هل يذكر أحد تحفة برتولوتشي السينمائية “آخر الأباطرة“ في العام 1987؟ ما يعنينا، الآن، يتمثل في جانب من حياة بويي، آخر أباطرة الصين، الذي وضعه اليابانيون على رأس دولة وهمية أسموها منشوكو، بعد احتلال منشوريا في العام 1931، ففي هذا الجانب نسترق النظر إلى الإمبراطورية، بوصفها قوّة عاتية، بلا قلب، تطحن المصائر الفردية والجمعية لبني البشر.
وقد شاءت المصادفة أن يتجلى هذا كله في المصير الفردي لشخص اعتلى عرش الصين طفلاً، لتجعل منه قوى جامحة ضحية مثالية: ما بين سندان القرن العشرين الذي أنشب مخالبه في أجساد إمبراطوريات قديمة أثقلتها تقاليد بالية، وصعود النزعة الجمهورية الراديكالية من ناحية، ومطرقة المشروع الإمبراطوري الياباني من ناحية ثانية.
ولسبب ما، وهذه مفارقة تاريخية من عيار ثقيل، يحق لنا أن نتخيّل، لا بنوع من الفنتازيا، بل بالاستنتاج المنطقي، أن مصير بلادنا كان، أيضاً، هناك. هذا ما لم يخطر على بال برتولوتشي، بالتأكيد، ولكن كتاباً صدر في العام 1979 بعنوان “خطة فوغو: القصة غير المعروفة عن اليابانيين واليهود في الحرب العالمية الثانية“ لمارفن توكاير، وهو حاخام بالمناسبة، يُضفي على الاستنتاج قدراً من الواقعية.
في مطلع الثلاثينيات كانت سحب الحرب العالمية الثانية تلوح في الأفق، ومعها المخاطر المحتملة لصعود النازي في ألمانيا، مع ما ينطوي عليه أمر كهذا من ضائقة تنتظر اليهود، ومن فرص قد توفرها الحرب للحالمين بالتوسّع، وإنشاء إمبراطوريات جديدة على أنقاض عالم أوشك على الانهيار.
ذكرنا، قبل قليل، أن الإمبراطورية (مطلق إمبراطورية) في صعودها، كما في انهيارها، قوّة عاتية، ونُضيفُ أن هذه القوّة، وإن اتسم صعودها بكفاءة عالية في مجال التخطيط، واستثمار الموارد، إلا أنها لا تقوم، بالضرورة، على مبررات عقلانية، فقط، بل كثيراً ما نعثر في دوافعها على أوهام واستيهامات، وسوء فهم، ومقامرات، وحسابات خاطئة.
كان اليابانيون، عشيّة الحرب العالمية الثانية، من الحالمين بالإمبراطورية، وبدا احتلال منشوريا خطوة أولى على طريق واعدٍ وطويل. وفي هذا السياق، تفتقت أذهان بعض مهندسي المشروع الإمبراطوري، في معرض التفكير والتدبير، عن فكرة تبدو استثنائية تماماً: العمل على كسب ود اليهود بإنشاء وطن لهم في منشوريا.
ومن المفيد قبل الخوض في التفاصيل الكلام عن حقيقة أن مصدر الفكرة لم يكن اقتراحاً من جانب جهة يهودية، أو صهيونية، ولا كان نتيجة موضوعية لصلة من نوع ما بالمسألة اليهودية، بل كان خلاصة لجملة تصوّرات كونّها اليابانيون عن اليهود بما يشبه قناعات ثابتة عن نفوذهم المالي والسياسي في العالم.
