رحيل “أبو أشرف”: انه زمن تساقط اواخر الأوراق الرومانسية الثورية

0

كانت الساعة تقترب من الثانية عشر ليلا، وكنا متحلقين حول النار في قاعة الرياضة في ثانوية حسن الحجة الرسمية للصبيان في “شارع المئتين” بجانب الملعب البلدي. كنا قد احتلينا الثانوية قبل يومين استنكارا لتدمير اسطول “الميدل ايست” في مطار بيروت الدولي من قبل العدو الاسرائيلي، والعجز اللبناني الرسمي سنة 1969. لم نكن لوحدنا، بل معظم طلاب لبنان شاركوا في الانتفاضة واعتصموا في الثانويات وبعضهم احتل التكميليات. وطرابلس دائما في الطليعة، حتى ان ثانوية البنات في شارع لطيفة احتلت من قبل صبايا العائلات الطربلسية المعروفة شهال، يمق، عبد الواحد، غازي، خربطلي، مراد وغيرها، رغم مضايقات الأجهزة وأعوانها.

كنا ننشد الاغاني على انواعها قبل الذهاب للنوم، البعض على يطئه، والبعض يذهب الى بيته للعودة صباحا، وانا في غرفة المدير قافزا من شباك الكوريدور. اذ كنت العب دور البطل الاول في بداية الاعتصام وكنت انذاك في صف البكالوريا قسم اول. وفجأة  خيّم الصمت، وانفض الجمع من حولي، ووقف الجميع ملتفتا نحو باب القاعة الكبير، وقال بعض العارفين، الاكبر سنا وتجربة والتزاما، “جاء عبد الفتاح، جاء أبو أشرف”.

وبالفعل فقد اطل شاب في العشرين من عمره، بهي الطلعة، ممشوق القامة ذو شعر طويل، كمعظم ثوريي هذه الفترة التي طبعتها احداث لبنانية وعربية وعالمية هائلة. فقد هُزمت انظمة العسكريتاريا في حرب ٦٧ من قبل اسرائيل وتهاوت الناصرية مع امالها الوطنية واحلامها القومية في شباك مخابراتها وزوار الفجر وشبيحة شارع الهرم الذين فضلوا مواكبة برلنتي عبد الحميد واعتماد خورشيد بدل مواكبة مصر وحدودها، وهًزم المرشحون الشهابيون على ايدي الحلف الثلاثي بعد اهتزاز الناصرية. وفي فرنسا قاد الطلاب اليساريون حركة التغيير الشاملة التي كادت ان تطيح بديغول، ايقونة فرنسا، وهو سرعان ما استقال لاحقا تحت وطأتها. وكان غيفارا ايقونة اميركا اللاتينية قد ترك الرفاهية الثورية في كوبا ليلتحق بالثورة البوليفية وليُقتل لاحقا على يد CIA، ويصدح له الشيخ امام “غيفارا مات آخر خبر في الراديوهات”!

التف الجمع حول الشاب اليساري الذي كان طالبا مجليا في نفس الثانوية قبل ان يُطرد بسبب مشاكسته لبعض الاساتذة “اليمينيين”، وهي خاصية كثير من اليساريين انذاك، كرفيق عبدالفتاح لاحقا، الراحل نصير الاسعد، الذي طرد من اليسوعية.

عبد الفتاح صاحب الكاريزما العالية والتي ظهرت بعد تجمعنا حول النار من جديد ما إن بدأ يشرح الواقع السياسي اللبناني والعربي، مشددا على الرافعة الثورية  الفلسطينية التي ستشكل نقطة جذب عربية وعالمية تدغدغ مشاعر الشعوب المقهورة من الهزيمة والقمع والتخلف وتدغدغ احلام مناضلي وثوار العالم اجمع. لذا بدا طبيعيا ان يتحول هذا الفتى اليساري من حركة القوميين العرب الناصرية الهوى، الى فصائل اليسار  المتمركسة، ومن ثم الى منظمة الاشتراكيين اللبنانيين التي ستندمج بعد سنتين مع لبنان الاشتراكي لتطلق “منظمة العمل الشيوعي” في لبنان كطليعة ممثلي اليسار الجديد والتي ستعلن انها، رغم ماركسيتها، فانها لن تحمل المظلة الا حين تمطر في لبنان والمنطقة العربية وان روافدها الفكرية تأتي من اماكن شتى، ولكنها تصب في المجرى اللبناني الفلسطيني والعربي. ومع ذلك فقد علّمت المنظمة الوليدة كوادرها بعض مآثر ماوتسي تونغ، متجاهلة مآسي الثورة الثقافية الماوية والتي تضاهي ببعض جوانبها كوارث الستالينية واللينينية.

