبة المعاصرة ومع اعتبار المجتمع الدولي الاقتراع العام حقا إنسانيا عالميا، تصور البعض أن العملية الانتخابية هي مدخل المسار الديمقراطي، وأنها الحل السحري للمشكـلات المزمنة ومنها شرعيـة الحاكم وبناء دولـة القانـون أو الدولة العـادلـة.
وهذا التبشير الذي تزايد مع ترويج المحافظين الجدد لمشروع الشرق الأوسط الكبير في موازاة حرب العراق، لم ينبع من دراسة طبيعة المجتمعات وتركيبها وضرورة بناء ثقافة الاعتراف بالآخر والتدرج في التأهيل نحو مسار ديمقراطي متكامل.
لم يكن العالم العربي يحتاج بالفعل إلى دروس في الديمقراطية والقانون الدستوري، فعلى أرض بلاد ما بين النهرين انبثقت شريعة حمورابي، وفي شبه الجزيرة العربية كانت تجربة الدولة الإسلامية في المدينة المنورة وفق شورى شعبية نموذجية في عصرها.
وفي مرحلة ما بعد الاستقلال في القرن العشرين ولولا دخول الأنظمة العسكرية على الخط بعد نكبة فلسطين، ربما كانت الدرب معبدة نحو ترسيخ أنظمة برلمانية، وأكبر دليل على ما نقول وجود تجارب معقولة حينها في لبنان وسوريا ومصر والعراق، ونشير أيضا إلى تقدم ملحوظ إذ أن حق التصويت مُنح للمرأة وفقا للتسلسل التالي: لبنان 1949، مصر 1952، تونس 1956، موريتانيا 1959، 1961، الجزائر 1962، المغرب 1963، ليبيا والسودان 1964، اليمن 1967- 1970، البحرين 1973، الأردن 1974، الكويت 2005.
بيد أن الانتخاب لوحده وإنصاف المرأة ظاهرا لا يعني الارتقاء إلى بناء الدول الديمقراطية العتيدة، لأن المشكلة عميقة ولا ينبغي اختصارها بالذهاب إلى صناديق الاقتراع. وقد ساد الانطباع عند القوى الفاعلة في الإقليم والعالم أن العرب ظاهرة صوتية نتيجة تفكك نظامهم الإقليمي والضعف البنيوي المتراكم في دولهم وتأخرهم في السباق التكنولوجي والعلمي. وبدا المشهد السياسي العربي في أواخر القرن الماضي مستعصيا على التغيير، وكأن الديمقراطية التي مرت بكل أصقاع الأرض بعد نهاية الحرب الباردة، بقيت ممنوعة من الصرف في ديار العرب.
مع الإدراك بأن الديمقراطية ليست هي الترياق للمشاكل البنيوية، ولمعضلة إيجاد صيغة الحداثة الملائمة، لكن التساؤل كان ملحا عن أسباب عدم لحاق العالم العربي بالركب، فبالرغم من المآخذ على تصدير الديمقراطية عبر مشاريع خارجية أو عبر أشكال جديدة من الاستتباع الثقافي والاقتصادي، استمر المأزق السياسي والأيديولوجي الذي كان يمنع الشعوب والأفراد من التمتع بحقوقهم وعيش مواطنتهم والاشتراك في صنع مستقبل دولهم.
وفق احصاءات 2010، كان الشباب يشكل أكثر من ثلثي عدد السكان في العالم العربي. وهؤلاء الشباب الغائبون عن مراكز القرار وسوق العمل كانوا يبحثون عن حلم ومثالات وهوية، بعضهم مأخوذ بأهمية العودة إلى الدين، وبعضهم يتأثر بكل ما هو غربي.
ومنذ انهيار بقية مقومات النظام الإقليمي العربي بعد السيطرة على العراق، أصبح العالم العربي أكثر من أي وقت مضى في عين العاصفة ومسرحا لفصل جديد من لعبة الأمم، لكن التذرع بالقضية القومية والضغط الدولي لم يكن ليبرر أبدا عدم سلوك درب الإصلاح والتغيير.
وجاءت الأزمـة المالية العالميـة فـي سبتمبر 2008، لتـزيد من حـدة تفاقـم الأوضــاع الاجتماعية في دول مضروبة بالفساد ونهب المال العـام وارتفـاع معـدلات البطالة. إزاء هذا الوضع بـدأ الحـراك في سيدي بوزيد مع مشهد اختلطـت فيه القداسـة البطولية مع الفقر المدقع عند تضحية محمد البوعزيزي بنفسه ليصبح المشعل لشباب أمة مسحوقة ومهمشة على الصعيد الدولي.
وهكذا سقط جدار الخوف في تونس أبي القاسم الشابي، ومن ثم تصدع السد السلطوي في بقية الأماكن.
بعد ثلاث سنوات ونيف على قيام حركات “الربيع العربي”، يصعب تقييم مسار لم ينته فصولا. لكن الدروس الأولية تظهر صعوبة التغيير بطريقة سلمية كلاسيكية أو بطريقة عنيفة نتيجة تركة حقبة التسلط، وغياب القوى الحاملة للمشاريع الوطنية الجامعة والمؤمنة، فعلا لا قولا، بتداول السلطة وعدم الإقصاء.
ومما لا شك فيه أن وجود قوى إقليمية كامنة خائفة من التغيير وشراسة اللعبة الدولية من ليبيا إلى مصر واليمن وسوريا لم تسهّل بلورة مراحل انتقالية سلسة واحتكام مشروع إلى صناديق الاقتراع. والأهم ألا ييأس الشباب من كهول أحزابهم المتعطشين للسلطة، أو من مهازل انتخابية تحيلهم نحو الالتحاق بالقوى الراديكالية المتشددة.
حتى لا يبقى تاريخ العالم العربي تاريخ الفرص الضائعة وحتى يتم استرجاع بناء الدولة الوطنية على أساس المواطنة والتمثيل الديمقراطي، يتوجب تخطي عثرات الحقبة الحالية ومنح الأولوية لثقافة الحوار، وإعطاء الثقة للشباب حتى يصوغوا مستقبلهم عبر العمليات الانتخابية السليمة داخل دول عادلة وواعدة.
أستاذ العلوم السياسية، المركز الدولي للجيوبوليتيك- باريس
khattarwahid@yahoo.fr