لا يخفي بعض الأصدقاء والمعارف استغرابهم وحيرتهم من تفاؤلنا الكبير على الرغم من مواجهتنا لسلسلة من الشكاوى الكيدية والدعاوى والاستدعاءات ما بين النيابة والمحاكم، ناهيكم عن التهديدات والتشنيعات والتعريض بسمعتنا بشكل فج وممجوج، المعلن منها والمبطن والتي يمارسها صبية ”الماضوية الإخوانية” وخفافيش الظلام ممن اعتادوا الاحتماء والاختباء خلف أسماء مستعارة ووهمية تروجها لهم مواقع مدفوعة الثمن، مفضوحة الولاء شعارها الأثير “اشتم واستلم”. ولعلنا لا نذيع سراً اذا ما أعلنا هنا أن تفاؤل التنويريين في بلادنا وفي المنطقة لا ينطلق من فراغ، وليس معلقاً بأذيال الهواء بقدر ما هو نابع من حتميات التاريخ ومتأسس على المستقبل وللمستقبل. فإيماننا راسخ ومتجذر بأن المستقبل لمشروع التنوير مهما بلغ طوفان الماضوية الإخوانية الانتهازية. ومن يراهن على المستقبل لا يفقد الأمل، ولا يخبو تفاؤله ولا تنقطع أنفاسه؛ فقد علمتنا تجربة التنوير وسيرته في أوروبا أن انتصار التنويريين، وفكر التنوير، وثقافة الأنوار، لم تتحقق ولم تنجز الا بعد مضي نحو مئتي عام على أقل تقدير، حتى استطاع مشروع التنوير أن يقضي قضاءً مبرماً على الماضوية الثيوقراطية..
وهي تجربة لنا فيها عبرة ودروس، فلولا التفاؤل بالمستقبل لما استطاعت سلسلة من كواكب التنوير أن تواصل المشوار الصعب بلا انقطاع، في زمن صعب وقاسٍ دون أن تتخاذل أجيال من التنويرين عن مواصلة رسالتها بدأب ونكران ذات. التنوير عملية طويلة.. لا تقاس بفترة زمنية محددة، وهكذا نلاحظ أنها لم تبدأ بـ”كانط” و”ديكارت” ولم تتوقف عند سبينوزا أو هوبز، ولم تنقطع برحيل لوك، فاستمراريتها في تصاعد فكر الأنوار، وتطوير فكرة التنوير واغنائها، ورفدها بالأفكار المدنية هو الذي جعل الوعي العام الأوروبي يقترب منها أكثر فأكثر ثم يقتنع بها اقتناعاً راسخاً لدرجة الدفاع عنها، والمطالبة بأن يكون التنوير بديلاً للمشروع الماضوي الثيوقراطي الأوروبي الذي ظل رازحاً على صدره قروناً طويلة.
فالتنوير ليس قفزاً في الهواء، وليس حرقاً للمراحل، وانما هو مشروع يراهن على المستقبل. والحفر للمستقبل لا ينتهي غداً الساعة السادسة. التنوير مشروع وطن، وليس مشروعاً أنانياً مغلقاً على مجموعة أفراد يلهثون للاستحواذ على المناصب، وحصد المكاسب الخاصة، ومضاعفة الغنائم الشخصية لينتهي عند هذه الحدود الضيقة. فعندما أطلق “كانط” عبارته الشهيرة “تجاسر على استخدام عقلك أيها الإنسان” وعندما ردد سبينوزا عبارته الدالة والموحية “إذا وقعت الواقعة لا تبكي ولا تضحك ولكن فكّر”. وعندما قال هيغل بعمق عميق ”لا بد من كسر الجوزة لتعرف ما بداخلها”، لم يكن ذلك نزوة أفراد يبحثون عن الأموال والمناصب والجاه والنفوذ بل كانت مقولاتهم بداية البشارة لتحولات العقل الذي لا يعرف الكلل ولا الملل ولا العطل، ولا يكف عن طرح أسئلة التحول والتغيير، ذلك التحول الذي يرعب “الماضويين الانتهازيين” ويهز عرش إخوانياتهم.. لذلك؛ فعدوهم اللدود هذا العقل عندما يفكر، وأخوف ما يخافون من “الجوزة عندما تنكسر”..!! فما بين العقل وهو يفكر، والجوزة وهي تنكسر، تنفضح السيرة، وتنقطع المسيرة للماضوية الإخوانية الانتهازية، ويضع الماضوي يده على خنجره أو سكينه تماماً كما فعل ذلك الفاشي ذات يوم أسود في تاريخ الإنسانية، التي لم تكف عن التفكير ولم تتوقف ذهنيتها عن “كسر الجوزة”.
هذه حقيقة الحقائق التي يؤمن بها التنويريون الذين أعلوا من شأن العقل، وطالبوه وحرضوه على أن يفكر ويفكر، ثم بعدها بمحض خياره وبإرادة قراره يتخذ الموقف الحر المستقل، ويبدع مستقبله كما يريد ويبغي، فشعار التنويريين هو صيحة “كانط”: أيها الإنسان تجاسر على استخدام عقلك.
sadaalesbua@alayam.com
*كاتب واعلامي من البحرين