ما يبرر الموقف الأصولي الساعي للهيمنة على مختلف مشارب الحياة، هو حب الوصاية ودافع السيطرة، بهدف الاستحواذ على الهوية، هوية المواطنة، وتحويلها إلى هوية أصولية فقهية تاريخية. فمن خلال تبني أفرادها للمدرسة الفقهية الماضوية، بشقيها السني والشيعي، كمفسر، وفي غالب الأحيان وحيد، للأمور الدينية والدنيوية، بادعائها أنها قادرة على أن تجيب على مختلف أسئلة الحياة، وأنها لها الحق في التدخل في كل صغيرة وكبيرة فيها، وبوصفها وصية على مختلف الشؤون اليومية، يبدو الهدف الرئيسي للأصولية، وبالذات للذين يروجون للأسلمة ولمشروع الإسلام السياسي، هو تحقيق تجربة السعودية وإيران وأفغانستان. فالأصولية الكويتية، أو الإسلام السياسي الكويتي، أثبت من خلال مواقفه وأفعاله أنه يقف في الضد من فطرة الناس، ويهدف إلى تفعيل المشروع الديني التاريخي ولو عاند ذلك الواقع المعاش وجاء في الضد من مصلحة المجتمع.
وبزعمها أنها الحامي الوحيد للدين والمجتمع، والمدافع عما تسميه بـ”ثوابت الأمة”، تسعى الأصولية للقول بأن قضايا الدين والمجتمع و”ثوابتهما” حكر على جماعة بعينها. لكن الأمر في الواقع ليس سوى انعكاس للفكرة القائلة بأن الحقيقة ليست إلا في جعبتي، وأن جعب الآخرين ليست إلا انحرافا عن الصراط المستقيم، ولابد من مواجهتها بمختلف صنوف الإقصاء وأدوات الحكر والإلغاء. فلا معنى لمفهوم الحرية في ظل انتشار مفهوم “احتكار فهم الحقيقة” في ضوء المزاعم عن قناعة الجماعات الأصولية بتعددية الفهم الديني، إذ هو حديث لا يمت للحقيقة بصلة ولا يعبر إلا عن مناورة سمجة للوصاية على المجتمع.
ويبدو واضحا أن أنشطة الأفراد والمؤسسات، الحكومية والشعبية، وبالذات المتعلقة بالجانب الاجتماعي والثقافي، باتت مهددة بسبب هيمنة الأصولية ووصايتها وسطوتها التي أصبحت تشكل خطرا على مستقبلها. وتلك الهيمنة، التي لا تمت للحاضر الفكري الذي يلف العالم ويسيطر عليه من خلال قيمه ومفاهيمه ومدنيته بأية صلة، ليست سوى هيمنة تاريخية شمولية، حيث تسعى لتفعيل المفاهيم غير الحديثة بدعم من التفسير الديني التاريخي، لتحقيق مآربها ونصرة أفكارها.
وقد أصبح جليا أن الرهانات الفكرية والعملية لمشروع الأصولية الاستحواذي باتت تلتقي مع رهانات المشروع الديني الظلامي المسيحي الذي عاش في المرحلة الماضوية القروسطية، الذي سعت المؤسسة الدينية المسيحية خلاله إلى فرض وصايتها وسطوتها على المجتمع، مستعينة بسلاح التحالف “المقدس” بين السلطان والفقيه، أو بين الكنيسة والملك، أو السياسة والدين. وقد أبى إنسان العصور الوسطى المسيحي “المثقف” أن تستمر تلك الماضوية والوصائية، وجاهد لمواجهة الاستبداد والمستبدين والوقوف بوجه التحالف الديني الدنيوي المقدس، الذي كان يعتقد – ولا تزال الأصولية في مجتمعاتنا تعتقد – أنه الوحيد الناطق باسم الحق الإلهي البشري.