ومع ان المنظمة آمنت بالرافعة الفلسطينية، الا انها قاومت تجاوزاتها وستحملها في مراجعاتها الفكرية والسياسية اللاحقة جزءا من مسؤولية الحرب الأهلية، حيث ان اعمالها فاضت عن قدرة لبنان بالتحمل واصطدمت بالبنية السياسية اللبنانية وتناقضاتها .

ومع ان الاحلام الثورية رافقت هذا القائد اليساري منذ يفاعه، ومع انه يرمز لمرحلة الرومانسية الثورية التي مجدت العنف الثوري كوسيلة مشروعة، فإن ابن الاسواق الطرابلسية القديمة كان ودودا ولطيفا ورقيقا، رقة العصافير التي اقتناها والده في محل صغير بعد تقاعده. لذا كانت شهادة اي رفيق تفطر قلبه، سواء في الحرب الاهلية، سواء في المقاومة بعد اجتياح اسرائيل في ٨٢ حيث اعلنت المنظمة منفردة انه لا بندقية مشروعة سوى ضد الاحتلال، ما اغاظ جماعة النظام السوري الذين أداروا حروبا أهلية فلسطينية ولبنانية عبر واجهات وطنية لبنانية وفصائلية فلسطينية. والمنظمة، وان كرهت مرحلة “التوحيد” القاهرة لطرابلس، الا انها وبقيادة عبد الفتاح مارست دورا فاضحا لرغبة النظام السوري في الهيمنة على المدينة، وفي رعاية لاحقة لـ”التوحيد” مع ايران بعد ضرب المدينة بالتعاون مع “الأحزاب الوطنية” التي شكلت ستارا للقوات السورية التي سيطرت على المدينة ومارست عليها شتى انواع القهر. ومن ينسى  مجزرة التبانة التي ساهمت بتعميق الانقسامات الفئوية في المدينة والتي حولت مناطق التبانة وبعل محسن لقنابل موقوتة انفجرت لاحقا في جولات وفي اعقاب احتلال حزب الله لبيروت في 7 أيار الأسود.

لم يكن عبد الفتاح يهوى التنظير وكتابة المقالات، ولكنه كان مثقفا ومتمكناً سياسيا. وكما يقول المثل الشعبي “بيلقطها وهي طايرة”. كما انه كان قائدا ميدانيا للتظاهرات والاعتصامات وغيرها من اشكال العمل الشعبي والديمقراطي، حتى انه ثابر  على الهتاف، رغم وفرة الهتّيفة، وكان جريئا حتى انه هتف ضد “مشروع روجرز” الذي قبله عبد الناصر قبل وفاته في قلب ساحة عبد الناصر، منتقدا الزعيم الأسمر الذي تعشقه المدينة وتعشق مصر والعروبة والقاهرة لدرجة أنه لطالما تصرف اهلها وكأنها حي من احياء القاهرة.

لم يكن عبد الفتاح محبا للعمل العسكري خلال الحرب الاهلية، وشكل مع توفيق سلطان والشهيد ابو حسن المير ثلاثيا في دعم  استقلالية ودور “التجمع الوطني للعمل الاجتماعي” الذي نشأ في الحرب الأهلية بعد تراجع وتفكك مؤسسات الدولة، كما في مواجهة شطط القوى السياسية الاخرى بمنوعاتها، وايضا في مواجهة  التجاوزات الفلسطينة، خصوصا تجاوزات الفصائل المرتبطة بسوريا. و تجلت صلابته في مواجهة النظام السوري واعوانه، علما ان هذا الثلاثي شكل انعكاسا شماليا للثلاثي الوطني كمال جنبلاط ومحسن ابراهيم وجورج حاوي.

على كل اتت مراجعات المنظمة لاحقا لتثبت عدم صوابية استسهال ركوب موجة الحرب الاهلية في سبيل برنامج التغيير الديمقراطي.

وعبد الفتاح الذي زرع اسواق طرابلس تظاهرات ثابتة وطيارة والذي حول مقاهيها وزواياها وبعض بيوتها مراكزا للنقاش والحوار والتخطيط، احب ايضا الميناء منذ يفاعه وانتسابه لـ”حركة القوميين العرب”. وكما صادق نخبها ونخب قاطنيها (حتى انه اصبح منهم لاحقا فسكن فيها بعد العودة من تهجير “حركة التوحيد”)كرشيد درباس وعصام حداد ومصطفى صيداوي وعبدالله فلاح ونديم زيلع وسمير ابو نعيم ووليد سماحة وآخرين، الا انه احب صياديها وسرح معهم وكرس لاحقا طاقة المنظمة شمالا للدفاع عن مصالحهم. لذا بدا طبيعيا ان يتبوأ  رفاقه وفي مقدمهم سالم دقناش قيادة نقابة الصيادين لفترات طويلة، تخللها حراكات متنوعة، من المعركة ضد “شركة بروتيين” في ١٩٧٥، الى معركة وتحديث مرفأ الصيادين وانشاء مسمكة النقابة والحفاظ على البيئة والثروة السمكية المتضائلة نتيجة التعديات بالديناميت، خصوصا من قبل المحميين من المخابرات السورية آنذاك.

