طبعا إن السؤال الذي ينهض حالما يثار موضوع اعتقال (طل الملوحي) ذات التسعة عشر عاما التي تجاوز توقيفها التسعة أشهر دون أن يسمح لأحد أن يراها حتى أمها الملوعة… هو سؤال ما الذي فعلته هذه الفتاة لكي يكتب عليها كل هذا الشقاء الإنساني، وكأنا نحو إحدى التراجيديات اليونانية، التي تضع الإنسان في مواجهة أقداره التي تقررها آلهة لا تسال عن قضائها وقدرها ولا عما تفعل أو تريد، ولا عن تفسير أو تعليل لمعنى مشيئتها… مع ذلك فإن حلم الإنسان بالحرية جعله -حتى في زمن الطفولة الإنسانية الاغريقية هذه- يتحدى الأقدار الإلهية –حيث استجابة القدر لإرادة الناس وفق الشابي العظيم- ويؤسس لهذا التمازج الأسطوري الرائع بين ما هو إنساني وما هو إلهي –خلق الله الإنسان على صورته حيث تكريم بني آدم- حيث (أنسنة الإلهي وتأليه الإنساني) في جدل وحدة الوجود الكوني إذ يفيض على ذاته من ذاته رحمة وتراحما وحبا وسلاما، ليسجل لنا الأدب الإغريقي انتصار الإرادة البشرية على المشيئة الجبرية، حيث سينتزع بروميثيوس سر النار الذي كان حكرا على الآلهة، حتى ولو كان ثمن مشعل الحرية (النار لتبديد الظلام) أن تأكل كبده الطير إلى أبد آبدين جبل الأولمب…هذه الأنسنة المتبادلة هي المدخل لتفسير الفضاء الأسطوري للتراجيديات والملاحم اليونانية حسب زيرافا.
وسيواصل (سيزيف) رحلة الحرية دون أن يستشعر (اليأس) من دحرجة الصخرة إلى أعلى قمة الجبل ومن ثم تدحرجها من جديد…. هذه المثابرة والإصرار في التحدي من أجل الحرية كافية لتملأ قلب الإنسان بالسعادة.. تلك هي الخلاصة العبقرية التي سيخلص لها البير كامو إذ هو ينشق على معسكر الشمولية باحثا عن سعادة الحرية عبر التمرد..
إن الإغلاق المحكم لمنافذ الهواء في سوريا وتحويلها إلى زنزانة تحرسها عصابات مسلحة وميليشيات تسمى (جيشا) ومخابرات تضع المجتمع السوري في مناخات سوسيو-ثقافية –سياسية سحرية، وكأنه يعيش بمجموعه خلف الشمس التي تشرق على العالم، بل وكأنه يعيش في سجن داخلي أسطوري يخرجه من معادلة الحوار السياسي في صيغة (سلطة ومعارضة) كما يحدث لدى خلق الله، لكن خلق الله الذين تشرق عليهم الشمس الطبيعية بطبيعة الحال… وعبارة (خلف الشمس) ليس من استعاراتنا المجازية، بل هو مجاز من إنتاج إبداع المخيلة المخابراتية، فهم الذين يعود لهم الفضل في تحقيق شعرية الإنزياح في الصورة الشعرية، حيث يمكن أن يستخدمه حتى المساعدون والرقباء بعد درجة البكالوريا، وذلك عندما يهددون ضحاياهم بأنهم سيرسلونهم إلى ما بعد الشمس…ولكثرة ما أرسلوا بشرا خلال (العصر الأسدي) غدت سوريا بكاملها (خلف الشمس)…. وليس طل الملوحي فقط التي لا يعرف لها مكانا تحت شمس سوريا الطبيعية اليوم، وذلك لأنها كان عليها أن تدفع اليوم ضريبة وعيها الاستثنائي السباق الملتبس بالشعر بوصفه فعل حرية داخلية خارجة عن القانون (الرعاعي –الحثالي للعصر الأسدي) فكان لا بد لوعيها السباق وعمرها السباق أن يواجه بفلسفة الحرب الاستباقية (البوشية) لكن المنتجة أسديا…أي بعد إعادة إنتاجها (أسديا حداثيا مع الوريث الحاسوبي)…
فلقد استعارها العقل الميليشي الأمني لمعالجة مشكلاته المجتمعية والوطنية الداخلية انتقاما من الحرب الاستباقية الخارجية التي ظلت استراتيجية سرائيلية جعلت حياة الطاغية الأسد الأب كلها فرارا…والأسد الابن كلها صغارا عندما تتلهى فوق غرفة نومه..
