خذلتكَ الأمنيات يا شقيقي، فكم تمنّيتَ أن تعودَ بعد رحلة علاجكَ الأخيرة إلى وطنك وابنك وزوجتك وأخوتك وأصدقائك وأحبابك، تبادلهم دفء العناق ولهفة اللقاء، وفرحة السلامة وبهجة الابتسامات، وبوح الحكايات الطويلة، ولكنها الأمنيات التي انساقت خائبةً إلى هاوية الخذلان..
كم خذلكَ الصبرُ يا شقيقي، فكم كنتَ وفياً معه وله، جاملتهُ وتجمّلتَ به، أرضيته مراراً، وارتضيت به رفيقاً عظيماً، وأخفيتَ عنه آلامك وأوجاعك وتأوهاتك، ولكنه خذلك، لم يستطعْ أن يدفع عنكَ لهاثات الموت..
وكم خذلكَ الأمل يا شقيقي، كنتَ ودوداً معه، ووفياً له، وكنتَ مفعماً به إلى حد المستحيل، وكنتَ تستدرجهُ إليك دائماً، صديقاً ملهماً ومؤنساً من براثن اليأس والمرض والضجر والقلق، وتُطعمهُ من قلبكَ روح الحياة، كان الأملُ دائماً في حساب يومكَ يطفحُ بالغد الأجمل، بالغد الذي يجب أن يأتي كما كنتَ تشتهيه، حنوناً وأنيقاً وزاهياً ومتفتحاً بالضوء والبهجة، هكذا كنتَ ترى الأمل، تراه غداً أجملَ يأتيك بالأمنيات المشرقة، ولكنه خذلك، لم يستطعْ إلا أن يكون متفرجاً على رحيلك، لم يستطع أن يدفع عنكَ عتمة الموت وبطشه، وهو يراه زاحفاً عليك، سالباً منكَ أنفاسك، وخانقاً نبض الحياة في أوردتك..
سبعٌ من السنين المؤلمات، كنتَ فيها يا شقيقي تحملُ إعاقتك، ترتحل بها من ألم إلى ألم، ومن وجع إلى وجع، ومن سفر إلى سفر، إلى أن انتهى بكَ مشوار الآلام أخيراً في لندن، لندن كانت محطتكَ الأخيرة، وفيها أودعتَ ضحكتكَ الأخيرة وحكايتكَ الأخيرة ودمعتكَ الأخيرة، هذه المرة من ترحالك البعيد هنا وهناك خذلتكَ لندنُ يا شقيقي، لم تستطع أن تمنحكَ أمل العودة إلى وطنك، وسلبتكَ منِّي ومن أحبابك، وأوجعتني طويلاً في مركز القلب..
يا شقيقي كم كنتَ مفعماً بالحياة والأمل والصخب والحكايات والذكريات، لم أركَ يوماً تستسلم للضعف والمرض والإعاقة، كنتَ تتحاملُ على كل ذلك، وتمضي مسرفاً في ابتهاجات يومك، وفوق كل ذلك كنتَ تواجه ذلك بالضحكة والابتسامة والتعليقات الساخرة، حتى أن طبيبك الانجليزي الذي عاينك في بداية علاجك، قال لك بشيء من المرارة : ما حصدته من انكسارات جسدك المتتالية خلال سنين اعاقتك كثير ومؤلم، فقلتَ له وابتسامة مظفرة تضيء وجهك : لا بأس، فلا زلتُ على قيد الحياة، أتفجّرُ بالأمل والتفاؤل والحلم، وأمضي جامحاً في عثراتها..
كنتَ دائماً تتجاوز تعنتات المرض بأمل جديد وعزيمة نافذة وجسارة واقدة، كنتُ أرى ذلك في عينيك، وفي حديثك، وفي تصميمك، فكم كنتَ تكره التجميد والاقتعاد في سرير المستشفى، دائماً كنتَ تقول لي : أن السرير لا يجلبُ سوى الضجر والكآبة والملل، فكنتَ تخرجُ منه سريعاً إلى كرسيكَ المدوّلب الذي تصالحتَ معه طوال سنين إعاقتك، والذي أحببته لأنه لم يخذلك يوماً، وفي كل مرة حينما كنتَ توصي بواحد جديد من السويد، كنتَ تهتم بتفاصيلَ صناعة أجزائه، وتُخبرني متحمساً عن مميزاته الجديدة، وكأنه قطعةً من جسدك وقلبك، وكأنه نبضكَ الذي يشتعلُ بالتوثب في أعماقك..
