أثار الانقلاب الحوثي وغيره من التطورات التي شهدتها اليمن مؤخراً العديد من الأسئلة حول النسيج الديني في البلاد، لا سيما العلاقة بين المجتمع الزيدي الكبير ومجتمع الشيعة الإثني عشرية – الطائفة الرئيسية في إيران. يُذكر أن العلاقات المعقدة التي تربط بين هاتين الطائفتين لها انعكاسات كبيرة على السياسة الداخلية للحوثيين، فضلاً على علاقاتهم مع إيران و«حزب الله» اللبناني، والكيانات الشيعية الأخرى في الشرق الأوسط.
فرع شيعي قديم من الإسلام
خلافاً لغالبية المسلمين الذين يعتقدون بأن الإمام علي [بن أبي طالب] هو الخليفة الرابع للنبي محمد، يعتبر الشيعة الإمام علي أول خليفة شرعي، كما ويعتقدون أنه كان يجب على أبنائه أن يأتوا خلفاء من بعده. وبعد اغتيال الإمام علي في القرن السابع الميلادي، نهضت السلالة الأموية وفصلت السلطة الدينية عن السلطة السياسية. ولم يكن ذلك مقبولاً لأتباع الإمام علي، أي الشيعة، الذين كانوا يعتقدون أنه يجب أن يتم تعيين الحكّام من قبل النبي (ص) أو خلفائه مع الحفاظ على أعلى المؤهلات الدينية.
في أوائل القرن الثامن، بعد وفاة الإمام الشيعي الرابع علي بن الحسين، الذي لا ينبغي الخلط بينه وبين الإمام علي أول الأئمة الشيعة، بدأ الشيعة ينقسمون بسبب الخلافة. إذ أن المجموعة المعروفة باسم الزيديين، اختارت الإمام زيد إبن علي ليكون الإمام الخامس. واتجهت مجموعة أخرى – التي أصبحت فيما بعد الشيعة الإثني عشرية وعُرفت بهذا الاسم لأن أعضاءها يعتقدون أن هناك إثني عشر إماماً بالإجمال – إلى اختيار محمد، الإبن الآخر لعلي. ومن الأسباب الرئيسية لهذا الانقسام هو أن الزيديين اعتقدوا اعتقاداً راسخاً بأنه يجب على الشيعة الانتفاض ضد السلالة الأموية والانتقام لمعركة كربلاء، التي دارت في أواخر القرن السابع وقُتل على أثرها الإمام حسين، ثالث الأئمة الشيعة. وفي المقابل، اعتقد أتباع الإمام محمد أن القمع الذي انتهجه الأمويون جعل الشيعة ضعفاء جداً، لذلك احتاجوا إلى إعادة تنظيم أنفسهم والعمل على تمكين المجتمع إلى اليوم الذي يأتي فيه الإمام المهدي وينتقم للحسين بمشيئة الله.
بعد هذا الانقسام بات الجهاد والحرب ضد الحكّام الظالمين يشكلان عنصراً أساسياً من معتقدات أبناء الطائفة الزيدية، الذين ينتقدون الإمام محمد وأتباعه لتراخيهم في مواجهة الخلفاء الأمويين. لذا ثار الإمام زيد في وجه الحاكم الأموي في ذلك الوقت وقُتل في المعركة، ليصبح شهيد الزيديين بامتياز بعد الإمام الحسين. وفي جوهره، أصبح التمرد ضد الحكّام الظالمين أحد المؤهلات الزيدية الأساسية التي يجب على كل زعيم سياسي وروحي شرعي أن يتحلى بها.