ولذا فقد كان الرد على تخويف الشاب وهو في غرفة نومه بهدير الطائرات الإسرائيلية، أو ضرب موقع الخُبر استباقيا، هو الرد السريع الإنتقامي الحاسم عليها بتعميم ثقافة الخوف التي أسسها أبوه ضد شعبه، لكن بوحشية مختلفة مقننة وحقوقية عبر المحاكمات (ذات الرعب الكافكوي)التي هي أشد من التعذيب الجسدي… وذلك بمحاكمة “أصحاب القضايا بخيانة قضاياهم”، كأن تحاكم الأكثر وطنية وقومية بإضعاف الشعور القومي… والأكثر انخراطا بشؤون الوطن والأمة بتجريمه بتهمة (توهين نفس الأمة)…وتلك من الوسائل القديمة جدا(المحدثة بعثيا وطائفيا) حيث كان يعذب المسيحيون المخلصون بوصفهم كفارا برسالة المسيح، وهي الطريقة التي استلهمتها الفاشية الإيطالية وأصبحت تقليدا شموليا…
طل الملوحي تنتمي عبر حساسية جيلها الجديد إلى حرية ضوء شمس العالمي، فامتدت يدها لتأخذ قبسا (بروميثيوثا) لأهلها في وطنها فثارت غرائز سدنة الطغيان الذين يحتكرون كل شيء بما فيها الشمس فكان عليها أن تواجه المصير البروميثيوثي، لإعادتها إلى حيز (السيزيفية) التي يعيشها المجتمع السوري منذ خمسين سنة، في ظل احتكار الشمس من قبل سدنة الموت في العالم السفلي بقيادة (شارون) قائد قارب الموت في العالم السفلي حسب الميثولوجيا اليونانية، شارون المجاز الإغريقي هذا، سيتناوب واقعيا على المصير السوري خلال حقبة في صيغة تنافس مقاولين للموت : أحدهما شارون فعلي (الإسرائيلي)، وشارون محلي(أسدي) سيتنافسان على قبض ثمن نقل الأرواح في سوريا ولبنان وفلسطين….حيث لم يبق في سوريا سوى فرصة سعادة (الحرية السيزيفة) وفق تسمية كامو، إذ ظلت هي الحرية الوحيدة لامتلاك قبس من نارها المطهرة في (مملكة الأشباح والشبيحة)، وذلك عبر (الحرية السيزيفية ) بوصفها فعلا ذاتيا لا يتوخى إلا سعادة الكينونة وهي تحقق ذاتها ككينونة حرة، بغض النظر عن الآخر الطاغية مهما كانت شدة قبحه المسوخية الوثنية المتألهة طلبا للقرابين وتعطشا للدماء، حيث الحرية (البرومو يثو –سيزيفية) ستغدو قدرا مضادا لسوريا بوصفها “محكومة الأمل)، ردا على الوجه القبيح لآلهة الشر…. وهذا ما يفسر لنا كيف يمكن لكاتب انكليزي شديد العقلانية الوضعية (باتريك سيل) أن يصف حافظ أسد بصفات ميتافيزيقة غيبية بوصفه (نبيا) جديدا للطائفة العلوية التي يدعوها (سيل) إلى تكريس نبوته نظرا لخيراته الربانية عليها، والتي لا بد أن هذه الخيرات قد طالت باتريك سل نفسه حتى تمكن من هذه الاستفاضة الغيبية….
