عندما اجتاح الجيش العراقي الكويت، كان رئيس أركان الجيش، نزار الخزرجي، ووزير الدفاع عبد الجبار شنشل آخر من يعلم. في صباح اليوم التالي وصلهما الخبر عن طريق مكالمة هاتفية.
مَنْ الذي أعد خطة الاجتياح، إذاً؟
ثلاثة أشخاص: صدّام حسين، وحسين كامل، وعلى حسن المجيد. هؤلاء الثلاثة بلا مؤهلات عسكرية. الثاني والثالث كانا جنديين في وقت ما، لكنهما مُنحا رتبة الفريق، وأصبحا أهم رجلين في العراق بعد الأوّل.
وردت قصة اجتياح الكويت في كتاب صدر مؤخرا لغسان شربل، رئيس تحرير جريدة الحياة اللندنية، بعنوان “العراق من حرب إلى حرب: صدّام مر من هنا” (دار رياض الريس للنشر 2010). الكتاب عبارة عن حوارات أجراها مع أربعة أشخاص، ثلاثة منهم (الخزرجي، وحازم جواد، وصلاح عمر العلي) عرفوا صدّام عن قرب، والرابع (أحمد الشلبي) عارضه وأسهم في إرساله إلى حبل المشنقة.
في كتاب آخر قبل سنوات لعلاء بشير، الطبيب والفنّان التشكيلي العراقي، الذي عمل كطبيب خاص لصدّام وكبار مساعديه، نطل على جانب من خطة اجتياح الكويت. فقد أمر حسين كامل أن يبدأ الاجتياح بطلائع من طائرات الهليوكوبتر، شريطة أن تطير على ارتفاع منخفض.
وكانت النتيجة أن العشرات من طائرات الهليوكوبتر اصطدمت ببعضها وتحطمت لأن تحليقها على ارتفاع منخفض أثار موجة هائلة من الغبار، فانعدمت الرؤية، كما اصطدم البعض الآخر بأعمدة الكهرباء.
المهم أن سلاح الجو العراقي خسر بعضا من أفضل طياريه، وأفضل حوّاماته لأن حسين كامل لا يفهم شيئا في الشؤون العسكرية. والأهم أن قادة سلاح الجو، الذين تلقوا الأوامر من حسين كامل حذروا من مغبة الطيران على ارتفاع منخفض في الصحراء، لكنه رفض الاستماع لنصائحهم، ومرافعاتهم العسكرية، وأصر على تنفيذ الأوامر. فنفذوا ومات طيارون وجنود عراقيون، وتحطمت طائرات، لأن أحدا في جمهورية صدّام لا يملك الحق في الاعتراض، حتى ولو كان ضابطا محترفا، وكانت لديه خبرات عسكرية يستطيع التدليل عليها بشهادات من أكاديميات محترمة.
لا يحتل هذا النوع من الأخبار صدر الصفحات الأولى في الجرائد، وغالبا ما يطويه النسيان، إذ يهتم المحللون بالأشياء الكبيرة. ومع ذلك، مَنْ قال إن عدم إشراك رئيس أركان الجيش، ووزير الدفاع، في التخطيط لعملية عسكرية بحجم احتلال الكويت يدخل في باب الأخبار الصغيرة؟ ومَنْ قال إن تمكين شخص بلا مؤهلات من إصدار أوامر تمس حياة آلاف الجنود والضباط يندرج في باب الأشياء الهامشية والصغيرة؟
ثمة ما يشبه لوحة سوريالية، لكن هذا ما يحدث في ظل أنظمة شمولية على رأسها أشخاص يعتقدون بأنهم رُسل العناية الإلهية. وقد كان صدّام حسين أحد هؤلاء. يقول الخزرجي بأنه أعد تقريرين بعد الاجتياح حذّر فيهما من مخاطر الدخول في معركة غير متكافئة مع الغرب تكون نهايتها تدمير الجيش العراقي، بعد غارات جوية قد تستمر لمدة شهر، فرد عليه صدّام في اجتماع للقادة العسكريين، بعدما سخر من فكرة الغارات الجوية التي تستمر لمدة شهر: “لماذا لا تقول صراحة أنك لا تريد أن تحارب”. وفي صبيحة اليوم التالي أُقيل رئيس الأركان من منصبه.