وتدريجياً، طوّر أتباع الإمامين زيد ومحمد مدرستين دينيتين وقانونيتين مختلفتين. وفي الوقت نفسه، غادر العديد من أبناء الطائفة الزيدية والشيعة الاثني عشرية المدينة المنورة وهاجروا إلى إيران. وفي عام 897، غادر أحد الزيديين، وهو يحيى بن الحسين، المدينة المنورة متجهاً إلى اليمن، واصفاً نفسه بـ”الهادي إلى الحق” مدّعياً أنه إمام. ومثله مثل زيد، أكّد أنه من الواجب الديني الانتفاض ضد الظلم، وأن الزعيم المتمرد هو فقط الذي يمكنه أن يكون إماماً. ويعتقد الزيديون أن الأئمة يحصلون على هذا المركز عبر توافق آراء علماء المجتمع، الذين اعترفوا في هذه الحالة بصفة يحيى بن الحسين كإمام. وفي المقابل، يعتقد الشيعة الإثني عشرية أن الشخص لا يصبح إماماً إلا عن طريق التعيين الصريح من قبل النبي (ص) أو من الإمام السابق. ويكمن الاختلاف الآخر بين النهجين في أن الفقه الزيدي قريب جداً من مدرستين للشريعة الإسلامية السنيّة، هما الحنفية والشافعية، اللتين تختلفان كثيراً عن المدرسة الشيعية الإثني عشرية.
الإطاحة بالحكّام الظالمين
على الرغم من الاضطهاد والسجن المستمرين، فإن أي من الأئمة في مجموعة الشيعة الاثني عشرية الذين جاؤوا بعد الحسين لم يثر في وجه المرجعيات السياسية. واستمرت وجهة النظر الإثني عشرية التقليدية القائلة بأنه يجب تأجيل عملية إقامة حكومة شرعية دينياً إلى حين عودة الإمام المهدي. وقد استمر هذا الرأي مع الصفويين، الذين اعتمدوا الإسلام الشيعي ديناً رسمياً للمنطقة التي أصبحت تعرف في العصر الحديث باسم إيران. وبدلاً من التحريض على دولة ثيوقراطية خلال تلك الفترة، واصل العلماء الشيعة الاعتراف بشرعية النظام الملكي. وحتى في القرن العشرين، كتب آية الله روح الله الخميني نفسه: “لم يقل أي فقيه شيعي حتى الآن أو يكتب أننا الملك أو أن الملكية هي حق لنا… هم لم يعارضوا أبداً [المرجعيات السياسية] ولم يقصدوا يوماً إسقاط الحكومة” (من كتابه “كشف الأسرار” المنشور عام 1944).
لكن بعد عقد من الزمن، غيّر الخميني من وجهة نظره بشكل جذري ووضع مبدأ ولاية الفقيه، الذي يعتبر أن الفقيه الشيعي هو وحده الذي يتمتع بالحق الديني ليحكم البلاد. وبالتالي، كانت الثورة الإسلامية في إيران في عام 1979، بقيادة فقيه شيعي من الشيعة الإثني عشرية، مفاجأة دينية للزيديين في اليمن لأنهم كانوا يعتقدون أن مثل هذه الانتفاضات كانت هي ما يفرقها عن الشيعة الإثني عشرية. وفي أعقاب ذلك أصبح فرع الشيعة الإثني عشرية جاذباً جداً بالنسبة إلى الشيعة اليمنيين لدرجة أن العديد منهم سافروا إلى إيران للتعرف بشكل أفضل إلى هذه الطائفة، وفي كثير من الأحيان بناءً على دعوة من الجمهورية الإسلامية. وفي العديد من الحالات جذبتهم سياسة إيران الخارجية، وخاصة مقاومة النظام في وجه إسرائيل عبر التابعين له مثل «حزب الله».
وعلى الرغم من أن العدد الدقيق للشيعة الإثني عشرية في اليمن غير معروف حالياً، إلا أن مصادر غير رسمية تشير إلى أنهم يشكلون أكثر من 10 في المائة من السكان. وبما أن الحكومة السابقة بقيادة الرئيس علي عبد الله صالح غالباً ما اتهمت اليمنيين الثوار بترك الزيدية والخضوع لإيران، فقد كان إعلان الشخص عن كونه من الشيعة الإثني عشرية يُعتبر لفترة طويلة أمراً خطراً. أما اليوم، فلا يزال العديد من اليمنيين من الشيعة الإثني عشرية يخْفون تمسكهم بتلك المدرسة، متبعين عقيدة “التقية”، أو النفاق الجائز شرعاً. ولكن في مقابلة أجراها المرتضى المحطوري – شيخ زيدي بارز يدير مدرسة دينية في صنعاء – مع المؤلف في عام 2010، قال إن الفارق في الوقت الحالي ما بين الشيعة الإثني عشرية والزيدية ضئيل جداً من حيث السياسة الدينية (على عكس أساليب الزيدية الفقهية، التي لا تزال مختلفة). وبرأيه، فإن الزيديين الذين “تحولوا [ليعتنقون العقيدة الشيعية]” يعتقدون فعلاً أن نسخة النظام الإيراني من التشيع الإثني عشري هو الزيدية الحقيقية لأنه يحشد الجماهير لمواجهة القوى الأجنبية والحكّام الظالمين.