وقد حقق الإنسان ثورة مفاهيمية كانت بمثابة بوابة للدخول إلى الحياة الحديثة. فسعى، ضمن مساع عديدة، إلى التقليل من دور الاستبداد في حياة البشر، والدفع بالإنسان نحو التطور. كما اكتشف أصلا جديدا في الحياة كان بمثابة ثورة مفاهيمية وعنصر تحول في الحياة البشرية، ألا وهو: أن حرية الإنسان مقدسة، وأن حقه في الحياة والإبداع والتطور والتقدم مصون، وأنه لا وصاية فكرية أو دينية لجهة ما عليه. واكتشف إثر ذلك مفاهيم الديموقراطية والتعددية واحترام حقوق الإنسان ونسبية فهم الحقيقة وقدسية الاختلاف مع الآخر واللاعنف الفكري والجسدي. وقد غيرت تلك المفاهيم حياة الإنسان وزرعت فيه نبتة التطور والتقدم ورفض الوصاية والاستبداد.
إن إبراز ثقافة الإسلام السياسي بوصفها تتفوق من حيث الأهمية على ثقافة المواطنة هي إحدى المثالب ضد الأصولية. فأنصارها لا يقدمون المواطنة على فكرهم الشمولي، وبعبارة أخرى لا يستطيعون الإجابة على السؤال التالي: هل أنتم كويتيون أولاً أم أنتم أصحاب فهم ديني شمولي خاص ثم بعد ذلك تنتمون إلى الجنسية الكويتية؟! فإذا كان جوابهم هو الأول، فإن تصرفاتهم في المجتمع تقف في الضد من ذلك. أما إذا كان الجواب هو الثاني، أي أن الفهم الأصولي الشمولي له الأولوية على المواطنة، هنا تكمن المصيبة المتمثلة في رفض كل أشكال الحياة الحديثة، وعلى رأسها القبول بالآخر المختلف.
لقد باتت الأصولية الكويتية، بإقحام نفسها في كل صغيرة وكبيرة على هذه الشاكلة، وفي ظل مبرراتها البعيدة كل البعد عن مبدأ تعددية الفهم واحتكاره لحسابها مقابل إقصاء الآخرين عن الخوض في فهم المسائل والقضايا الثقافية والدينية والاجتماعية، تعتبر نفسها وصيا على الفهم وكأنها مؤسسة ثقافية “أمنية” تحدد للآخرين كيفية فهم الأمور وما يجب أن يفهموا ويقرؤوا ويسمعوا ويشاهدوا، وكيف يجب أن يحتفلوا في مناسباتهم، وماهية العقوبات للمخالفين منهم، كل ذلك تحت مبرّر المحافظة على ثوابت الدين والعادات والتقاليد، وكأن طريقة المحافظة على تلك الأمور متشابهة، أو أن تلك الثوابت والعادات والتقاليد في قوالب معلبة ولم تتأثر بالتغيير العالمي الحاصل في مختلف مناحي الحياة.
إن المفردات الواردة في أدبيات الثقافة الأصولية الكويتية تبرهن بما لا يدع مجالا للشك بأنها مفردات حاثة على نفي الآخر من خلال ممارسة العنف اللفظي بالتهديد والوعيد واستغلال بعض القوانين لإقصاء المختلف دينيا وثقافيا ومذهبيا، رغم أن أنصارها “يلفون ويدورون” ويتلاعبون بالكلمات لتبرئة أنفسهم من هذا الأمر. لذا بات لزاما الكشف عن الوجه الأسود لذلك الوصي أو “الشرطي الأصولي”، الذي بات وصفه بالمفكر أو المثقف جريمة بحق الثقافة، إذ لا ثقافة أو فكر في ظل غلظة واستبداد الرقيب الديني الذي يعكس بسلوكه هذا صورة محاكم التفتيش القروسطية المسيحية.
