تفصل بين هجمات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001 والثورتين التونسية والمصرية في كانون الثاني (يناير) 2011 عشر سنوات. هذه السنوات العشر هي الأسوأ في التاريخ العربي الحديث. وعندما يعود إليها المؤرخون، ذات يوم، سيجدون الكثير مما يثير الخجل والنفور، ويبرر التساؤل، ونقد الذات، والحيلولة دون تكرار ما حدث في تلك السنوات العجاف.
تلك هي سنوات القاعدة، والانتحاريين، والبرابرة، والميليشيات، وذبح الأسرى على شاشة التلفزيون، والحرب الأهلية، والجزيرة، والطالبان. سنوات الزرقاوي، وبن لادن، وفقهاء الفضائيات، والطغاة، واللصوص، وأسياد الحروب، وتجّار الدم والنفط وفلسطين.
هذه المرحلة قد انتهت الآن. أسقطتها الثورتان التونسية والمصرية. بيد أن هذه الفرضية لا تعني أن كل ما تقدّم سيختفي دفعة واحدة حتى في تونس ومصر. فما تزال الطريق طويلة، والانتكاسات المتوّقعة كثيرة. كل ما يمكن قوله الآن أن مرحلة قد انتهت، وأخرى في طور التكوين.
بيد أن السؤال الذي يستحق أكثر من إجابة يُصاغ على النحو التالي: ما الذي أوصل العرب إلى تلك السنوات العجاف، لماذا طردوا أنفسهم من التاريخ، وكيف ماتت السياسة على مدار عقد كامل من الزمن؟
هنا، محاولة لتشخيص ما أوصلنا إلى تلك السنوات. وهي، بالمناسبة، طريقة للتعرّف على بعض ملامح ما يتكوّن في مرحلة نزعم بأنها جديدة تماما. فالحاضر، دائما، مفتاح الماضي وسرّه غير الدفين.
1-
افتتح العرب قرناً وألفية جديدين بعملية إرهابية فريدة من نوعها في التاريخ الإنساني. في الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) هاجم انتحاريون بطائرات مدنية مُختطفة برجي مركز التجارة العالمي، ومبنى وزارة الدفاع الأميركية، مما أسفر عن مقتل ثلاثة آلاف شخص من جنسيات مختلفة، لا يتحمل أحد منهم مسؤولية السياسة الخارجية للولايات المتحدة.
أطلق منظمو العملية على هجماتهم “غزوتي نيويورك وواشنطن”. ولم يمض وقت طويل حتى خرج بن لادن معلناً مسؤولية جماعة من مخلّفات الحرب الباردة عن الغزوات، وراسماً حدودا بين “فسطاطين” جديدين في لغة السياسة هما الكفر والإيمان. جديدان بقدر ما يتعلّق الأمر بتسعة وتسعين بالمائة من العرب الأحياء، الذين خاض آباؤهم وأجدادهم حروب الكفاح ضد الكولونيالية وتصفية الاستعمار، وشاركوا في تجرب بناء الدولة القومية الحديثة.
ومن المُحيّر، والمؤسف، أن أحداً لم يتوقف طويلا أمام ما تنطوي عليه مفردات من نوع “الغزوة” و”الفسطاط”، والكفر والإيمان، من دلالات تاريخية، ولاهوتية، مغايرة للغة ومفردات السياسة في القرن العشرين. وكلها مفردات مثيرة لاهتمام المؤرخين وعلماء السياسة والتاريخ والنفس والاجتماع. حتى برنارد لويس لم يصل به الجموح أو الطموح إلى تخيّل أن مفردات كهذه يمكن أن تتحول إلى لغة للخطاب في عالم العرب الأحياء، عندما كتب قبل عقود عن لغة السياسة في الإسلام.
تنتمي مفردات الغزوة والفسطاط والكفر والإيمان إلى القرون الوسطى، وما قبلها. وقد خرجت من التداول في الحواضر، على الأقل، منذ الثورة العربية الكبرى ضد الأتراك، وظلت في الأزمنة الحديثة محصورة في مناطق صحراوية هامشية، لم تعرف سوى الحروب القبلية على مدار قرون.
لم يكن مقدراً لتلك المفردات أن تصعد من الهامش إلى المتن، بالمعنى التاريخي للكلمة، لولا تضافر ثلاثة عوامل أعادتها إلى مكان الصدارة، وحوّلتها إلى لغة في السياسة، تجنّد الأنصار، وتزعزع مفردات استقرت في الوعي العربي منذ مطلع القرن العشرين. مفردات من نوع: الحرية، والاستقلال، والكفاح ضد الكولونيالية، وحروب التحرير القومية، والعدالة الاجتماعية، والمساواة، والمواطنة، وحقوق الإنسان.
