تكمن النقطة الأكثر وضوحاً في رد الحكومة الإيرانية على اتفاق الإطار النووي – الذي صدر مؤخراً – في أن طهران لا تتعامل معه باعتباره إنجازاً هائلاً كما تنظر إليه واشنطن، بل كخطوة على طريق الوصول إلى اتفاق نهائي. وفي حين أدلى الرئيس الأمريكي باراك أوباما ببيان رسمي في الثاني من نيسان/أبريل حول الشروط المبدئية – وهو خطاب بثه التلفزيون الحكومي الإيراني على الهواء مباشرة وذلك في سابقة من نوعها – التزم المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي حتى الآن بالصمت حول بيان الحقائق الصادر عن الولايات المتحدة؛ وحتى إن الموقع الرسمي الإلكتروني الخاص به لم ينشر أي تقرير أو تعليق عن الموضوع. ولكن نظراً إلى الخطوط الحمراء التي وضعها خامنئي للمفاوضات في الأشهر الأخيرة، فإن اتفاق الإطار بالكاد يكون مرضياً له.
يبدو أن المتشددين سيقوضون سلطة روحاني
خلال خطاب وجّهه خامنئي في 8 شباط/ فبراير لقادة سلاح الجو الإيراني، قال المرشد الأعلى:
“سمعنا أنهم يقولون ‘دعونا نتفق في الوقت الحالي على المبادئ العامة. وفي وقت لاحق، يمكننا التوصل إلى اتفاق حول التفاصيل’. أنا لا أحبذ ذلك. إذ إن تجربتنا حول سلوك الجانب الآخر تدفعنا إلى الشعور بأن الأمر سيصبح أداة في أيديهم لتقديم الأعذار المستمرة حول التفاصيل. إذا كانوا يريدون التوصل إلى اتفاق، ينبغي أن يوافقوا على التفاصيل والنقاط العامة في جلسة واحدة فقط وبعد ذلك يوقعوا عليها. أما إذا توصلوا إلى اتفاق حول نقاط عامة وحاولوا بعد ذلك تحديد التفاصيل على أساس هذه النقاط العامة، التي هي غامضة وقابلة للتفسير والتحليل، فإن الأمر ليس بالمنطقي…إذ لا بد لجميع المواضيع التي تم الإتفاق عليها بين مسؤولينا والجانب الآخر أن تكون واضحة وشفافة، ويجب أن تكون غير قابلة لعدة تفسيرات”.
ونظراً إلى هذه الآراء، فإنه لعامل منذر بالشؤم أن يقوم وزير الخارجية محمد جواد ظريف والموقع الإلكتروني الرسمي للحكومة الإيرانية (www.dolat.ir) باتهام وسائل الإعلام الغربية والحكومة الأمريكية بتقديم تقرير كاذب حول ما تم الاتفاق عليه في المفاوضات التي أجريت في مدينة لوزان السويسرية، وذلك مباشرة بعد إصدار إدارة أوباما بيان الحقائق الخاص بها. وإذا استمرت هذه الحرب المتعلقة بالتفسيرات، يمكن أن يؤدي ذلك إلى مشاكل خطرة بالنسبة إلى فريق الرئيس حسن روحاني بينما يحاول تبرير الاتفاق للشعب الإيراني والدفاع عنه ضد المتشددين.
من وجهة نظر خارجية، سيبدو من الواضح أن ظريف وروحاني قد تمكنا من وضع إيران على المسار نحو تخفيف العقوبات في حين أدت المقاربة السابقة إلى فرض عقوبات أكثر صرامة. إلا أن التركيز في إيران ينصب بدلاً من ذلك على ما إذا كان الاتفاق سيؤدي إلى تخفيف العقوبات سريعاً وعلى المدى الطويل. وفي هذا الإطار رأى ظريف أن بيان الحقائق الأمريكي “لا يعكس الواقع” لأنه يشير إلى أنه لن يتم رفع العقوبات فوراً بعد التوقيع على الاتفاق، بل بعد أن تتحقق “الوكالة الدولية للطاقة الذرية” من أن إيران نفذت الصفقة. وتتناسب الحجة التي قدمها ظريف مع موقف المرشد الأعلى. ففي الخطاب الذي ألقاه في 21 آذار/ مارس في مدينة مشهد في اليوم الثاني لعيد “النوروز”، وهو خطابه السنوي الأهم الأشبه بخطاب “حالة إيران”، صرّح قائلاً: “يقول الأمريكيون مراراً وتكراراً إنهم سيوقعون اتفاقاً مع إيران، وإنهم لن يرفعوا العقوبات إلا إذا التزم الإيرانيون به، وهذا تصريح خاطئ وغير مقبول ونحن لا نوافق عليه. فرفع العقوبات هي إحدى شروط المفاوضات، وليس نتيجة لها. وأولئك الذين يشاركون في المفاوضات يدركون بوضوح الفرق بين الإثنين”.