نقول: لقد تغلب القدر الشيطاني في صورة تحكم الأرواح الشريرة الجحيمية (الشارونية) على قدر (محكومية الأمل)، و ذلك ما لا يتمكن غباء استبداد الطغاة من فهمه منذ أوامر (زيوس ) رب الأرباب بمعاقبة بروميثيوث وسيزيف وصولا إلى صغار المستبدين من نسل تزاوج (الظلام والليل) من شياطين مقاولي الموت في جهنم العالم السفلي – بالمعنى الأسطوري الإغريقي والمعنى السوسيولوجي- للأصول الرعاعية والحثالية التي استولت على سوريا منذ إعلان حالة الطواريء إلى اليوم – في صيغة (السلسلة الأسدية من الأب إلى الابن) عبر حالة من التردي والتقهقر في صورة تردي الحالة الوراثية، عندما يؤول الأمر وراثيا إلى فرد قاصر معوّق يتصرف بمصير بلد بطيش كما يتصرف الصغير بألعابه….عندها فقط يمكن فهم سر إخفاء طل الملوحي منذ ما يقارب السنة مما يعدون في جهنم رعبهم الوحشي المؤسس له في تدمر، الكابوس من النوع (الأسدي) الفريد في شدة تلذذه بالدم الذي يشربه، ككل الطغاة الأوثان الذين لا يشربون خمرتهم المقدسة إذا لم تشرب بجماجم الضحايا كما صور ماركس هذا الوثن الطغياني في مرحلة شبابه الشعري…تتمثل فرادة الوحشية (الأسدية) في جعل الموت حلما وأمنية لضحاياه في معتقلاته وسجونه الذي سمعنا الكثير عن أمثلتها في تدمر، حيث حلم السجين أن يموت شنقا..ولعل في ذلك سر تفاخر وزير دفاع آل الأسد في أنه كان يحكم أسبوعيا على المئات بالشنق نيابة عن سيده الوثن الأكبر في التعطش إلى الدماء ومسح آثارها من على فمه القذر…
لكنا في سوريا إذ نواجه بهذه المشيئة القدرية الجبرية الوثنية، فإننا كنا نواجه دائما الوجوه الأقبح التي تصنعها سلسلة مسوخ شياطينية، رغم أن التعددية اليونانية سمحت أو افترضت أن يكون إلى جانب آلهة الانتقام والشر، ثمة آلهة تدافع عن الخير والحب والسلام… لكن أقدارنا -كما أسلفنا-كان يصنعها نموذج (شارون) صاحب قارب الموت المتكفل في نقل أرواح الموتى في أنهار العالم السفلي، مقابل نقود كان اليونانيون يضعونها في أفواه موتاهم أجرا لشارون ابن (اربوس الظلام ونكس الليل)، هذا الشارون (الأسطوري) كان علينا أن ندفع إتاوات رعبه بشكل مزدوج في شكل حضوره الكابوسي على حياتنا : بين شارون صبرا وشاتيلا من جهة، وشارون تدمر وحماة من جهة أخرى… حيث أداء القتل يمارس بورع وإيمان عميق برسالة زراعة الموت…. وعلى محورين : توحدهما شراكة قتل الفلسطيني من مخيم تل الزعتر إلى صبرا وشاتيلا…
هكذا ساجلنا صحفي إسرائيلي كان يشاركنا دورة تعلم اللغة الفرنسية في فرنسا منذ ثلايثن سنة – في الزمن المتقارب لإنجازات الموت (الشاروني الأسدي) في حماة، ولاحقا الإسرائيثلي في صبرا وشاتيلا – قال الصحفي الإسرائيلي :حتى ولو كان شارونهم مشبوها بالمسؤولية عن صبرا وشاتيلا، لكن مسؤولية سفارة نقل الجثث الشاروني في سوريا ليس ثمة شبهة في مسؤوليته عن قتل عشرات الألاف في حماة وحلب بل وفي لبنان، وأن جريمة تل الزعتر ضد الفلسطينيين لا تقل عن جريمة شارونهم إن صحت التهمة الموجهة إليه…تلفتنا –نحن الطلاب السوريون- حولنا