ما العدمية؟ هي النزوع الصميم الى التدمير الذاتي.
عادة ما يتراوح هذا النزوع بين تدمير الآخر بقصد تدمير الذات، أو تدمير الذات حثّاً للآخر على أن يدمّر نفسه. فالعدمية عُصابٌ جماعي يريد لنفسه أن يتفشى كما العدوى، وأن يفتك بكل ثقافة لا تكون مؤهلة بشكل مدرك وسريع وحاسم لكبح جماح النزعات الانتحارية والاستنحارية داخلها. والعدمية هي وهم النفاذ لأعماق الأعماق، ورمي كل دعوة الى الواقعية على أنها التفاتة بائسة الى القشور.
هذا «العمق» الذي يبحث عنه العدميون هو بئر حافظة للحقيقة، هوة تصدر عنها الملاحم وإليها تتوب. من هنا، يجد العدميون أن كل مطالعة للتاريخ تسقط منه الملاحم الساطعة انما هي مطالعة سطحية وتافهة، علاوة على أنها تفسد عقول الناشئة، وتدمّر الذوق العام وتضعف الشعور بالانتماء الى قوم أو الى اقليم بعينه. من هنا، فلا عجب أن تناهض العدمية كل شطحة كوزموبوليتية أو حداثية.
يمكن أن تنشب العدمية في أي ثقافة، طالما أن هذه الثقافة لم تفرز ما يكفي من مضادات حيوية تبرزها كثقافة للحياة، الحياة السوية والعادية لا الحياة الملحمية و… «العميقة»، بحيث لا يعود بمستطاع أحد أن يجيّر حياته لأحد آخر، على سبيل التضحية القربانية، مهما كانت الظروف حالكة السواد أو باعثة على الاحتدام والمأساوية. مهما انسحر الأفق.
بحسب مبدأ الفرد كما أنضجته الحداثة الغربية، يمكن للفرد أن ينقد مالاً لفرد آخر، أو أن يسلب الفرد الآخر ماله. الا أنه، وفي جميع الحالات، ليس بمستطاع الفرد أن يتبرّع بحياته لفرد آخر، أو أن يسلب حياة فرد غيره ليبتلعها ويضعها في نفسه، بحجة احداث مفاعيل ملحمية.
لقد عرفت العصور الحديثة ثلاثة نماذج حضارية كبرى من العدمية.
ثمة العدمية السلافية في القرن التاسع عشر. يرمز اليها سيرجي غينادوفيتش نيتشاييف. عنده أن التغيير انما تصنعه عناصر ارهابية سرّية. غاية هذه العناصر هدّ الهيكل الاجتماعي على الجميع، اذ يتوجب على العناصر المتمردة أن تزيد من عذابات الشعب كي يتجرّاً على الانتفاض. والحال أن نيتشاييف هذا قد نفّذ برنامجه «المتعمّق» هذا، بأن اغتال بأعصاب باردة الطالب المسكين ايفانوف، بحجة أنه ولد انهزامي لا يستأهل الحياة.
وثمة العدمية الألمانية في القرن العشرين. تجد سنداً أكيداً لها في مؤلّف اوسفالد شبنغلر «أفول الغرب». فيه تنديد بالديموقراطية والبرلمانية، وإدانة لليبرالية كما الماركسية. كل هذه من العلامات على تضعضع الغرب وانحطاطه. يكون أفول الغرب بابتعاده عن قيم النبالة والفروسية وإدارة الظهر لسحر «الأعماق»، لأجل الاكتفاء بالسطحي والنافل من أشياء.
لئن تعاملت العدمية السلافية مع العدم على أنه بمثابة أمّ حنون ينبغي المسارعة الى هدم الواقع كرمى لعينيها، مع الحؤول دون التأثر بأي من الموبقات الغربية، التي تشذ عن أصالة وطيبة الروح السلافية، فقد تعاملت العدمية الألمانية مع العدم على أنه الأصل والمبدأ في الواقع. انه حقيقة هذا الواقع، لبّه أو جوهره. بالتالي، ينبغي التخلي عن كل القشور التي يمكن أن تودي بالحضارة الغربية الى حيث التبلّد والسطحية، وهما بموجب هذا النمط من التفكير، وافدين على الحيوية الغربية من خارجها، اما من مصدر سلافي وإما من مصدر سامي، ولا بد من استئصال المصدرين معاً.
انتهت التجربة البلشفية في روسيا الى اشاعة عدمية نيتشاييف. ونهضت «الصحوة النازية» في ألمانيا الثلاثينيات على أساس مقارعة أفول الغرب الذي دق ناقوسه شبنغلر. وفي نهاية المطاف تعلّمت المانيا كيف تعيد بناء ثقافتها على قاعدة تفتيت مركب العدمية، في حين أن العدمية الروسية ما زالت شبحاً يخيّم فوق الثقافة الروسية في أكثر من صعيد.
أما ثالثة العدميات، تلك التي برزت على المسرح العالمي في أعقاب الحرب الباردة، مع أن جذورها تمتد عقوداً الى الوراء، فهي العدمية المتفشية في الشرقين العربي والاسلامي تحت جملة مسمّيات، في مقدمتها «الممانعة».
هذه العدمية قائمة في الأساس على طمس السؤال النهضوي المفتاحي (لماذا تقدّم الغربيون وتأخر الشرقيون؟)، باعتباره سؤالاً تخاذلياً ولحاقياً، ينبغي نقضه بسؤال: (كيف يمانع الشرقيون أمام هجمات الغربيين؟). تخال هذه العدمية أحياناً أنها تخرج على طوع هيمنة الرؤية الاسشتراقية. لكن محال. انها الاستشراق في أكثر أشكاله رداءة وسذاجة، لأن كل ما يهمّها هو التأكيد على أطروحة «أفول الغرب» الشبنغلرية، لكن على قاعدة تقديم النصح لهذا الغرب بأن يقتبس شيئاً من روح هذا الشرق الأصيلة. في الوقت نفسه، نجد أن هذه العدمية الممانعة تأخذ من تركة العدمية السلافية أيضاً نفس هذه الرغبة الرعناء في تحطيم الهيكل على رؤوس الجميع، بحجة التمنّع أمام الهجمات الغربية.
في عرف هؤلاء العدميين أن الاستعمار جوهر واحد مهما تعدّدت أشكاله، وللممانعة أمام الاستعمار أصل واحد يظهر في كل تجلياتها. أما كل من خالف هذا الرأي فمصاب بمرض الحنين الى الاستعمار. على هذا الأساس ينتصب ناظر للممانعة من هنا، وناظر لها من هناك.
فكم نجد عزاءنا بعد ذلك في الرجوع الى كتاب ممتاز لعبد الرزاق عيد، بعنوان «محمد عبده. امام الحداثة والدستور». وفيه أن «الصورة نفسها تتكرر حتى اليوم، فكل دعاة الشرعية الدستورية الديموقراطية من حزب الامام ومدرسته اليوم، اذ ينددون بفساد واستبداد أنظمتهم ونهبها للبلاد، يُتهمون ـ كما كانت حال الامام ـ بعلاقتهم بالأجنبي، ويشكك بنزاهتهم الوطنية». وأجمل منها فقرة من نوع: «ان الامام المتشبع بقيم الثقافة الغربية الحديثة كان يجد في علاقته بكرومر ما يشبع حاجته الشخصية الى علاقة اجتماعية مثقفة مع شخص يجد لديه مشتركاً أكثر من بلاط الخديوي».
(السفير)