وبالفعل، لم يشِد المتشددون كثيراً بالقبول بالحلول الوسطى لتحقيق التفاهم الدولي، وركزوا بدلاً من ذلك على ما أنجزته إيران من خلال “الصمود” و”عدالة” مطالبها التي تنشدها منذ فترة طويلة. ويتناسب ذلك مع اعتقاد خامنئي بأن المفاوضات لن تؤدي حقاً إلى إبعاد “العدو”. ففي كلمة ألقاها في 19 آب/أغسطس 2005، ذكر مثال انسحاب إسرائيل من غزة حيث قال: “قد يدعي بعض الناس أن هذا الانسحاب كان نتيجة للمفاوضات، إلا أن هذا ادعاء سخيف. فعلى مدى سبعين عاماً من احتلال [الأراضي] الفلسطينية، لم يغادر الصهاينة الأراضي يوماً عن طريق التفاوض. وأي مفاوضات؟ … فلم تتحرر غزة عن طريق التفاوض، [فالتفاوض] لا يحرر أي مكان آخر، ولن يفعل ذلك بتاتاً … لقد تحررت غزة فقط نتيجة لمقاومة الشعب الفلسطيني”.
وعلى هذا النحو، باتت المعارضة المتشددة المستمرة لاتفاق الإطار مؤكدة تقريباً. فقد صرّح حسين شريعتمداري، ممثل خامنئي في صحيفة “كيهان” المعروف على نطاق واسع كناطق باسم المرشد الأعلى، لـ”وكالة أنباء فارس” أن الشروط التي تم الإعلان عنها تعني أن “نتخلى عن حصان محمل ونحصل بالمقابل على لجام مقطوع”. وقال إسماعيل كوثري، عضو لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في البرلمان الإيراني: “لقد حققت الولايات المتحدة جميع أهدافها في المفاوضات النووية، لكن إيران لم تحقق مطلبها الرئيسي، وهو رفع كامل العقوبات”.
إن التوقعات التي يطرحها القادة الإيرانيون حول رفع سريع للعقوبات لا تتنبأ بشكل صحيح بكيفية عمل الاتفاق مع مرور الوقت. فقد أثار روحاني آمالاً كبيرة حول تأثير الصفقة المحتمل على حياة الناس، وهو طرح أتى نتيجة ردود الفعل المفعمة بالابتهاج التي شهدتها شوارع إيران. وفي الثالث من نيسان/أبريل، أعلن الرئيس الإيراني أنه سيتم رفع كافة العقوبات مباشرة بعد التوقيع على اتفاق نهائي في حزيران/ يونيو. وتضع هذه العقلية عبئاً ثقيلاً على حكومته لكي تسارع إلى ترجمة الاتفاق إلى إنجازات ملموسة على الاقتصاد المحلي وعلى الظروف المعيشية اليومية. وفي هذا السياق، انتقد المتشددون ادعاء روحاني بأن الاتفاق النووي هو الحل الرئيسي لإنقاذ الاقتصاد. فإذا أخذت التحسينات وقتاً لتبصر النور، فبإمكان هؤلاء المتشددين أن يستخدموا خيبة أمل الشعب من أجل تقليص شعبية روحاني من خلال وسائل الإعلام التلفزيونية والإذاعية التي يحتكرونها، والتي تشكل المصدر الرئيسي للأخبار بالنسبة لمعظم الإيرانيين. وبعبارة أخرى، حاصر روحاني نفسه إلى حد كبير من خلال رفع التوقعات عالياً جداً بشكل غير واقعي لدرجة أن اليوم الذي يلي التوقيع على الاتفاق يمكن أن يكون بداية نهايته السياسية.