في وجوه الطلاب من كل أنحاء العالم مكتومين خجلين من واقع أن الطالب الإسرائيلي كان بإمكانه أن يتحدث عن جرائم شارونهم… بينما نحن لا نستطيع أن نتحدث عن جرائم شاروننا (الوطني)، باعتبار أن جرائم شاروننا الأسدي (وطنية وقومية مقدسة) تفتدى بالروح والدم…وقد كان على الشعب السوري حينها في بداية الثمانينات أن يفتدي (شارونه) بعشرات ألاف الضحايا وعشرات آلاف المسجونين وعشرات آلاف المفقودين وتدمير الأحياء على رؤوس (الجماهير الكادحة المناضلة في سبيل الوحدة والحرية والاشتراكية) في حماة وحلب وجسر الشغور…الخ
تلك هي المقدمات التاريخية الحاضنة للحرب الاستباقية التي تستهدف (طل) وجيلها الشاب لوأد ظاهرة توسع هم وطني شاب جديد يضع الأولوية للحرية في المقدمة حتى على أولوية لقمة العيش التي يسعى النظام من خلال الضن بها تقزيم إحساس الإنسان بإنسانيته والسوري بسوريته…لكن الوعي الشاب يبرهن لهم بأن الحريات لسوريا أولا… لا زالت تتقد في نفوس السوريين علمانيين أم إسلاميين عربا كانوا أم أكرادا….وهي تتقدم على لقمة العيش التي يذلون من أجلها في كل يوم… هذه الحرب الاستباقية المستلهمة، تستند إلى فكرة أن تقوم المؤسسة العسكرية والأمنية في سوريا بجمع ومراكمة كل خبراتها التي تحصلها في دوراتها التدريبية الأمنية والعسكرية في الخارج، ومن ثم تعيد إنتاجها بوصفها خطط حرب ضد المجتمع عبر قلب المعادلة البوشية من حرب ضد الخارج العدو إلى حرب استباقية ضد الداخل العدو…هذه الحرب الاستباقية التي طورها الوريث القاصر، وتداعياتها وأثرها على موقف أطراف المعارضة ستكون موضوع الحلقة القادمة…
السؤال الزائف: هل القضية مسألة سياسية أم مسألة إنسانية؟؟؟
لقد تحدثنا في الحلقة السابقة على :إن استراتيجيات الحرب الاستباقية على المجتمع تستند إلى فكرة أن تقوم المؤسسة العسكرية والأمنية في سوريا بجمع ومراكمة كل خبراتها التي تحصلها في دوراتها التدريبية الأمنية والعسكرية في الخارج، ومن ثم تعيد إنتاجها بوصفها خطط حرب ضد المجتمع عبر قلب المعادلة البوشية من حرب ضد الخارج العدو إلى حرب استباقية ضد الداخل العدو كما أشرنا..
وعلى هذا فالأسدية الشابة طورت الأساليب البدائية القائمة على الإبادة الجماعية للأب (تدمر – حماة – حلب –جسر الشغور…الخ ) الذي أعلن مرة عن فلسفته هذه بإحدى خطبه قائلا : بأنه كانت تصله التقارير عن نشاطات شباب معارضين، فكان يأمرهم بالتريث حتى إعلان صيحته الكبرى لتأخذهم دفعة واحدة أخذ بطاش متوحش مقتدر…
(الذئب الصغير الوريث) أضاف إذن إلى معادلة أبيه بعدا عسكريا أمنيا جديدا قوامه هو إستراتيجية الحرب الاستباقية على المجتمع عبر استخدام القضاء الذي تحول إلى مؤسسة أمنية بعد أن غطاه رئاسيا (قانونيا) برفع مسؤولية الإجرام عن الذين يعبرون عن إخلاصهم المخابراتي فيقتلون ضحاياهم الذين لازلنا نأمل أن لا تكون (طل: الربيع والشمس والحياة والنور والهواء) أحدهم…