كانت حسابات صدّام بأن الأميركيين لن يغامروا بالدخول في حرب مع العراق، وإذا فعلوا فلن يستمر القصف الجوي أكثر من بضعة أيام، وبعدها تبدأ الحرب البرية، التي لن تكون نتيجتها في صالح الأميركيين. وبالقدر نفسه كان يقول للقادة العسكريين والسياسيين بأن السر يكمن في قوّة الأعصاب، فمن يرفّ جفنه أولاً يُهزم، لذلك لن يرفّ جفنه أمام الأميركيين.
الحكم على الأشياء بأثر رجعي غير مفيد. ومع ذلك، لم يفكر عاقل بعد اجتياح الكويت لا في العراق، ولا خارجه، بأن المعركة ستكون في صالح العراق. وأذكر في هذا الصدد بأنني التقيت بالمرحوم صلاح خلف (أبو إياد) الذي عاد من العراق قبل اندلاع الحرب بأيام قليلة وتصادف سقوطه صريعا في تونس، على يد قاتل مأجور، مع بدء العمليات العسكرية.
سألته يومها: هل التقيت بصدّام حسين؟
قال: نعم.
قلت: وماذا يقول؟
قال: يقول لن يحدث لي ما حدث لعبد الناصر في العام 1967، لن يتمكنوا من تدمير طائراتنا وهي رابضة في المطارات، لقد أعددنا العدة لكل شيء وسننتصر.
قلت لأبي إياد: وما رأيك في هذا الكلام؟
قال: أمر من أثنين، إما أنه تلقى مكالمة هاتفية من السماء، أو أنه مجنون.
وبقدر ما يتعلّق الأمر بكتاب شربل، فإن محاوريه الثلاثة الأوائل كرروا عبارات من نوع أن صدّام كان مصابا بعقدة عبد الناصر، تصوّر بعد انتهاء الحرب العراقية ـ الإيرانية بأنه أصبح زعيما للأمة العربية، وبأن القدر وضع على عاتقه مسؤولية قيادة الأمة، وبأن الشعوب العربية ستهب إلى نجدته إذا ما تعرّض العراق للخطر.
مرّة أخرى: كيف يمكن لشخص أن يصل إلى قناعات كهذه إذا كانت نتيجة الحرب مع إيران وصول ديون العراق إلى سبعين مليار دولار، رغم أنه دخل الحرب ولديه فائض يبلغ ثلاثة وأربعين مليار دولار، وإذا وصل حجم ما أنفقه العراق في تلك الحرب إلى ثلاثمائة وخمسين مليار دولار؟ وكيف يمكن لشخص أن يصل إلى نتيجة كهذه إذا دفع في الميدان ما يصل إلى ربع مليون من القتلى والأسرى والمفقودين؟
كل ما حدث منذ صعود صدّام إلى سدة الحكم في العراق وحتى وصوله إلى حبل المشنقة معروف. ولكن تبقى الكثير من التفاصيل الصغيرة، والحقائق التي يطويها النسيان، خاصة ما يتعلّق منه بشخصية صدّام وطريقة حكمه للعراق، وهذا ما نعثر على جانب منه في كتاب شربل، الذي ما أن نفرغ منه حتى نكتشف معنى العبارة التي وردت في العنوان: صدّام مر من هنا.
Khaderhas1@hotmail.com
كاتب فلسطيني يقيم في برلين
جريدة الأيام
صدّام مر من هنا..!!
لقد عريت تلك الحقبة النتنة بجهدك الموضوعي ونطق كتابك بلسان بلدمزقته حفنة من الأراذل كانت نهايتهم المذلة وفرارهم المخزي مصداقاً لما كتبت عنهم ولكن لا حياة لمن تنادي يا سيد شربل