في أيام العطل الأسبوعية كنتَ حين تهبط في كرسيك المدوّلب، تنفض عنكَ من فورك تعب السرير، وأوجاع الذاكرة، ومرارة الإعاقة، ترتدي قفازك العملي، وتتلحفُ شالك الصوفي، وتعتمرُ قبعتكَ الصوفية، تطلبُ منِّي أن نسرع إلى الخارج، إلى حيث الهواء والمطر والجمال والناس والصخب، فكنا نجوب معاً شوراع لندن وأسواقها وطرقاتها ومعالمها ومقاهيها الضاجّة بالرشاقة والموسيقى والفتنة والحلم، تطلق تعليقاً هنا وسؤالاً هناك، وتتقلّد ضحكةً هنا وترسلُ بهجةً هناك، وحينما لا نجدُ مفراً من مطاردة البرد لنا، كنا نلوذ بأي مقهى يصادفنا، نمتشقُ دردشةً قصيّة تفيض بها حكاياتنا المترعة بنزق الذاكرة..
وفي الأيام العادية كنا نخرجُ في كل مساء تقريباً إلى مقهانا المعتاد القريب جداً من المستشفى، بعد أن تفرغ من برنامجك التدريبي، هناك كانت النادلات تستقبلنكَ دائماً بابتساماتهن بمجرد أن تطلُّ عليهن، وأنتَ تشقُّ بكرسيك عباب المقهى، وبدورك كنتَ تبادلهن بياض الابتسامة ورهافة الود الشفيف، وكم كانت النادلة الشابة فكتوريا سعيدة حينما أفصحتَ لها عن اعجابك بتسريحة شعرها الجديدة، فأسرعتْ مسرورة تخبرُ زميلاتها في المقهى عن اعجابك بتسريحتها، وما أن نكون هناك حتى تشرعُ من فورك بممارسة لعبة البلياردو، التي كنتَ شغوفاً بها، وأنتَ تمخرُ منتشياً أطراف طاولتها بكرسيك المدوّلب، وفي كل مرةٍ كنتَ تعرفُ كيف تلحق بي هزيمة ثقيلة، لأني لا أستطيع مجاراتك في هذه اللعبة..
أما في الأيام التي كانت تقام فيها مباريات الدوري الإنجليزي الممتاز لكرة القدم، أو مباريات دوري أبطال أوروبا، نكون أول الواصلين للمقهى لمشاهدة المباريات، نقتعد إلى طاولتنا المعتادة في مواجهة الشاشة الكبيرة، يجرفنا الحماس الكروي للاستمتاع بفنون الكرة العالمية، وكنا نحرص على متابعة فريقنا الانجليزي العريق ( ليفربول ) حين يكون طرفاً في أي مباراة، فكنتَ تخبرني أولاً بأول عن مواعيد المباريات ومعرفة أوقاتها عن طريق حاسوبك الذي كان بمثابة صديقك المتفاني في التواصل معك..
أينما كنتَ تحطُّ بأوجاعكَ يا شقيقي، كنتَ تباغت المكان بفسحةٍ من الألفة والمرح والبهجة والشغب الجميل، كنتَ تُشغل فراغ المكان بحركتك وحكاياتك ومشاغباتك وصداقاتك، وتنفر من المكان الذي لا يستجيب لك، كنتَ تراه مملاً وكئيباً وقاسياً أيضاً، لأنكَ تعودت أن تحيا في المكان الذي تمده بالحميمية والود والعفويّة ويمدكَ هو الآخر بالدفء والتواصل والمحبة والصداقة، كنتَ هكذا في كل مكان ارتحلت إليه ومكثت فيه، فسرعان ما تصبح صديقاً ودوداً لطاقم التمريض، تجالسهم وتبادلهم الضحك والأحاديث الشيّقة، تحفظ أسماءهم، وتسأل عنهم، وتتفقد مَن يتغيّب منهم، وتحزن عندما تودعهم، وهذه المرة في لندن، ما أن نزلتَ في المستشفى، حتى كنتَ ذاك الرجل الذي أصبح يعرفه جميع طاقم التمريض في الجناح من تحركاته وتعليقاته وأحاديثه ومزاحاته ومشاغباته الجميلة، أحببتهم وأحبوك، وحزنوا كثيراً حينما غادرتهم في صمت مفاجيء..
كم كنتَ تشعرُ بغربةٍ فادحة يا شقيقي وأنتَ تقضي أيام علاجك في لندن، بعيداً عن كل الذين تحبهم ويحبونك، كانت الغربة تأكل أجزاءً من قلبكَ، كنتُ أراها في عينيك تنضحُ بالشجن الرهيف، لأني أعرفُ أن أسعد لحظاتك في الحياة، هي تلك التي تريد دوماً أن تبقى فيها بين عائلتك وأحبابك وأصدقائك، ممتلئاً بالدفء والمحبة والأمنيات، فكنتَ تُمعنُ في أن تبقى على تواصل دائم هاتفياً مع أحبابك في الكويت كل يوم، لأنكَ كنتَ تريد لهذه الغربة الموحشة في أعماقك أن تتضاءل وتتلاشى، ولكنها أبتْ إلا أن ترحلَ بكَ بعيداً، وبعيداً..
كاتب كويتي
tloo1996@hotmail.com