أي أن الإبن حدث وسائل أبيه فوجه مخابراته الشابة: أن يجمعوا المعلومات ويراكموها لكن أن لا يتصرفوا قبل أن يتخذ أن قرارات حربه الاستباقية غير الشاملة الإبادية على طريقة أبيه في تدمر وحماة بل بطريقة اختبارية إجرائية منتقاة لإرسال رسائل الرعب المقونن الاستباقي للمجتمع كالرسالة الأخيرة (رسالة طل) إلى جيل الشباب…هكذا بدأوا وأدهم لربيع دمشق عبر اختيار نماذج دائمة وتمثيلية، حيث الحملات تتشكل في كل مرة من عشرة نماذج، فكانت الحملة الأولى بعد قرعهم الطبول ضد لجان إحياء المجتمع المدني وقيام ظاهرة المنتديات… حيث أخذوا من كل التيارات والاتجاهات مندوبين لإرهاب الجميع، وذلك في الفترة التي كانت المعارضة تراهن على المشروع الاصلاحي لـ(لوريث الصغير )… ولم تمر سنتان حتى أنشب الذئب الصغير أظفاره -بعد أن طالت- بأجساد الموقعين على إعلان بيروت دمشق – دمشق بيروت.. حيث اختاروا عينات تمثيلية كتدبير استباقي قبل أن تتكون وتتحول إلى ظاهرة برنامجية للنخبة السورية -اللبنانية….وذلك لكي تكون المبادرة بأيديهم، وليقوموا بعدها بحوالي السنة تقريبا بالدعوة إلى ما دعا إليه إعلان المثقفين الديموقراطيين المشار له، حتى قبل أن يعلن عن وجه صريح للمعارضة…. وذلك عبر القيام بجمع حثالات ورعاع مثقفيه في سوريا، مع حثالات الثقافة اللبنانية ممن يسمون بالموالاة –(موالاة المخابرات السورية) ليصدروا بيانا في دمشق كبديل للبيان الذي أعتقل من أجله الشباب المعتقلين لكنه الذي لا يختلف عنه نوعيا..
ولن تمر سنوات ثلاث حتى ينقضون بأنيابهم على ممثلي إعلان دمشق كضربة استباقية لمجلسه الوطني الأول، فيما يعتقدون أنه استئصال للجذر قبل أن يشتد العود..
وضمن الفلسفة الجديدة للحرب الاستباقية كانت العين (الميدوزية /الأسدية ) ترصد أي تبرعم جديد لأطياف ربيع دمشقي جديد لكي تصحره بنظرتها (الميدوزية) التي تبعث الموت والجماد في كل شيء حي، كما كانت عين ميدوزا رمز إشاعة القحط واليباب في كل مظاهر الحياة من حولها، تماما كما سيتحقق ذلك في السنوات العجاف للعصر الأسدي البائد… حيث ستتسلط العين الميدوزية هذه استباقيا على جيل الشبان (طل وآيات) وقد سبقهما مجموعة الشباب الجامعيين المدونين الخمسة الذين هم على أبواب انتهاء محكوميتهم لخمس سنوات… :(عمر العبدالله حسام ملحم طارق الغوراني ماهر اسبر أيهم صقر دياب سريه علام فخور )، سيما وأن المعطيات تشير إلى أن أكثر من نصف سكان سوريا هم من مواليد ما بعد الثمانينات… وسيما بعد مؤشرات اتساع القاعدة الشبابية التي تصوت لصالح أولوية الحريات، حيث تتقدم على أولية لقمة العيش وفق استبيان الرأي التي قامت به إحدى المؤسسات الأمريكية (المجلس الديموقراطي) التي تناولناها في في مقالين سابقين… ولهذا يغدو مفهوما: معنى أن الحرب الاستباقية ستخوضها عصابات العصبوية الطائفية ضد الشباب…ضد طل.!
لا بد من هذا الحفر في الخصوصية التكوينية لنظام الرعب الأسدي المضمخ برائحة الجثث واشتهاء الموت، للوقوف على معرفة سر إخفاء هذه الصبية الغزالة الشاردة وراء أحلام بناء (مدينة الإحساس)، على حد الصياغة الشعرية ذات الرهافة الحداثية لغزالتنا(طل).
