إنّ للسّلام ثمنًا، اعتاد ”دعاة السلام“ القول في ديارنا. إنّهم يقصدون بذلك دفعَ ثمن السلام بعملة هي كلّ ما تصبو إليه الصهيونية، أي الأرض. بكلمات أخرى، الثمن هو انسحاب من المناطق، إنهاء الاحتلال وإقامة دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل. لكن، ليس من قبيل الصدف أن يمرّ عقدان من المحادثات بين الإسرائيليين والفلسطينيين دون أن يثمرا حتى الآن أيّ اتفاقية سلام. كما إنّ نهاية الصراع في هذه الأرض المُدجّجة-الموعودة الممتدّة من البحر إلى النهر لا تلوح في الأفق. إذ إنّ مبدأ الاستيلاء على دونم تلو دونم هو ”الصخرة“ التي انبنت عليها الأسس الصهيونية ومَحَجّتها.
الحركة الصهيونية لم تر في يوم من الأيّام سكّان هذه البلاد. لقد كانوا شفّافين في نظرها. المقولة الشهيرة ”شعب بلا أرض إلى أرض بلا شعب“، والتي تبنّاها يسرائيل زانغڤيل وكثيرون من قيادات الحركة الصهيونية، تُلخّص بصورة حادّة وواضحة للغاية تعامل الصهيونية مع سكّان البلاد العرب.
بيد أنّ الواقع على الأرض سرعان ما صفع وجه المهاجرين، حاملي الحلم الصهيوني، الذين كانوا يطمحون إلى إنشاء بيت قومي يهودي: ”أرض-إسرائيل ليست فارغة… في غرب الأردن يوجد ثلاثة أرباع مليون مواطن“، صرّح بن-غوريون لدى رؤيته الواقع في البلاد.
بعيون عربية، ”اليهود الجدد“ الذين وصلوا من وراء البحار واستوطنوا في البلاد كانوا منظّمين جدًّا، كما إنّ شهادات من الميدان أشارت إلى بداية التوتّر بينهم وبين سكّان البلاد العرب: ”إنّ الذي يبقى راسخًا في الأذهان أنّ هؤلاء الأجانب يزاحمون بالمناكب أبناء الوطن ويقاسمونهم خبزتهم فيزداد التنازع عليها ويكثر الهراش والمراش بخصوصها“، تُخبر مجلّة العرب العراقية قراءها سنة 1911.
إذن، والحال هذه، فإنّ الصدام بين الصهيونية التي طمحت إلى اقتناء الأراضي، بناء مستوطنات وإقامة بيت قومي لليهود في البلاد، وبين سكّان البلاد العرب كان حتميًّا. لقد رأى بن-غوريون هذا الصدام بوصفه صدامًا بين ”ثوريّة“ صهيونية من جهة، وبين ”محافظة“ عربية من جهة أخرى. إنّ مصلحة ”غير-اليهود“، بحسب تعبير بن-غوريون، هي المحافظة على النظام القائم، مقابل المصلحة الثورية لليهود التي تنشد الوصول إلى خلق جديد، إلى تغيير في القيم، إلى الإصلاح والبناء.
*
قبل سنوات، وفي خضمّ مباحثات أوسلو التي بدت انطلاقتها واعدة، إلا أنّها أخذت تتعثّر في نقاشات حول تفاصيل ليست جوهرية، كانت لي محادثة منفتحة مع أكاديمي في الجامعة العبرية. كان مُحدّثي سعيدًا بكلّ عثرة تظهر في طريق المفاوضات وفرحًا لكلّ تأخير في العملية السلمية. ”السلام”، قال لي، ”ليس جيّدًا لإسرائيل“. عندما حاولت الاستفسار عن مغزى كلامه لم يتردّد في ذكر ما قضّ مضجعه: ”لقد جمعت الصهيونية هنا خليطًا بشريًّا من ثقافات مختلفة ومن شعوب مختلفة. ما يفرّق بينهم أكبر ممّا يجمع بينهم، ولم ينشأ بعد هنا شعب“ قال الرجل، وأضاف: ”الشعوب تنشأ خلال الصراع مع عامل خارجي. يجب أوّلا بناء شعب هنا“.
على ما يبدو، فإنّ الحاجة إلى خلق وبلورة شعب صحيحة فيما يتعلّق بكلّ من الإسرائيليين والفلسطينيين على حدّ سواء. صحيح أنّ ساكنة إسرائيل-فلسطين قد ازداد عددها وتبلع حوالي اثني عشر مليون شخص. لكن، لا يوجد في هذا الخليط البشري أيّ شعب يُذكر. إنّ مأساة سكّان البلاد يمكن أن تُنسب، إذن، إلى انعدام الهويّة القوميّة المبلورة في صفوفهم. هذا هو العائق الأكبر الذي يواصل تأخير حلّ النزاع اليهودي-العربي، الإسرائيلي-الفلسطيني.