الانزياح اللغوي، هنا، ليس من زلاّت اللسان. فاللغة ليست وسيلة اتصال وحسب، بل وعلاقة بالعالم أيضا. بمعنى آخر، ثمة مشكلة معرفية، هنا. بعد الثورة الإيرانية بقليل وصف محمد حسنين هيكل الخميني برصاصة انطلقت من القرون الوسطى واستقرت في قلب القرن العشرين. وهذا ما يمكن أن يُقال عن المفردات الجديدة وأصحابها، مع فارق كبير:
الدوافع المحرّكة للرصاصة الجديدة تختلف عن مثيلتها الإيرانية أولا، ولحظة وقوعها جاءت في زمن الفضائيات ثانيا، وتضافرت في شحنها بالبارود مصالح إقليمية ودولية أكثر قوّة وتعقيدا ثالثاً.
2-
يمكن التفكير في تلك العوامل وتصنيفها على النحو التالي:
أولا، صراع الحضارات. الفكرة التي جالت دائما في أذهان أشخاص مختلفين وفي أزمنة مختلفة، ووجدت تعبيرها اللغوي الجديد، ومبرراتها النظرية (التي لا تخلو من رصانة أكاديمية مفتعلة) على يد الأميركي هنتنغتون، الذي توّقع أن ينشب الصراع العالمي الجديد ـ بعد انتهاء الحرب الباردة بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي ـ نتيجة الصدام بين كتل حضارية ودينية، في طليعتها صدام عالم الإسلام مع الغرب المسيحي. وقد وجدت هذه الفكرة قبولا لدى أوساط مختلفة في الغرب والشرق على حد سواء.
تغذّت في الغرب على تحيّزات استشراقية، وذكريات تاريخية، تبرر الخوف من وكراهية عالم الإسلام والمسلمين. وفي الشرق، ولنقل في العالمين العربي والإسلامي، تغذت على سياسات الهوية، السلاح الأمضى لدى جماعات الإسلام السياسي المعارضة، وانتفعت من حقيقة أن عددا كبيرا من الأنظمة القائمة في هذين العالمين يستمد شرعيته من سياسات الهوية نفسها، للحد من قدرة معارضيه على انتقاده لأسباب تتعلّق بالمساواة والعدالة الاجتماعية والحريات العامة والمواطنة. وقد ازداد ميل الأنظمة إلى توظيف سياسات الهوية بعد إخفاق مشاريعها التنموية، وتحوّلها إلى دكتاتوريات سافرة.
ثانيا، ردة الفعل الأميركية بعد هجمات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر)، التي اجتمعت فيها تحيّزات استشراقية، وذكريات تاريخية قديمة، مع حسابات عقلانية باردة بشأن مستقبل الإمبراطورية الأميركية بعد انتهاء الحرب الباردة، على أمل أن يكون القرن الحادي والعشرين أميركياً أيضا. وفي سياق ردة الفعل هذه احتل الأميركيون أفغانستان والعراق، وأطلقوا على مستوى العالم حملة عسكرية وسياسية واقتصادية ودعائية، تشبه صيد الساحرات، اسمها الحرب على الإرهاب.
لتمرير الحسابات الباردة وحملة الانتقام، قدّم الأميركيون مرافعة أيديولوجية حول الديمقراطية، التي حمّلوا غيابها في العالمين العربي والإسلامي مسؤولية الإرهاب. وقد أسهمت التداعيات السياسية والثقافية لهذه الحملة، التي كانت انتقائية ومنافقة، في تعزيز ميل الأنظمة القائمة إلى توظيف سياسات الهوية دفاعاً عن نفسها وعن خصوصيات وهمية، اجتماعية وثقافية وسياسية، زعمت أن الأميركيين لا يفهمونها جيداً من ناحية، وإلى تبرير ممارساتها غير الديمقراطية كعلاج لا غنى عنه في صد موجة الإرهاب من ناحية ثانية.