هذا التعبير وتلك الطريقة في مقاربة الشعر ليس من منهج وطريقة وأقوال السلفية كما يراد توريطها بحسابات تكسبية صغيرة، بل هو بدعة وابتداع وإبداع الحساسية الجديدة للشعر الحديث، فلا داعي للتوظيف الايديولوجي لقضية (حجاب طل ) واتهام العلمانيين بأنهم يهملون قضيتها بسبب حساسيتهم من حجابها، جاهلين أو متجاهلين أن في ذلك زجا للصبية بمعسكر الأصولية التي يحارب النظام تحت رايتها المجتمع السوري منذ ثلاثين سنة لكي يصمت العالم عن جرائمه، مثلما أشاعت المخابرات من قبل أن آيات أحمد سلفية لكي يسوق نظام العصابات معركته ( التقدمية ضد الرجعية)، بعد أن ورط (الأصوليون ) البلاد في فتنتهم الشهيرة في بداية الثمانينات…ثم يأتونا اليوم ليدعونا إلى (التعقل والعقلانية) ومن ثم مناشدة الوريث القاصر وعقيلته واستعطافهما، بل والدعوة إلى التوقف عن التضامن مع طل باسم خشيتهم من نتائج أنها أصبحت قضية رأي عام…
أية مفارقة تحطم العقل هذه…!!! هل يعقل أن ينجح الحراك الديموقراطي: الحقوقي الإنساني أو السياسي الحزبي، العلماني أو الإسلامي بأن يجعل طل (قضية رأي عام )، لم تتمكن المعارضة السورية منذ إعلان حالة الطوارئ منذ نصف قرن حتى اليوم، أن ترتقي بنضالها من أجل الحريات حد بلوغ تحويل :مسألة الحرية في سوريا إلى قضية رأي عام، ومن ثم يأتينا(متعقلون) إسلاميون بل و(يساريون) بل و(فنانون) يفترض أن الحرية هي “عقيدتهم الأسمى”، ليقولوا توقفوا لكي لا يثأر النظام من طل…وكأن النظام الذي يخوض حربا ضروسا ضد مجتمعه منذ عقود ينتظر الذريعة لكي يبطش بضحاياه، ما دامت ذريعته دائما حاضرة، وهي ذريعة المعركة ضد الأصولية، ويأتي الأصوليون ليقدموا له هذه الخدمة من خلال تصوير ضحاياه أنهم ينتمون إليهم…!!!
بل ويأتي البعض (اليساري) ليحول الموضوع إلى قضية نظرية فيتساءل: ما هي الأولوية في قضية طل؟
هل هي أولوية إنسانية أم سياسية… ويجيب بأنها قضية إنسانية !!! وكأن طل كانت ضحية تسونامي… وليست ضحية النظام الأكثر وحشية في عصرنا الراهن ليس عربيا فحسب بل وعالميا.. وكأن قضيتها الإنسانية تلك يمكن فصلها عن الفعل السياسي أوعن التاريخ السياسي الدموي الأسود القلب والضمير…بل والأنكى من ذلك أن البعض من المثقفين من اليسار الشيوعي المحسوب على (حزب الشعب) الذي لم يستطع حتى اليوم أن ينتزع لنفسه تسمية مستقلة بعيدا عن ربط اسمه بقائده الفذ (رياض الترك) للتعريف به، نقول :إن الأنكى أن بعض هؤلاء المثقفين اليساريين الذين يريدون أن يبعدوا الأذى المخابراتي عن أنفسهم وهو أمر مشروع في كل الأحوال… لكنه ليس مشروعا أن يحولوا قضيتهم (المشروعة إنسانيا وشخصيا) إلى قضية وطنية تمتح بالعقلانية والحكمة، فيشككوا بلحظة نادرة في تاريخ مواجهة الطغيان في سوريا منذ عقود… ليتساءلوا عن (عقلانية) جدوى رفع الصوت التضامني السياسي… وليتمحلوا في الحديث(النظري) عن البعد الإنساني في الموضوع –وليس السياسي- وكأن قضية (طل) مسألة تثار في سويسرا أو النرويج وليس في سوريا رعب (غابة الأسد الذي كان وحشا فصار ذئبا فكلبا)…
ليكتشفوا فجأة حكمة العقل والتدبر والحصافة التي كان يفترض أنهم رفضوها وتمردوا عليها بما كان يمثلها شيخ الطريقة الشيوعية الستالينية (خالد بكداش) الذي انشقوا عليه منذ أربعة عقود…لكنهم يعودون ليثبتوا من جديد حكمته في التعقل واختيار طريق الرشاد في عدم معارضة ولي الأمر… ليضيعوا حقيقة أنه خلال هذه العقود كان يرفل بالمكاسب الأسدية بينما كانوا هم يرفلون بالقيود والسلاسل… ليثبتوا أنهم -من جديد- فاتتهم الحكمة في استشعارحس المنفعة…فهم لا يكسبون من (عقلانيتهم) هذه سوى الحفاظ على الرأس، بينما سبقتهم حكمة شيخهم الأول(بكداش) الذي انشقوا عليه بما أتاه الأسد من رفاه المال والبنين…لقد خسروا السعادة الدنيوية لشيخهم القديم، ولم يكسبوا سعادة شيخهم الجديد العظيم (رياض الترك) وهي سعادة خيار طريق (سيزيف)، الطريق الذي يفعم قلب المتمردين على الطغيان سعادة الحرية في ذاتها، كما استخلص البير كامو، وكما استخلص من قبله شيوخنا العظام قدس الله سرهم (الحلاج وأبو يزيد البسطامي ومحي الدين بن عربي)….