ونجد في ظل “نجومية” الثقافة الوصائية أن الأصولية الكويتية، تتغنى بإيمانها بالديموقراطية، ولها نواب في مجلس الأمة يطرحون رؤى لتقنين التعددية الحزبية، لكنها تجهل – أو تتصنّع ذلك – أن التعددية السياسية لا يمكن أن تقوم لها قائمة من دون أن تسبقها التعددية الثقافية والفكرية، وأن مجلس الأمة لا يملك المقومات في أن يكون مجلسا ديموقراطيا من دون وجود مقومات رئيسية تستند إليها الديموقراطية، وعلى رأسها الحرية والتعددية واحترام حقوق الإنسان. فالإيمان الحقيقي بتلك المقومات هي أس الإيمان بالعملية الديموقراطية، وهي لا تلتقي لا من قريب ولا من بعيد مع مفهوم احتكار الحقيقة، سواء كانت تلك الحقيقة دينية أو غيرها.
والحياة المدنية والسلم الاجتماعي لا تهددهما مقومات الديمقراطية بل تهددهما المفاهيم الاحتكارية التي تؤسس لظهور الوصاية المتبناة من قبل الأصولية.
ويعتبر مفهوم “احتكار الحقيقة الدينية” أساس مشكلة الأصولية في الكويت وفي غيرها من البلدان. فهو يؤسس لرفض الاعتراف بوجود الآخر المختلف، ورفض حقه في نشر أفكاره والتعبير عنها، ويشرعن لممارسة الاستبداد بمبررات دينية عفا عليها الزمن، لأنه مفهوم يستند إلى اعتبار أن الحقيقة الدينية هي حقيقة يقينية، وأنها واحدة لا يمكن أن تتجزأ إلى عدة حقائق، وأنها تسير في إطار رؤى جازمة، وبالتالي لا مجال لوجود تعايش ورؤى أخرى مغايرة ومنافسة، كما لا مجال لإخضاعها لحركة النقد والمحاسبة والمساءلة، على اعتبار أن منطلقاتها غير بشرية بل سماوية مقدسة مرتبطة بما يسمى بصريح النقل، بالتالي ما لا يتوافق في التفسير مع صريح النقل يصبح في الضد منه وفي خانة المعصية المؤدية إلى الفسق والفجور بل والكفر والشرك.
إن المعايير المؤدية لأمة من الأمم في أن تصبح رائدة وقائدة، لا تكمن في نفي الأمم الأخرى وزرع الكراهية تجاهها ووصمها بالكفر وبالنعوت غير الإنسانية الأخرى، بل تكمن في استخدام المفاهيم والوسائل المؤدية لأن تصبح أمة ما فوق جميع الأمم، ويأتي في إطار تلك المفاهيم احترام حقوق الإنسان ووسيلتها الرئيسية في ذلك هي الديمقراطية. فنحن لا نريد فهما دينيا يبعدنا عن التعايش مع بعضنا البعض ويجعلنا أعلى مرتبة من الجميع بسب هويتنا الدينية من دون امتلاكنا للمعايير الحقيقية لهذا العلو أو إثباتاته وأمثلته في الحياة، بل نريد فهما يرفض طمس إنسانية الدين، فهما يفضي إلى الإعلان عن أن احتقار الآخر أو عدم احترامه لا صلة له بالدين، لأن “الدين هو الحب والحب هو الدين”. فلا نريد فهما يتمحور خطابه على رفض الحياة وتمجيد الحزن ولعن البهجة والفرح والمسرة مع الآخرين بذريعة الكفر تارة والشرك تارة أخرى، بل نريد فهما جريئا قائما على إشاعة العقلانية والتعايش، أو مثلما يقول العراقي عبدالجبار الرفاعي: “يخترق الأدبيات الجنائزية في تراثنا، ويخترق ما راكمته تجربة الاجتماع الإسلامي من إكراهات ومظالم وصراعات مختلفة عملت على تبلور مفهومات وفتاوى مشبعة بتلوينات تلك التجربة”.
كاتب كويتي
ssultann@hotmail.com