التداعيات على السياسة الإقليمية
هناك عدد قليل من المؤشرات، إن كانت قائمة، في إيران التي تدل على أن إطار العمل النووي يشير إلى نهج جديد تجاه السياسة الخارجية والعمل مع الولايات المتحدة. ففي الخطاب الذي ألقاه المرشد الأعلى في مدينة مشهد، أكد خامنئي على أن المفاوضات الحالية هي “فقط حول الملف النووي، وهذا كل شيء. ويجب أن يعلم الجميع بذلك. فنحن لا نتفاوض مع الولايات المتحدة حول القضايا الإقليمية. كما أن الأهداف الأمريكية في المنطقة تناقض أهدافنا تماماً. فنحن نريد الأمن والسلام وسيادة الشعب، ولكن السياسة الأمريكية تقوم على خلق انعدام الأمن والأسى … أما فيما يتعلق بالقضايا الإقليمية أو القضايا الداخلية وقضايا الأسلحة، فنحن لا نتفاوض عليها إطلاقاً مع الأمريكيين”.
لقد أكّد الخطاب الإيراني حتى الآن على أن القضية النووية هي أحدث حالة أُجبر فيها كل من الولايات المتحدة وشركاء واشنطن على قبول “الموقف الصحيح” لإيران، كما يُفترض أن ذلك قد حدث أيضاً حول تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» أيضاً. وبالتالي ينصب التركيز على التنازلات التي قدمها الغرب وعلى اعترافه بالإنجازات الإيرانية.
وفي هذا الصدد، اعتمدت القيادة العليا في طهران نهجاً متناقضاً. فمن جهة، ترغب هذه القيادة في استخدام البرنامج النووي كوسيلة ضغط لرفع كافة الضغوط السياسية والاقتصادية المفروضة على الجمهورية الإسلامية، وحتى العقوبات غير النووية الصادرة رداً على المخاوف بشأن رعايتها للإرهاب وانتهاكات حقوق الإنسان. ومن ناحية أخرى، حرص المفاوضون الإيرانيون على التمييز بين الملف النووي وغيره من القضايا المتنازع عليها، وخاصة تلك المتعلقة بسياسة إيران في الشرق الأوسط.
من هنا فإن هذا التناقض قد يعرض استدامة الاتفاق النهائي للخطر. فإذا كانت طهران ترى التنازلات النووية كهدية للغرب، ستتوقع بلا شك أن تتقبل الحكومات الغربية أنشطتها في المنطقة. ولكن بدلاً من ذلك إذا أبقت واشنطن وحلفاؤها على الضغوط على طهران أو زادوا منها (على سبيل المثال، بسبب تدخل إيران في سوريا واليمن والعراق والبحرين، أو دعمها للجماعات المسلحة مثل «حزب الله» وحركة «حماس»)، فإن القيادة في طهران ستعتبر ذلك استمراراً للسياسة الغربية القائمة على تقويض قوة إيران في الشرق الأوسط وحشد الحلفاء الدوليين ضد طهران. وكما هو مبين أعلاه، تتوقع هذه القيادة أيضاً تنازلاً إضافياً أخيراً وهو: إنهاء الضغوط الغربية على طهران لانتهاكها حقوق الإنسان وقمعها المجتمع المدني. وإذا وقّعت إيران على صفقة نووية إلا أن الحكومات الغربية والمنظمات غير الحكومية واصلت هذه الضغوط (على سبيل المثال، من خلال تمويل وسائل الإعلام الفارسية خارج البلاد ودعم منظمات حقوق الإنسان والصحفيين والناشطين السياسيين والمؤسسات المدنية الهشة في إيران)، فإن المرشد الأعلى سيعتبر ذلك دليلاً على ما ادعاه مراراً وتكراراً بأن الهدف الحقيقي للغرب لا يكمن في البرنامج النووي بل بفكرة وجود النظام من الأساس. لذا من الصعب على طهران تقديم التزامات نووية دائمة لدول تعتقد أنها تحاول باستمرار إسقاط النظام.
وبغية وضع اللمسات الأخيرة على الاتفاق النووي، قد يوافق الجانبان على فصل الملف النووي عن القضايا الأخرى. ومع ذلك، من غير الممكن ضمان استدامة الاتفاق إذا كان لدى كل من إيران والغرب تصورات متعارضة أساساً حول تأثير الاتفاق على القضايا غير النووية المتنازع عليها.
مهدي خلجي هو زميل “ليبيتزكي فاميلي” في معهد واشنطن. پاتريك كلاوسون هو مدير الأبحاث في المعهد.