يـُعرف الباحث الفلسطيني الدكتور خالد سعيد ربايعة البحث العلمي بأنه “مجموعة من النشاطات والتقنيات والأدوات التي تبحث في الظواهر المحيطة، والتي تهدف إلى زيادة المعرفة وتسخيرها في عمليات التنمية لمختلف جوانب الحياة”. وطبقا للربايعة فإنه “يسمى البحث علميا إذا إعتمد على تجميع معلومات كافية من تجارب علمية يمكن قياسها والتحقق من دقتها عن طريق الملاحظة أو التجربة وتصنيف نتائجها ومن ثم يـُصار إلى وضع فرضيات معينة لتفسير تلك الظواهر وتصميم تجارب أخرى لإختبار تلك الفرضيات وتحويلها إلى نظريات.”
ومما لا جدال فيه أن نسبة الإنفاق على البحث العلمي في الدول العربية إلى مجموع الناتج القومي الإجمالي لهذه الدول متدن جدا ولا تتجاوز 0.80 بالمائة في أفضل الأحوال فيما هي تتجاوز 3 بالمائــــــــة علــــى الصعيد العالمي. فطبقا لبيانات منظمة اليونسكو تقبع الدول العربية منذ نحو أربعة عقود في مؤخرة دول العالم لجهة الإنفاق على البحث العلمي الضروري لإيجاد حلول ناجعة لقضايا مثل التصحر وندرة المياه والغذاء والطاقة وتحسين الخدمات الصحية والتعليمية والمرفقية. ففي الوقت الذي تخصص فيه بلدان مثل الهند وكوريا الجنوبية وتايوان وسنغافورة ما بين 2-3 بالمائة من ناتجها القومي الإجمالي لأغراض البحث والتطوير، فإن المملكة العربية السعودية التي تحتل المرتبة الخامسة في العالم لجهة الناتج المحلي الإجمالي للفرد، لا تزال – رغم كل خططها الوطنية للإرتقاء بالتعليم – تقبع في المرتبة ما قبل الأخيرة من حيث الإنفاق على البحث والذي لا تتجاوز نسبته 0.05 بالمائة، فيما تحتل البحرين، التي عرفت التعليم الرسمي قبل غيرها من دول المنطقة ولديها جيش من الخريجين الجامعيين، المرتبة الأخيرة عالميا في الإنفاق على البحث العلمي بـ 0.04 بالمائة من قيمة الدخل القومي.
ومما لا جدال فيه أيضا أن الإنفاق السخي على البحث العلمي هو الذي لعب الدور المحوري في تفوق إسرائيل على مجموعة الدول العربية. حيث رصدت دراسة فلسطينية الأمر وتوصلت إلى أن تل أبيب تنفق ما مقداره 4.7 بالمائة من ناتجها القومي على البحث العلمي، وهذا يمثل أعلى نسبة إنفاق في العالم في هذا المجال. كما توصلت الدراسة إلى حقيقة أن أنشطة البحث العلمي في الجامعات الإسرائلية هي من أقوى الأنشطة البحثية في العالم، بل ” تتبوأ المركز الرابع على مستوى العالم، ولاتتقدم عليها سوى سويسرا والسويد والدانمارك من حيث عدد المقالات العلمية لكل مليون مواطن، حيث نشر العلماء الإسرائيليون 6309 بحوث في دوريات علمية أجنبية، ويقارب دورهم في النشاط العلمي العالمي عشرة أضعاف نسبتهم من سكان العالم”.
وتعزي الدراسة كل ذلك إلى عوامل مثل ضخامة عدد الباحثين المتفرغين والفرق البحثية المتكاملة، وإنخراط عدد كبير من أعضاء هيئة التدريس في المجال البحثي ومتابعة كل ما ينشر أو يبث في العالم أولا بأول، ومنع إستحواذ النفقات الإدارية على النصيب الأوفر من ميزانيات الجامعات، وتوفر هامش واسع من الحريات الأكاديمية، وتشجيع الدولة لصغار الباحثين وتدريبهم للحيلولة دون تسربهم إلى الخارج.