ثالثا، توّفر الدفيئة الأيديولوجية والمالية والاجتماعية والسياسية للقائلين بمفردات الغزوة والفسطاط والكفر والإيمان. فلم يكن من قبيل المصادفة، مثلا، أن الغالبية العظمى من المشاركين في هجمات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) كانوا من السعوديين أولا، وأن الوهابية كانت مصدر رؤيتهم لأنفسهم وللعالم ثانيا، وأن قيادتهم تنحدر بالمعنى التنظيمي من سلالة “المجاهدين” في الحرب الأفغانية، الذين أصبحوا بلا قضية بعد خروج الروس، واندلاع الحرب الأهلية بين أمراء الحرب الأفغان، وانتهاء الحرب الباردة ثالثا.
3-
بيد أن أفغانستان لم تكن هي الدفيئة، بل مارس هذا الدور بامتياز المجتمع السعودي، الذي شهد ميلا متزايداً نحو تديين كافة مناحي الحياة منذ اندلاع الثورة الإيرانية في العام 1979، وتمرّد جهيمان العتيبي في العام نفسه. ولنلاحظ أن الانخراط الفاعل في الحرب الباردة وقع أيضا في ذلك العام بعد الاجتياح السوفياتي لأفغانستان.
خرج الحكّام السعوديون في ذلك العام بخلاصتين فحوى الأولى أن حداثة الشاه القومية واستعداء رجال الدين أسهما في سقوطه، والثانية أن الرد على التطرّف باسم الدين يُعالج بمزيد من الدين. وهذا تحوّل كبير وبعيد الأثر في مجتمع يتسم بالمحافظة، وتفشي الأمية، ويقوم نظامه السياسي على التحالف التاريخي بين العائلة الحاكمة ورجال الدين الوهابيين.
ولم يكن مقدراً، بالضرورة، لما أصاب دفيئة كهذه أن يُحدث تحوّلات بعيدة المدى في العالم العربي لولا اجتماع وتضافر عوامل إضافية في فترات تاريخية متقاربة. في نهاية الستينيات، وبالتحديد في العام 1967، تكبّدت الناصرية ضربة موجعة بالمعنى السياسي والثقافي والعسكري.
وعجّلت وفاة عبد الناصر بعد سنوات قليلة في إسدال الستار على مرحلة الحرب الباردة العربية ـ العربية التي امتدت على مدار عقدين من الزمن(1949ـ 1970) ووسمتها حروب الأيديولوجيات، وحلقات متلاحقة من الانقلابات العسكرية، والحركات الراديكالية التي أطاحت بعروش، وأشعلت حروبا أهلية، وخاضت حروبا للتحرر القومي، ودعت إلى الوحدة العربية.
ولا شك أن الضغوط التي جابهت الحكّام السعوديين في تلك الفترة كانت مُفزعة. فقد وجدوا أنفسهم في طليعة معسكر المحافظين العرب، وقد أحاطت بهم العديد من الضواري الأيديولوجية.
فالقومية العربية في صيغتيها الناصرية والبعثية، وقشرتها العلمانية، ودعوتها الاشتراكية، ومشروعها التحديثي، تهدد شرعية وبقاء النظام نفسه. وحتى إذا لم تفعل، فإن مجرد التأقلم معها يعني المجابهة مع الولايات المتحدة، الحليف الاستراتيجي الذي يؤمن الحماية للنظام، والذي لن يتورع في حال المجابهة الحقيقية عن احتلال منابع النفط. أما اليسار والشيوعية فيجسدان الشر المطلق. لذلك، رفض لحكّام السعوديون إقامة علاقات دبلوماسية مع الاتحاد السوفياتي.
والواقع أن صعود السعوديين إلى مكان الصدارة في السياسة العربية بدأ منذ قمة الخرطوم في العام 1968، عندما تعهدت الدول النفطية بتمويل ما عُرف آنذاك بدول المواجهة، وتكرّس بعد خمس سنوات، مع الحظر النفطي في العام 1973، الذي صيغت حوله أساطير كثيرة.
أما خلاصته فكانت زيادة الرصيد القومي والمالي للسعودية ودول النفط، وإعادة اكتشاف الولايات المتحدة والغرب للقيمة الإستراتيجية لهذا الجزء من العالم، على الرغم من حقيقة أن شركات النفط الكبرى لم تتضرر ماليا من الحظر. وقد تعزز هذا الرصيد مع انقلاب الرئيس السادات على الناصرية، وإخراجه لمصر من حلبة الصراع العربي ـ الإسرائيلي.
وهذا ما سنعود إليه في أكثر من مقالة قادمة على أمل استكشاف معنى نهاية مرحلة وبداية أخرى جديدة ومثيرة للتفاؤل، ربما من بين أسمائها: ربيع الشعوب العربية.
Khaderhas1@hotmail.com
كاتب فلسطيني يقيم في برلين
الأيام