ويأتينا آخر ليهددنا بمحكمة أمن الدولة بأنها ستتهم (طل) بالجاسوسية والخيانة إذا استمررنا بتضامننا معها.. انطلاقا من أن قلوبهم الحكيمة قلقة على طل… وكأن محكمة أمن الدولة ستوجه لأول مرة في حياتها مثل هذه التهم التي سبق لها أن وجهت آلاف التهم مثلها أو ما هو أخطر منها، وهي التي تحاكم أصحاب دعوة (الحكمة) هذه (الأخوان المسلمون) حتى اليوم تحت بند قرار 49 بالإعدام لكل من ينتسب إلى حزبهم (حزب الأخوان المسلمين ) رغم أنهم لا يزالون إلى اليوم يعلقون نشاطهم المعارض لتوحيد الجهود… لنتصور يا سبحان الله كيف يمكن أن تتوحد الجهود مع الفاشية الأسدية دون تحمل إثم طل وآيات وهيثم المالح… فأية شطارات ميلودرامية هذه التي لا يصدقها لا العدو ولا الصديق!!؟؟
هل هناك من يرغب أن يقدم (الصبية) قربانا على مذبح التصالح الذليل مع نظام كانوا هم سبب سفحه لدماء عشرات الآلاف من السوريين… ثم يأتونا اليوم ليقولوا بأن الحكمة تقتضي مناشدة الرئيس وحرمه…إنه من المدهش حقا أن تجد معارضا في سوريا من يتحمل ضميره دون أن ينوء بالخجل والعار أن يناشد ضمير هذا (الصبي القاصر القاتل المأفون) القادر أن يشرع قانونيا ورئاسيا لجلاديه من المخابرات أن لا يلاحقوا على جرائمهم التعذيبية! ونتمنى أن لا تكون طل ضحية هذا التشريع القانوني لهذا الفاشي الصغير القاصر…نقول من المدهش حقا أن يتوجهوا له بضمير مطمئن بوصفه رئيسا!؟
وهم لا يترددون بأن يقدموا لنا الأمثلة على حكمتهم : بأنهم سبق لهم أن توجهوا بمثل هذا البيان (بيان المناشدة) للإفراج عن (هيثم المالح وطل وآيات وعلي العبد الله) ليوحوا لنا بأن مناشدتهم قد أثمرت عن الإفراج عن آيات أحمد.. ولا نعرف هل عريضتهم (مناشدة ما يسمونه الرئيس) أم عريضتنا (مناشدة الرئيس الفرنسي ساركوزي) هي التي دفعت عصابة القتلة إلى الإفراج عن آيات..بل وربما لا عريضتنا ولا عريضتهم أثارت اهتمام الجلاوزة…!
لقد نشرنا عريضتنا على موقع (النداء.. إعلان دمشق) ناشدنا فيها الرئيس الفرنسي ساركوزي وريث ولاية أمر (الوريث الأسدي الصغير)، بعد أن كان في عهدة الرئيس السابق جاك شيراك الذي أعلن براءته من هذا الذئب الصغير، عندما رفض أن يلتقيه قائلا، وبمسؤولية عالية لرئيس دولة عظمى كفرنسا بـأنه “يرفض أن يصالح رجلا يداه ملوثتان بالدم…”.