وعلى الرغم من الوضع المزري للبلاد العربية مقارنة بغيرها من حيث إنفاقها على البحث العلمي على نحو ما شرحناه في السطور السابقة، فإن السنوات الأخيرة شهدت خطوات جادة لتجسير هذه الهوة عن طريق إطلاق الدولة، وتحديدا في منطقة الخليج العربي، لمراكز بحثية، وقيام الأخيرة بإطلاق مجلات فصلية علمية وثقافية مـُحكّــمة تضم بين دفتيها أبحاثا جادة وموثقة للأكاديمين والباحثين والنخب العلمية والثقافية والإقتصادية.
وفي هذا السياق، تبرز مراكز بحثية عربية مرموقة مثل “مركز دراسات الخليج والجزيرة العربية” بجامعة الكويت، و”مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية” في السعودية، و”مركز دراسات الخليج العربي” بجامعة البصرة، و”مركز الإهرام للدراسات الإستراتيجية” في القاهرة، و”مركز دراسات الوحدة العربية” في بيروت، و”مركز الخليج للأبحاث” في دبي. غير أنه لا يمكن للمرء أن يستطرد دون التوقف عند “مركز الإمارات للبحوث والدراسات الإستراتيجية” في أبوظبي الذي تم إطلاقه في عام 1994 ضمن مشاريع ترسيخ دعائم الدولة العصرية، وأهداف إستقطاب الكوادر البحثية من كل مكان، وأختير لقيادته واحد من خيرة أبناء الإمارات علما وخلقا وأداء هو الدكتور جمال سند السويدي. وقد تمكن المركز، تحت قيادة الأخير وتوجيهات ولي عهد أبوظبي/ نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة الفريق أول سمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، من خدمة المجتمع عبر تقديم برامج وأنشطة وندوات علمية متخصصة، وتقديم الدعم والبحوث القيمة لدوائر صنع القرار الرسمية، هذا فضلا عن نجاحه منذ تأسيسه في إصدار نحو 700 كتاب ودراسة وسلسلة باللغتين العربية والانجليزية في مواضيع ذات صلة بالخليج والعالم العربي والقوى الإقليمية والعالمية الصاعدة والأقطاب الدولية المؤثرة.
ومؤخرا إختار المركز تاريخا متميزا هو 12/12/2012 لإطلاق مجلته الفصلية المحكمة التي أطلق عليها إسم “رؤى إستراتيجية”، وذلك وسط حفل بهيج وحضور لافت للمشاهير في دنيا الفن والأدب والرياضة والمال والإعلام والدبلوماسية. وفي الكلمة الإفتتاحية للعدد الأول من المجلة عبر الدكتور جمال السويدي عن أمله في أن تكون مجلته “إضافة نوعية جادة تدعم، ولو بقدر بسيط، الانتاج المعرفي العربي، وتسهم في معالجة التأثيرات السلبية للأزمات المختلفة” مشددا عل أن “المنافسة بين الدول والأمم في القرن الحادي والعشرين تحتاج الى جرعات أكبر من البحث العلمي والمعرفي وإطلاق طاقات الإبداع الفكري في دولنا الخليجية والعربية، ذلك أنه من الضرورة بمكان إستعادة قيم البحث العلمي وتقاليده العريقة وتأكيد الرصانة والمنهجية كمداخل حتمية للنشر في الدوريات العلمية المحكمة. ولم ينس الدكتور السويدي أن يعترف في كلمته خلال الحفل بأن تراجع دور ومساحة البحث العلمي في البلاد العربية لا يـُعزى فقط إلى ضعف التمويل والإمكانيات فحسب وإنما أيضا إلى إتسام مناخ البحث العلمي في كثير من دول المنطقة بالجمود والإفتقار إلى روح الإبتكار والمبادرة، وتحوله إلى بيئة طاردة للعقول المبتكرة والكوادر البشرية الماهرة. ولا يرى الدكتور السويدي أي عيب في إنجاز البحوث والدراسات العلمية لأغراض محصورة في نيل الترقيات العلمية لأن ذلك من المسلكيات البديهية التي لا غبار عليها، لكن العيب هو أن تخلو تلك الدراسات من الإبتكار والتطوير وسبل معالجة أزمات ومشاكل المجتمعات وقضايا العصر،والتصرف كما لو كان الأمر مجرد ترف علمي.
*باحث ومحاضر أكاديمي في العلاقات الدولية والشأن الآسيوي من البحرين
elmadani@batelco.com.bh