بدأت تلك التصوّرات مع قتال اليابانيين إلى جانب الروس البيض المعارضين لثورة البلاشفة في روسيا، ومنهم سمع اليابانيون عن نفوذ اليهود في الثورة الروسية، وعن “بروتوكولات حكماء صهيون“، التي يسترشدون بها للسيطرة على العالم. كانت “البروتوكولات“ من اختراع مخابرات روسيا القيصرية، وكان الكلام عن نفوذ اليهود أسطورة ذات نفوذ في أوساط كثيرة. ولنذكر، مثلاً، سلسلة مرافعات الصناعي الأميركي هنري فورد في عشرينيات القرن الماضي عن “اليهودي العالمي“.
ويبدو أن اليابانيين في ثلاثينيات القرن الماضي، أخذوا تلك الأساطير على محمل الجد، وانطلقوا منها لصيد أكثر من عصفور بحجر واحد، فرشوة اليهود بإنشاء وطن لهم في منشوريا، خاصة في وقت تنتظرهم فيه ضائقة جدية تلوح في الأفق، تعني جلب العديد من اليهود الأوروبيين، مع أموالهم، ومهاراتهم، وعلاقاتهم، إلى منشوريا، كما تعني كسب ود اليهود الأميركيين، الذين تصوّر اليابانيون أن لهم نفوذاً واسعاً في الأوساط المالية، والإعلامية، والفنية، في أميركا، وبمثل نفوذ كهذا يمكن تحسين صورة اليابان هناك وفي العالم، والحيلولة دون انخراط أميركا في الحرب.
لذا، انكبت وزارتا الحرب والخارجية في طوكيو، إضافة إلى إدارات حكومية ذات صلة، على وضع خطة أطلقوا عليها اسم “فوغو“. ومصدر التسمية سمكة شهية الطعم، وفاخرة، على موائد اليابانيين تحمل الاسم نفسه، والمشكلة أن هذه السمكة سامّة، أيضاً، وهذا يستدعي نزع سمها، وإعدادها للأكل بطريقة خاصة. وبالتالي، كان مشروع توطين اليهود، في منشوريا، يشبه سمكة كهذه، إذا نجح المشروع فازت الإمبراطورية بالجائزة، وإذا فشل تكبّدت خسائر فادحة.
تواصل إعداد الخطة ما بين 1934 ـ 1940، وشمل وضع مخططات هيكلية لمدن كاملة، بما فيها الطرق، والمباني، والمستشفيات، ورياض الأطفال، والحدائق العامة، والمناطق الصناعية. وفي إطارها تمكنوا من جلب أعداد قليلة من اليهود الأوروبيين، ولكن المشروع فشل لأن قيادة اليهود الأميركيين، في ذلك الوقت، لم تجازف بالتحالف مع اليابانيين ضد المصالح الأميركية في القارتين الأوروبية والآسيوية، وقد حسم دخول أميركا الحرب كل نقاش محتمل في هذا الموضوع.
ويبقى أن نضيف أن الفترة التي اشتغل فيها اليابانيون على مشروع “فوغو“ شهدت، أيضاً، مشروعاً لإنشاء كيان لليهود في أقصى شرق الاتحاد السوفياتي، بدأ الكلام عنه، والإعداد له في العشرينيات، وأُعلن عنه بصفة رسمية في العام 1934، باسم منطقة بيروبيدجان، ذات الحكم الذاتي. ومبرر الكلام عن هذه المنطقة أنها محاذية لمنشوريا، وهذا يعني أن اليابانيين ربما استلهموا المشروع السوفياتي، أيضاً.
أخيراً، يقع آخر الأباطرة أسيراً في قبضة القوّات السوفياتية، في الفيلم، كما في الواقع، وتسقط مستعمرة اليابانيين في منشوريا، أما الإشارة إلى هذا الموضوع، الذي يُعتبر استكمالاً لمقالة الأسبوع الماضي، فتستمد مبررها من حقيقة أن “خطة فوغو“ غير معروفة على نطاق واسع، وأن فيها ما يضيف جديداً إلى الأفكار المُتداولة، وإن يكن بطريقة مجازية، عن سمكة على مائدة الإمبراطورية.
khaderhas1@hotmail.com
- كاتب فلسطيني