لقد نشرنا المناشدة على موقع إعلان دمشق في 16/6/2010 وبعد خمسة أيام نشرت على العديد من المواقع وبعدها ترجمت إلى اللغة الفرنسية ووجهت إلى الرئيس الفرنسي والخارجية ومن ثم الصحف الفرنسية، و ذلك قبل الإفراج عن آيات بأسبوعين في 1/تموز… هذا إذا صح ما هو مصرح به من قبل الأهل…وأنهم ليسوا مرغمين عليه أمنيا!
بما يعني أن موقع إعلان دمشق (النداء ) لم يحرجه (حجاب ) آيات أحمد، وأن نشر مناشدة الرئيس الفرنسي الشديدة اللهجة ضد ديكتاتورية النظام الأمني الأسدي لم يدفع بمحكمة أمن الدولة لاتهام آيات بالجاسوسية كما يهددنا الحكماء… بل يرجح لدينا أن الإفراج عنها كان تحت هذا الضغط الفرنسي والدولي.. وليس بسبب مناشدة ضمير الذئب الصغير وحرمه من قبل الذين فجأة أصبحوا (حكماء) لا علاقة لهم بكل هذا الأخدود الدموي الذي حفروه مع حليفهم الجديد الذي توحدهم معه القضية…!!
إن البنية التكوينية الرعاعية والحثالية سوسيولوجيا وأخلاقيا لعصابات النظام السوري لم تبرهن لنا في تاريخها أنها تتأثر بالمناشدات العاطفية الإنسانية والأخلاقية لمن لا أخلاق لهم ولا عاطفة سوى أخلاق وعواطف المال والعنف والدم الذي لا يستجيب إلا لمنطق إرادة القوة، هكذا هرولت قطعان التهريب والبلطجة العسكرية من لبنان، وهكذا استسلم الأب المؤسس لمعادلة (قوة الجبناء)، وهي القوة والتعاظم على الأهل والتصاغر والجبن أمام الأقوياء : بتسليم الزعيم الكردي عبد الله أوجلان والتنازل عن لواء اسكندرون للجنرالات الأتراك الذين عرفوا كيف يخاطبونه بتهديده بتدمير مطاراته في القرداحة حتى لا يكون له سبيلا للهزيمة إليها من دمشق..!!!
إن أي تراجع في حملة التضامن مع (طل) ليس خيانة لقضية طل وخيانة لكل المعتقلين الذين تتكثف قضيتهم في هذه اللحظة بصورة البراءة المنتهكة التي تمثلها قضية طل… بل إن أي تراجع باسم الحكمة والتعقل لن يكون إلاخيانة لمستبقل الحرية والديموقراطية في سوريا،بل وخدمة توضع في رصيد رعب وتخويف وإرهاب عصابات الاستيطان الطائفية التي تغدو المراهنة على حماقة وطيش ورعونة (صبيها القاصر المعوّق) أحد أهم عوامل انهياره وسقوطه… كما كان قتله للشهيد الحريري مباشرة أو بالنيابة عبر حزب الله أحد أهم عوامل سقوطه في لبنان وانسحابه من لبنان…. يجب الاستمرار في دفع قضية طل إلى مستوى أن تكون قضية طل قضية رأي عام عربي (شكرا لشباب مصر) بل وعالمي (شكرا لشباب سوريا) في كل أنحاء العالم الذين خرجوا في كل عواصمه بعد ظهر السبت 2تشرين –أوكتوبر…لمواصلة النضال السلمي بلا هوادة، لإجبار عصابات المافيا المسلحة على الانسحاب من سوريا قريبا…كما انسحبت من قبل في لبنان.. رغما عن أنفها وأنف كل الطغاة الصغار ومواليهم وأنصارهم من المليشيات عصابات البلطجة في لبنان الذين ينظرون إلى وطننا سوريا بأنها (سوريا الأسد)….
mr_glory@hotmail.com
* كاتب سوري- باريس