الحوثيون والجمهورية الإسلامية
في العقود الأخيرة، عملت محافظة صعدة – منطقة زيدية من الناحية التاريخية تقع في شمال اليمن – على إعادة إحياء معاهدها ومؤسساتها الدينية. وبدءاً من عام 1990، برزت شخصيتان زيديتان من هذه المنطقة – هي بدر الدين الحوثي وابنه حسين زعيما حزب “الحق” – بصفتهما الداعييْن الرئيسييْن لعقيدة الحركة الدينية السياسية التي أصبح أتباعها معروفين بالحوثيين. وفي عام 1992، أسس حسين الحوثي تنظيم «الشباب المؤمن» (المعروف أيضاً باسم «حركة أنصار الله») لمحاربة الحكومة.
وعلى الرغم من أن الرجلين لقيا حتفهما، إلا أن الحركة الحوثية لا تزال تحمل بصماتهما الأيديولوجية. ففي منشوراتهما وخطاباتهما والحلقات الدراسية التي عقداها، أظهر بدر وحسين الحوثي تعاطفاً واضحاً تجاه الشيعة الإثني عشر وأجندة الإمام الخميني الثورية المناهضة للولايات المتحدة. وقد كان حسين يعتقد أن الصراع الرئيسي في اليمن يكمن بين الزيديين والوهابيين، كما ذكر في تصريحات موجهة إلى الحكومة بعد أن بدأت الولايات المتحدة بتقديم المساعدة إلى صنعاء لمكافحة الإرهاب، قائلاً: “هؤلاء هم الإرهابيون الذين لم تسمحوا لنا بمحاربتهم، أنتم تقفون وراءهم، وفي الوقت نفسه تسمحون للأمريكيين بالمجيء لليمن بحجة محاربتهم”. وبالإضافة إلى ذلك، فقد أُعجب جداً بالأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصر الله. ففي خطاب غير مؤرخ له سأل الجمهور، “هل رأى أي منكم حسن نصر الله من على شاشة التلفزيون يهز إسرائيل بكلماته القوية؟” كما وأشاد علناً بالخميني لموقفه المواجه للولايات المتحدة وإسرائيل. وفي تصريحات ينتقد فيها اليمنيين لعدم مشاركتهم في إحدى التظاهرات السنوية التي تنظمها إيران في مكة المكرمة خلال موسم الحج، قال: “إن الإمام الخميني قد أدرك الحج بمعناه القرآني … لذلك، قاد الإيرانيين لمواجهة أمريكا، والوثنيين، وإسرائيل”. وعلى نطاق أوسع، لم ينتقد مراراً وتكراراً اليمنيين فقط، ولكن العرب بشكل عام أيضاً لعدم اختيارهم الخميني كمثال للقيادة السياسية.
ولا بد من الإشارة إلى أن الأمين العام الحالي لحزب “الحق”، حسن زيد، قريب أيضاً من «حزب الله»، وهي علاقة يمكن تفسيرها بشكل جزئي على الأقل بواقع أن إحدى زوجاته الثلاث هي امرأة لبنانية تشرف على مكتبه وتدير علاقاته الدولية. وفي مقابلة أجراها معه الكاتب مؤخراً قال: “نحن نعتقد أن الإمام الخميني كان زيدي بحق. ومن الناحية الدينية، إن اختلافاتنا مع «حزب الله» والحكومة الإيرانية طفيفة، ولكننا متطابقان من الناحية السياسية“.
