منذ سنوات قليلة، ارتقت معارف ومشاعر البشر في الدول المتقدمة حضاريا إلى الحد الذي صاروا يحتفلون فيه بيوم الأرض Earth Day ويوم الشجرة، وهذا جميل. ولكن الأجمل هو أن قدماء المصريين كانوا يحتفلون بالطبيعة قبل خمسة آلاف سنة! وذلك في اليوم الذي ما زال المصريون يحتفلون فيه إلى الآن بشم النسيم. وهكذا يستمر قدماء المصريين في تحقيق الفرائد والافتتاحات الحضارية. إذ نكتشف كل يوم كم كان هؤلاء في حالة سبق باهر لكل معاصريهم وما زالوا يقدمون للبشرية القدوة في كثير من مجالات الحياة والمعرفة والعلوم والفنون والمعتقدات.
ومن فرائدهم كما هو معروف أنهم أول من ابتكر الأبدية وأبدع فكرة الخلود، عبر إيمانهم الجميل المثير بوجود الروح وعودتها مرة أخرى للجسد بعد الوفاة لتحقيق البعث والحياة مرة أخرى. وهي الفكرة التي جاءت بها الأديان السماوية بعد ذلك. ولا أدري كيف يستطيع أي إنسان مؤمن بأي من الأديان السماوية أن يتجاهل تلك العبقرية المصرية القديمة التي أبدعت وآمنت بالحياة الأخرى وبالثواب والعقاب قبل نزول الرسالات وقدوم الرسل. لولا التعصب الديني والانغلاق الذهني وضيق الأفق المعرفي الذي يمنع الكثيرين من القدرة على التفكير الحر والتقييم الحيّ لعرف كافة المؤمنين بكافة الأديان قدر المصريين القدماء، واعترف لهم بأنههم أول من قدم رؤية كونية متكاملة تفسر الحياة والموت والطبيعة والكون والخالق والمخلوق، رؤية تتمحور حول شغف بالغ بالحياة والمحبة والطبيعة والفرح والجمال.
والمؤسف حقا أننا نجد اليوم في أدبيات التزمت والانغلاق الديني لدى بعض المصريين المسملين – وليس كلهم – نجد مشاعر عدائية رافضة للحضارة المصرية القديمة – حضارة أجدادهم – على أساس أن أجدادهم كانوا كفارا من عبدة الأصنام! ووصل الجهل ببعضهم إلى حد المناداة العلنية في كتيباتهم بتحطيم الآثار المصرية التي ليست سوى “أصناما”! هذا ما يفعله الشطط الديني الذي يصل إلى حد تحريض الإنسان المصري ضد أعظم الإنجازات الحضارية في تاريخه نفسه، فيصبح عدو نفسه، وهذا دائما هو قدر الجاهل!
لم تعد مصر تحتفل بشم النسيم بالشكل الذي كانت تحتفل به في أيام طفولتي وصباي، قبل سقوط العقل المصري في دوامة الهوس الديني الذي اقنع بعض ضحاياه بأن كل ما هو غير ديني فهو حرام، الأعياد والأفراح وتقاليد البهجة والمتعة والمسرّة والفنون كلها حرام، بل رأي بعضهم أن الضحك – وخاصة للمراة – حرام! وبعد حوالي ثلاثين سنة من هذه الظلمة أرى ملامح التحرر الخجول من هذا الانغلاق والتنكر للذات، فنجد الإعلام المصري يتحدث عن شم النسيم مرة أخرى. ولكن العيد الحضاري القديم لم يعد بنفس بهجته وبهائه، لقد تشوه كما تشوهت أشياء كثيرة أخرى في مصر نتيجة للتشوه الفكري الذي أصاب جيلين أو ثلاثة أجيال، منذ السبعينيات من القرن الماضي، لهبوب الرياح الوهابية من الصحراء على الأراضي المصرية، فإذا بالمصريين يتنكرون لحضارتهم العتيدة ويحاكون ثقافات لم تعرف الحضارة في مظاهر اللبس والشكل والسلوك والعادات.
أما شم النسيم، ذلك العيد البهي، فقد كان يرمز عند قدماء المصريين إلى بعث الحياة، إذ تنهض فيه الأرض من موتها الشتوي وتنتفض ناثرة من جسدها الفائر ألوان الزهر والطير والعطر، فتشب الزهور وتندلع ألوانها الحمراء والصفراء كالحرائق البراقة فتخلب لب الفراشات التي تهيم بها وترشف من شفاهها شهد الحياة وعصير الفرح والمرح والمحبة.
ولذلك اعتقد المصريون القدماء أن هذا اليوم هو أول الزمان، هو بداية عمر الكون، هو طفولة الطبيعة، فياله من اعتقاد باهر وإيمان بديع!
وإنني أدعو وزارات الثقافة والسياحة والشباب والأسرة وغيرها إلى الاشتراك الحميم في إعادة مصر إلى روحها عن طريق إعادة الاهتمام والاعتبار لعيد شم النسيم، باعتباره عيدا للاحتفال بالطبيعة والأرض والحقول والاشجار والأزهار والربيع والبعث والخلق. إنه عيد كل المشاعر والمآثر الجميلة في الحياة، عيد ميلاد الكون!.
ومشاركة في هذا العيد السعيد، أقدم هذه الباقة من الأشعار التي هي مزامير لشم النسيم.
مزامير لشم النسيم
صباح جديد
ونور مبين
إذن فالفؤاد سيعشق
ما شاء من ياسمين
والروح تخفق للقادمين وللرائحين
في انتظار الطيور التي رحلت
ربما رجعت
بعد حين !
صباح جديد
إذن سوف أخلع ثوب السنين التي اهترأت
وألبس هذا السحاب البعيد
وأعدو إلى مدن وبلاد
لها لوعة وأنين
وأقول إفرحي يا بلاد إفرحي
كيف لا تفرحين؟!
صباح جديد
والشمس صاعدة للأعالي
إذن كل شيء جميل ببالي
واليوم عيد!
……………..
تعلمت منك القيامة
تعلمت منك انتظار الحمام الذي لا يعود
والسير في الليل من غير قصد
أداوي عواء الجسد!
تعلمت منك انتظار المحبين
الذين يروحون في فرحة
ويجيئون في فرحة
في صباح الأحد!
تعلمت منك انتظار القطارات
والحافلات التي تتحرك بالراحلين
قبل اكتمال العدد !
تعلمت منك انتظار المواعيد
حين تأتي محملة بالمزيد
على غير موعد
وحين تضيع على غير موعد
فنفقدها .. للأبد!
تعلمت منك مرافقة البرق والرعد
والرحيل بدون أحد
من بلد لبلد!
وأنت .. كأنك أمي..
تمدين لي اليد في المهد
فأسأل أن تأخذيني بحضنك
لكي تسمعيني الأساطير
وإن مت بين يديك من الجوع والبرد
أسأل أن تنفخي من لهاثك في صورتي
وتضمي اليك الجسد
فيولد لي في الفضاء شهاب منير
وأحيا لأمنحك العهد:
إني سآتي قريبا
على سحب الوعد
أحمل باقة ورد ومزامير
لأني تعلمت منك الكثير
تعلمت منك المحبة ، والحق ، والنور
وتمنيت لك المرتجى والسلامة
تعلمت كيف أموت على ساعديك
وتعلمت القيامة!
……………………..
fbasili@gmail.com
• كاتب مصري- الولايات المتحدة