إستماع
Getting your Trinity Audio player ready...
|
ترجمة “الشفاف”
لِكَي نجدَ مأساةً بحجم تلك التي تعاني منها غزة اليوم، يجب علينا بلا شك أن نعود إلى الحصارِ القاسي الذي فرضه الإسكندر الأكبر على هذه المدينة في العام 332 قبل الميلاد.
تاريخياً، بَنَت واحة غزة ازدهارها وتأثيرها على موقعها الاستراتيجي، باعتبارها ملتقى طرق تجارياً بين بلاد الشام ومصر، فضلا عن كونها منفذا على البحر الأبيض المتوسط للقوافل القادمة من شبه الجزيرة العربية. قيام دولة إسرائيل عام 1948 حوَّلَ هذا “المفترق” إلى “قطاع غزة” مساحته 360 كيلومترا مربعا، ويحدّه من الشمال والشرق خطوط وقف إطلاق النار الإسرائيلية المصرية، ومن الجنوب الحدود التي رُسِمَت عام 1906 بين فلسطين العثمانية ومصر الخاضعة للحكم البريطاني..
وهكذا تَحوَّلَ “مفترقُ الطرق” إلى “جَيبٍ”، طغى فيه مائتا ألف لاجئ فلسطيني، طردوا من منازلهم بسبب إنشاء إسرائيل، على ثمانين ألف نسمة من السكان الأصليين.
وإذ باتت تضمُّ ربعَ سكان فلسطين العرب في ما يمثل 1% فقط من أراضيها التاريخية، فقد تحولت غزة بطبيعة الحال إلى معقل للقومية الفلسطينية وإلى بوتقة لمقاتليها، “الفدائيين”.
احتلت إسرائيل المنطقة مرتين قبل الصراع الحالي: خلال أربعة أشهر في 1956-1957، كان الإحتلال قاتلاً بشكل خاص واستهدف “استئصال” الفدائيين؛ ثم من عام 1967 إلى عام 2005، كان الاحتلال مكلفًا للغاية لدرجة أن إسرائيل قررت فكّ الارتباط من جانب واحد. وآدى انسحابها إلى إضعافِ السلطة الفلسطينية بدلاً من تقويتها، ما سمحَ لـ”حماس” بالإستيلاء على غزة. صَنَّفت إسرائيل قطاع غزة “كياناً إرهابياً” في عام 2007، ومنذ ذلك الحين أخضعت القطاع وسكانه لحصار مستمر أدى الهجوم الحالي إلى تفاقُمِه.
على طريق الإمبراطوريات
منذ الألفية الثانية قبل الميلاد، كانت غزة قاعدة لغزو “الهكسوس”، القادمين من بلاد الشام، لمصر. وذلك، قبلَ أن يعكسََ فراعنةُ طيبة الاتجاه بالاستيلاء على بلاد الشام انطلاقاً من غزة. واستمر “بندول” الإمبراطوريات هذا في معارك غزة التي وضعت الفراعنة ضد الآشوريين والبابليين على مر القرون.
كان قورش الكبير هو الذي قام في عام 539 قبل الميلاد بتحصين غزة كحامية فارسية على أبواب مصر، التي استولى عليها خليفته قمبيز عام 525. وفي القرن التالي، أطلق المؤرخ اليوناني هيرودوت على غزة اسم “كاديتيس” « Cadytis، وقال أنه كان يحكمها «ملك العرب» الذي يسيطر على «مراكز التجارة البحرية». وربما يكون المقصود هم العرب الذين باتوا مرتزقة في خدمة الفرس، مع احتفاظهم بالحكم الذاتي الغامض لـ”ملكهم”.
في عام 333 قبل الميلاد، سحق الإسكندر المقدوني الجيوش الفارسية في “إيسوس”، على مسافة ليست بعيدة عن أنطاكية، ما فتح له أبواب سوريا والطريق إلى مصر. لكن الحامية الفارسية في “غزة” (التي بلَغَها مباشرةً بعد استيلائهِ على “صور”)، بقيادة “الملك” باتي، المعززة بمرتزقة عرب، رفضت الاستسلام، وبذلك أعاقت التقدم المقدوني نحو مصر. كانت تلك بداية حصار دام ثلاثة أشهر، قاده الإسكندر بنفسه، في عام 332، وأُصيبَ أثناءه مرة واحدة على الأقل.
إن التربة الرملية المحيطة بغزة منعت الغزاة اليونانيين من استخدام آلات الحصار التي حققت لهم النصر السريع في المعارك السابقة. واضطر الإسكندر إلى الأمر بحفر الأنفاق، بحسب المؤرخ الروماني كوينتوس كورتيوس: “إن الأرض، السهلة والخفيفة، أفسحت المجال لهذا العمل غير المرئي، لأن البحر المجاور يقذف الكثير من الرمال ولا تمنعه الحجارة ولا الصخور”. لكن المدافعين عن غزة كانوا يتقنون أسلوب الحرب هذا منذ فترة طويلة.
لم يتمكن الإسكندر من إعلان نفسه منتصرًا إلا بعد مائة يوم. وتم إحضار “باتيس” أمامه مقيدًا بالسلاسل. لكن زعيم غزة رفض الركوع أمامه، ما أثار غضب المنتصر. وهكذا، تم ثقبُ كعبي باتيس ليتم ربطه بحزام وجرّ جسده خلف مركبة عسكرية حول أسوار غزة. بعد فترة طويلة من انتهاء الأعمال العسكرية، تم ذبحُ جميعِ السكان الذكور الذين يمكن الاشتباه بمشاركتهم في القتال ، في حين تم تحويل النساء والأطفال إلى مرتبة العبودية.
ملأَ نهبُ غزة عشر سفن محملة بالغنائم المتجهة إلى مقدونيا. وفقًا للمؤرخ اليوناني الروماني “بلوتارخ”، أرسل الإسكندر، لحسابه الشخصي، عشرة أطنان من البخور وطنين من المرّ. وتم تسليم المدينة، التي بعد نهبها وإفراغها من سكانها، إلى المستعمرين اليونانيين الذين أعادوا بناءها تدريجيًا إلى درجة جعلتها مركزًا للثقافة الهلنستية.
أي مقارنات مغرضة مع المأساة المستمرة حالياً في غزة ليست في محلها. فإذا كانت غزة قد عانت من الغضب الإمبراطوري منذ أكثر من ألفي عام، فذلك لأنها كانت مفترق طرق يرغب فيه جميع الغزاة. في حين أنها اليوم تحولت إلى “جيب” محاصَر من جميع الجهات لأكثر من ستة عشر عاما. ويتجلى ذلك في حجم الثروة التي نهبها الغزاة المقدونيون في غزة، في حين لا يسود اليوم سوى الجوع والمرض والعوز في غزة.
علاوةً على ذلك، في زمن الإسكندر الأكبر، لم تكن هناك أمم متحدة، ولا لجنة دولية للصليب الأحمر، ولا قانون إنساني، ولا ضمير عالمي، ولا قنوات إخبارية تبث على مدار 24 ساعة، ولا وسائل تواصل اجتماعي.
رمال غزة وحدها كانت بالفعل رمالاً متحركة
*أستاذ جامعي في ساينس بو