كان رئيس الوزراء البريطاني توني بلير من أولى الشخصيات العالمية، التي بادرت الى تهنئة الرئيس الفرنسي الجديد نيكولاي ساركوزي بالفوز الذي حققه، ولفرط سروره ظهر في شريط تلفزيوني، يوجه تهانيه بلغة فرنسية ركيكة. بل ذهب إلى باريس ليشارك في البهجة، وهو الذي لم يفتأ يعبر عن ازدرائه للمواقف الفرنسية الانتقادية من بريطانيا، وموقعها داخل اوروبا، لاسيما دورها المثبط للعديد من الاتفاقات الاوروبية، كالعملة الموحدة، والدفاع المشترك، والسياسة الخارجية الموحدة… إلخ.
والحق انه لو لم يكن بلير يعيش آخر أيامه في السلطة، لكان يجب النظر إلى شهادته الايجابية، واندفاعه المثير للاستغراب نحو ساركوزي من منظور مختلف، ولأصبح الأمر أقل مدعاة للحيرة. أما وانه على وشك الرحيل عن “10 داوننغ ستريت”، فإن رسالة التهنئة والغبطة التي بدت عليه في باريس، تتحولان الى أمر مثير للسخرية، لاسيما ان تحركاته حاولت اضفاء الانسجام المفتقد الى سلوكه في الآونة الأخيرة، حتى انه بدا تواقا الى ان يكون هو نفسه موضع الثناء، لكن صورته ظهرت باهتة خلافا لما امتاز به، لانه بعد الخيبة التي كابدها مؤخرا، بدا مستسلما وعلى قناعة بأن تاريخه الشخصي وصل الى محطته الأخيرة، رغم محاولته الظهور بأنه ليس محرجا، الى الحد الذي يتصوره البعض.
المفارقة هنا (وما اكثر المفارقات في حياة بلير) هي انه، وهو العمالي الذي احدث انقلابا كبيرا في بريطانيا، أبدى تأييدا لانتخاب ساركوزي في وجه الاشتراكية سيغولين رويال، على عكس نظيريه الاسباني والايطالي اللذين شاركا في دعاية رويال الانتخابية، وجاء الى باريس لا ليواسي الرفيقة الاشتراكية العمالية رويال، بل ليشرب نخب انتصار ساركوزي صاحب البرنامج الليبرالي.
كان الشعار الذي رفعه “حزب العمال” سنة 1997 بعد 18 سنة من المعارضة، هو “الامور كلها سوف تتحسن”، وهو قريب جدا من شعار حملة ساركوزي الانتخابية: “كل شيء ممكن مع ساركوزي”. إن بلير الذي سوف يغادر منصبه في نهاية الشهر القادم، يعد من انجح القادة في تاريخ “حزب العمال”، لأن الامور تحسنت فعلا في عهده، ولهذا السبب كان الوحيد الذي فاز في ثلاثة انتخابات متتالية، كما انه استطاع تحقيق انجاز سياسي، عندما نجح في اقناع خصومه قبل مؤيديه بفكرة المجتمع المتضامن، حيث يسعى “المحافظون” اليوم الى تقديم انفسهم كحزب يدافع عن التكافل، والمهم انه غيّر الفكرة التي كانت سائدة في السابق حول “حزب العمال”، من انه عاجز عن ادارة الحكومة والاقتصاد. وبالاضافة الى ذلك حقق “حزب العمال” انجازات غير مسبوقة في السنوات العشر الاخيرة، على رأسها السلام في ايرلندا الشمالية، إذ جلس قائد عمل طويلا في “الجيش الجمهوري” الايرلندي جنبا الى جنب، وفي انسجام تام مع سياسي شعبي بروتستانتي متشدد. هذه واحدة من اكبر انجازات بلير، لكن الناس ينظرون اليه كصانع حرب وليس كصانع سلام. كان بلير في البداية يطمح الى تجاوز مارغريت تاتشر، ثم بدأ يشعر بالقلق من تقدم برنامج الإصلاح، لذا اتجه نحو تحقيق انجازات على المستوى الخارجي، لكن ذلك انعكس عليه سلبا وانتهى الى كذاب ومضلل للرأي العام، واضطر لأن يختصر ولايته الاخيرة، وصار من المؤكد ان مغادرته منصبه اليوم، سوف تفيد “حزب العمال”، بقدر ما افادته الانتصارات في السابق. لقد اصبحت حرب العراق علامة فارقة تلقي بظلالها على فترة بلير، حتى صار البعض يلخص تركته بكلمة واحدة هي العراق.
إن السؤال الذي يطرح نفسه اليوم في باريس هو: هل كان ساركوزي يقرأ بعين بعيدة النظر قصة صعود وهبوط بلير، وهو يستقبله كصديق عزيز جدا في باريس؟
في الحقيقة إن المتضرر الأكثر من زيارة باريس هو ساركوزي وليس بلير، فحتى صديقه الحميم جورج بوش لم يسارع الى مواساته بالقدر الذي أبداه ساركوزي تجاهه. إن رئيس الوزراء البريطاني الذي اضطر الى تقديم استقالته لأسباب داخلية تتعلق بالتضليل، ليس هناك اي سبب مقنع يفسر سبب احتفاء الرئيس الفرنسي الجديد به على نحو بلغ حد التكلف. والطريف في الامر هنا هو التبادل المحتمل في الموقف ما بين باريس ولندن، حيث ان ساركوزي هدد في حال فوزه، بإحداث قطيعة في السياسة الخارجية التي سار عليها جاك شيراك، وخصوصا لجهة الموقف من الادارة الأمريكية، بينما يعتبر غوردون براون خليفة بلير، ان الأولوية الاولى هي القيام بقطيعة مع سياسة سلفه بلير تجاه الادارة الأمريكية.
ومهما يكن من امر، وقبل كل شيء سوف يكون امتحان ساركوزي الفعلي في الداخل، وبالتالي هل في وسع الرئيس الذي تقول صحيفة “لوموند” ان 54 في المائة من العمال صوتوا له، أن يحدث الثورة التي احدثها بلير في بريطانيا؟ من المفترض ان هؤلاء سوف يكونون الاكثر تضررا، أو خوفا من الاصلاحات الليبرالية التي يزمع القيام بها. ومن هنا تبقى اكبر مهمة يمكن ان يواجهها هي قدرة الموديل اليميني الفرنسي على تغيير نفسه من الداخل، من دون ان ينفجر ويثير انفجارات، وفي هذا الصدد تبدو تحديات ساركوزي اقرب الى التي واجهت رونالد ريغان وتاتشر منها الى جورج بوش، وخصوصا لجهة ميله نحو تفكيك القيود نحو حرية اكبر في سوق العمل، وهنا قد يصدق فيه قول الكاتب جيم هوغلاند في صحيفة “واشنطن بوست”: إن ساركوزي مأخوذ بما تفعله الولايات المتحدة في الوطن، اكثر منه إعجابا بأهدافها ووجودها الكونيين.