ادت الاختلافات بين محسن ابراهيم وبعض اعضاء المكتب السياسي للمنظمة ومنهم عبد الفتاح في التسعينيات الى اعتكاف، ولاحقا انفكاك، معظم فرع الشمال وقيادة المنطقة، حيث رأى ابو اشرف أنّ الامين العام يضمر انتظارية طويلة نتيجة الاصطدام مع  النظام الامني السوري اللبناني وفرادة موقف المنظمة، وهي انتظارية لم يفك طلاسمها خطاب محسن ابراهيم في اربعين  جورج حاوي بعد استشهاد الحريري وانتفاضة ١٤ آذار المفصلية في تاريخ البلد وخروج القوات السورية، ولا بيانات متقطعة ومساهمات معينة في بعض الاحداث والحراكات، ذلك أن  حجم وعمق المراجعات الفكرية والسياسية والتنظيمية، والتي اطلقها الامين العام نفسه، كان يجب ان تؤدي الى ولادة تنظيم جديد من رحم القديم. وقد استشعر ابو اشرف عجز قيادة المنظمة برئاسة “ابي خالد” عن استكمال قفزتها الاخيرة والتي بدت الاكثر صعوبة، خصوصا ان ازمة العمل الديمقراطي واليساري كانت من طبيعة عالمية نتيجة التحولات الرأسمالية ونشوء العولمة والتكنولوجيا الرقمية وصعود النيو الليبرالية، بالترافق مع تفكك انظمة رأسمالية الدولة والمنظومة السوفياتية وانتعاش الإسلام السياسي مع نشوء الجهمورية الإسلامية الإيرانية.

ورغم ان ابا اشرف كان صلبا وعتيقا ومتجذرا، الا انه كان منفتحا على التغيير والتحديث والتكيف “ورمى باولاده الثلاثة في اتون انتفاضة ١٤ آذار”، كما رأى في سيطرة ايران وحزب الله خطرا على الكيان والمنطقة، ومع حماسه المرتفع لمنتفضي الربيع العربي ، إلا أنه استشعر مبكرا  محاولات الردة والاحتواء والقمع منذ البداية، خصوصا من قبل النظام السوري الارهابي وداعميه، لذا كان يدعو للتمتع بالنفس الطويل وعدم اليأس حتى في سنوات مرضه الأخيرة.

لم يكن عبد الفتاح فريدا في نضاله الطويل! فهو ابن المرحلة الثورية الرومانسية التي فاضت بالمناضلين والثوار وعشاق التغيير، قادة وكوادر، وهم طبعوا مرحلة بكاملها، إلا أنه بالتأكيد بقي قويا ومتواضعا ونظيفا ولم تكسره الرياح العاتية، وهو يغادرنا في زمن صعب نحتاج فيه الى حكمة ومشورة وفطنة وصبر امثاله. وإذ خسره أهله وأصدقاؤه ورفاقه القدامى وبالطبع مدينته وبلده، فأني قد فقدت في رحيله صديقا ورفيق درب لمدة نصف قرن. عزاؤنا بمشاركة مئات الرفاق والأصدقاء الذين أتوا من كل مكان في الشمال ولبنان لوداع الرفيق الودود والقائد الصلب، حتى أن الرفيق ألبير من البقاع تأثر بالحشد الرفاقي النوعي مستذكر ربما أغنية الشيخ “تجمع العشاق في سجن القلعة” فدعا لإعادة التواصل بين رفاق الدرب الذين يجمعهم تاريخ نضالي طويل مليء بالآمال والتضحيات، كما هو مليء بالخيبات والتراجعات والإصطفافات أو حتى الإنشطارات المذهبية.

عزاؤنا أيضا مع تساقط الاوراق الرومانسية، من عبد الفتاح لسمير ونصير وصادر ومصباح وغيرهم الكثير، أنّ سيرتهم الشخصية والسياسية ومآثرهم ستبقى في ذاكرة الأجيال القادمة وستضيء جزءا من الطريق المظلم الطويل الذي ستسلكه هذه الأجيال من أجل البلد المهدد في كيانه وتنوعه وعروبته ومن أجل العبور لدولة المواطنة والديمقراطية والسيادة المطلقة.

talalkhawaja8@gmail.com

* طرابلس، لبنان

إقرأ أيضاً:

“وفاة “علي عيد”: تقرير “أمنستي” المحظور عن “مجزرة التبّّانة ١٩٨٧.. والمقابر الجماعية

Subscribe
نبّهني عن
guest

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
Share.