ووفقاً لـ المرتضى المحطوري – الشيخ الزيدي المذكور أعلاه، توفر الحكومة والمرجعيات الدينية الإيرانية التدريب الديني والأدوات التعليمية لليمنيين في البلدين. ومن بين أعضاء الحكومة وهذه المرجعيات أولئك التابعين إلى رجلي الدين الشيعيين الرائدين آية الله علي السيستاني والسيد جواد الشهرستاني في محافظة قم. وخلال رحلة قام بها المحطوري إلى إيران في الشهر الماضي، طلب هذا الشيخ الحصول على الدعم المالي والتربوي من “جامعة الديانات والطوائف”، وهي منظمة أُنشئت قبل ثلاثة عشر عاماً تحت إشراف المرشد الأعلى علي خامنئي لتدريب الأشخاص من الشيعة الإثني عشر ومن خارجها الذين يرغبون في دراسة الفروع الأخرى للإسلام. وقبل ذلك بعدة أسابيع، دعت إيران المحطوري وسبعين من القادة اليمنيين الزيديين الآخرين لزيارة ضريح الإمام الناصر للحق – إمام زيدي من القرن التاسع – الواقع في شمال إيران. ووفقاً لتصريحات أدلى بها ستار عليزاده، رئيس “منظمة الأوقاف والزكاة” في محافظة مازندران في عام 2014، كان خامنئي قد أمر بتجديد ضريح الإمام الناصر للحق لتعزيز العلاقات بين اليمن وإيران. وعندما زار المحطوري الضريح في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، قال: “إن إقامة علاقات مع المرشد الأعلى في إيران لهو شرف لليمن … والآن نحن نعرفه أكثر من الناصر للحق”.
وقد تم التأكيد أيضاً على العلاقة بين اليمن وإيران، في مقابلة هامة بثتها “وكالة أنباء فارس” – وسيلة إعلام تابعة لـ “فيلق الحرس الثوري الإسلامي” الإيراني – في 27 كانون الثاني/يناير. وخلال النقاش، أعلن عبد المجيد الحوثي – إبن عم بدر الدين الحوثي وزعيم «حركة أنصار الله»، التي هي الآن الإسم الرسمي الشامل لحركة الحوثيين – ما يلي: “يتوقع [أتباع] «أنصار الله» أن تعمل جمهورية إيران الإسلامية وغيرها من البلدان على تقديم الدعم لهم وللشعب اليمني … إن الثورة في اليمن … مستوحاة من الثورة الإسلامية في إيران … ولكن الجذور الفكرية والتاريخية للثورة في اليمن تنبع من الواقع بأن اليمنيين هم زيديون ولهم خبرة سياسية أكبر من تلك التي تتمتع بها الجمهورية الإسلامية. فبدءاً من ابن علي، الإمام زيد، وحتى الآن، شهد الزيديون العديد من الثورات ضد الحكام الظالمين”.
التداعيات على السياسة الإيرانية
إن السياسة الإقليمية للنظام الإيراني ليست طائفية بحتة. ففي الكلمة التي ألقاها أمام الحاضرين في “مؤتمر الوحدة الإسلامية” في 9 كانون الثاني/ يناير في طهران، قال آية الله خامنئي: “تركزت المساعدة التي تقدمها الجمهورية الإسلامية لإخوانها المسلمين في معظمها على السنّة. إذ وقفنا إلى جانب الفلسطينيين، وساعدنا حركتي «حماس» و «الجهاد الإسلامي» وسنستمر في هذه المساعدة” (ومن المثير للاهتمام، أنه تم حذف الجملة الأخيرة من نسخة الخطاب المنشورة على الموقع الرسمي لخامنئي). وبشكل عام يبدو أن الأمر صحيح، فإيران تميل إلى تحديد سياستها الخارجية على أساس أيديولوجي وليس ديني. ولكن هذا لا يمنع النظام من استخدام التشيع كأداة للقوة الناعمة أو من تعبئة الشيعة في الشرق الأوسط لتهديد مصالح الغرب وحلفائه. يُشار إلى أن الانفتاح الذي أظهره العديد من زعماء الزيدية تجاه السياسة الخارجية الإيرانية وممارستها للتشيع الإثني عشري يمنح طهران وسيلة جاهزة لتوسيع نفوذها في اليمن.
مهدي خلجي هو زميل أقدم في معهد واشنطن، وكان قد درس في الحوزات العلمية في قُم في الفترة 1986-2000.