الأمر اللافت في هذه الحكاية هو أنّ وجود أحد المجتمعين هو مركّب مركزيّ جدًّا في تعريف المجتمع الآخر. إذ أنّه، بانعدام وجود الواحد يفقد الثاني المركّب الأساسي في هويّته. بكلمات أخرى، إنّ وجود هويّة فلسطينية مرتبط ارتباطًا وثيقًا بوجود هويّة إسرائيليّة، والعكس صحيح أيضًا. إنّ الهويّة اليهودية لا تقف مقابل هوية فلسطينية، وإنّما مقابل هوية دينية أخرى، مسيحية، إسلامية وما شابه ذلك. بوسع الهوية اليهودية أن تقوم خارج هذا المكان، كما حصل ذلك فعلاً على مرّ التاريخ وكما لا يزال يحصل في هذه الأيّام. كذلك، بوسع الهوية العربية، أو الإسلامية، أن تقوم خارج هذا المكان. بكلمات أخرى، فقط الهوية الإسرائيلية من جهة والهوية الفلسطينية من جهة أخرى تحتاجان إلى هذا المكان كي تتحقّقا.
ليس هذا فحسب، بل يمكننا القول بالإضافة إلى ذلك، إنّ الصدام هنا هو صدام بين مفاهيم متضادّة حول كلّ ما له علاقة بمصطلحات مثل: الشعب، الأمّة، والوطن.
كثيرًا ما نسمع في البلاد ذلك الادّعاء المشروخ والقائل بأنّ للعرب دولاً كثيرة، بينما إسرائيل هي دولة اليهود الوحيدة. صحيح أنّ للعرب دولاً كثيرة. لكن، من كثرة الدول العربية لا نستطيع رؤية ”الدولة العربية“. إذ أنّ العروبة ليست تعريفًا قوميًّا سياسيًّا، كما إنّ الفلسطينيين ليسوا مواطنين في أيّ دولة مسمّاة عربية، ولا يحملون جواز سفرها. لليهود هنالك دول كثيرة، وتعدادها يفوق عدد الدول العربية وهو كعدد جوازات سفر الدول القومية التي يحملها يهود إسرائيليون في جيوبهم أو يطمحون إلى حملها. مقابل ذلك، لا يوجد لدى الفلسطينيين جواز سفر غير ذلك الذي تصدره السلطة الفلسطينية بإشراف الاحتلال الإسرائيلي، أو هذا الإسرائيلي الذي تصدره وزارة الداخلية لمواطني إسرائيل العرب.
لقد قامت إسرائيل عندما نقلت صهيونية بن-غوريون اليهود إلى المرحلة القومية بقبول مشروع التقسيم، بينما كان الفلسطينيون لا يزالون في مرحلة سابقة للقومية كجزء من النسيج العربي في المنطقة. أمّا الآن، وبعد عقود كثيرة من الصراع، فقد انقلبت الآية. لقد رجع اليمين الإسرائيلي بكافّة تياراته إلى مفهوم أرض-إسرائيل، الأرض المقدّسة، وهو مفهوم ديني سابق للقومية. إنّه مفهوم مواز لمفهوم أرض-فلسطين الأسلاموي من الجانب العربي.
مقابل ذلك، يحاول التيّار الفلسطيني المركزي الدخول في المرحلة القومية بقبول مبدأ التقسيم وإقامة دولة قومية إلى جانب إسرائيل. التراجيديا الكبرى هي أنّ الجمهورين، الإسرائيلي والفلسطيني، لم يكونا في يوم من الأيّام في تواؤم وتزامن فيما يتعلّق بمصالحهما “القومية“ المعلنة.
لأجل إنهاء النزاع ثمّة حاجة، إذن، إلى تواؤم وتزامن بين الطرفين. من جهة أولى، يتوجّب على اليهود أن يعودوا إلى كونهم شعبًا يعيش في حدود ودولة معترف بهما، وليس مجرّد تشكيلة من المجتمعات الدينية المنبطحة بلا حدود على قبور ”صدّيقين“ مزعومين، أو آباء ميثولوجيين. من جهة أخرى، على الفلسطينيين أن يبدؤوا بالكون شعبًا وأن يتصرّفوا كشعب مع قيادة تتخذ قراراتها بصورة ديمقراطية مُلزمة لكلّ الّذين يتحفّظون على هذه القرارات.
خلاصة القول، دون خلق شعبين حقيقيين يتصرفّان بما يتلاءم مع ذلك، ستظلّ أرض إسرائيل-فلسطين تعجّ بخليط من المجتمعات والقبائل، اليهودية والعربية، تتصارع فيما بينها حتّى تنزفَ دمًا.
*
نشر: ”هآرتس“، مؤتمر إسرائيل للسلام
***
For Hebrew, press here