نتابع ما تطرحه الكوكبة الجديدة من المشتغلين بالإسلام السياسي، لإدخال الإسلام في كل مدخل ممكن من العمل السياسي، وضمن هؤلاء نتابع ما كتبه استاذ العلوم السياسية الدكتور فوزي خليل (حاصل على دكتوراة العلوم السياسية وكبير مذيعى اذاعة الفرآن القاهرية) حول كيفية صناعة القرار السياسي في دولة إسلامية تلتزم الشريعة عند صنع هذه القرارات.
يقول الدكتور فوزي: “إن عملية صنع القرار في الرؤية الإسلامية، بحكم مقاصدها ومرجعياتها، هي عملية ترتبط في تفاعلاتها بمفهوم التدبير، الذي يعني التفكير العميق والدراسة الواعية للأمور لتدبير الأمور، في الأمة تدبيراً يصلحها في الدنيا والآخرة”. ودعماً لما يقول يقدم استشهاداً من كلام الإمام جلال الدين السيوطي في كتاب الأشباه والنظائر إذ يقول: “إن التصرف على الرعية منوط بالمصلحة”.
هنا نجد أنفسنا بإزاء أكثر من سؤال، هل ما يطرحه السيد الباحث هنا هو رأي رجل دين أم رأي أستاذ علوم سياسية؟ لأن الأمر يستشكل علينا ما بين إعلانه عن علميته التي حازها بأرفع الدرجات على المستوى العلمي في دراسة السياسة، وما بين ما يقول لنا هنا، خاصة مع ما يستخدم من ألفاظ ذات نكهة سلفية ورنين إسلامي عتيق، فماذا يقصد مثلاً بالتدبير كمفهوم يرتبط بعملية صنع القرار في الرؤية الإسلامية؟ يعرفه بأنه تفكير عميق ودرس واعي لتدبير الأمة بما يصلحها دنيا وآخرة. إذن التدبير تفكير عميق ودرس واعي من أجل ماذا؟ من أجل العثور على التدبير الذي يصلح شأننا دنيا وآخرة. وهكذا تاه منا التدبير هل هو مبتدأ أم منتهي أم وسط عملية اتخاذ القرار السياسي، وهل هو وسيلة نصل بها مباشرة إلى صالح الأمة، أم أن التدبير هو هدف العملية “لتدبير الأمة بما يصلحها دنيا وآخرة”.
ألفاظ زئبقية بلا معنى محدد واضح يمكن أن تضيف إليها أو تحذف دون أن يتغير أي شئ، لأنه في مساحة المفاهيم غير المتفق عليها يمكن لأى شئ أن يكون أى شئ, إن لم يعرفنا ماذا يعني بالتفكير العميق الذي هو التدبير المؤدي إلى التدبير؟ ولا كيف يتأتى لنا هذا التفكير؟ كيف ينشئه العقل البشري ليأتي بالشكل السليم؟ إن عبارات الدكتور وما يقدمه من مصطلحات يشير إلى إنها لم تأت بالشكل السليم، فليس من الضروري أن يؤدي التفكير العميق الذي هو التدبير إلى صلاح الدنيا والآخرة، فالأساطير والخرافات كلها كانت نتيجة تفكير عميق وتدبير، الدكتور لا يفرق بين عقول تفكر، وأخرى تفكر لكنها لا تعرف كيف تفكر، المسألة هي كيف نفكر؟ لا أن نفكر تفكيراً عميقاً والسلام.
ومثل هذا التفكير الذي يعرف كيف يفكر ليصل إلى نتائج يطبقها في الواقع فيؤدي للنجاح والصلاح والمصلحة والتفوق، له أصولة الفلسفية والتي تم اكتشافها حديثاً في عصر النهضة على يد فلاسفة ومفكرين عظام، أسسوا لاكتشاف الجديد وإبداع ما لم يكن موجوداً، ووضعوا نظماً حقوقية لحماية الكرامة الإنسانية، وأسسوا لعلوم السياسة وفق أدق المصطلحات، فليس عندهم تدبير بما يصلح الدنيا والآخرة، وإنما هناك تفكير علمي أنجز وحقق واخترع وأبدع وإكتشف فأقام الحضارة الحديثة كأعظم حضارة عرفها الكوكب الأرضي.
وحتى لو قررنا التدبير كما يريد الدكتور فإننا سنعجز عن الوصول به إلى صلاح الدنيا وصالح الآخرة، لعدم أخذ الدكتور في الاعتبار بما وصلت إليه علوم السياسة وهي تخصصه الدقيق, وفق عمليات وآليات للتفكير والتعليم. ولأن صلاح الدنيا شأن مدني محض خالص لا دخل للدين فيه، وحتى إعمار المسجد الحرام والمسجد النبوي لم يقم على تدبير وتفكيردينى عميق، بل قام على علوم الهندسة الحديثة وفنون قام بها متخصصون طليان وأسبان وغيرهم من الكفرة. ولوكان التدبير هو منشئ الصلاح في الدنيا، لكان مسجد النبي فى زمنة الأول هو أفخم بناء أنشئ على الأرض لأن مدبره نبى وصحابته. بينما كان في واقعه بناء شديد التواضع والبدائية إذا قيس ببيت ريفي في كفر من كفورنا ختى فى أيامها. فالتفكير المؤدي للصلاح لا علاقة له بالدين أو بالإسلام أو بمصطلحاتهم السلفية، فالمصطلحات ليست أدوات سحرية تفعل بمجرد النطق بها. أما التفكير العلمي فقام خارج النبع الإسلامي، وقام بجهود أبناء الحضارات السابقة على الإسلام، فتنوعت هندساتها بتنوع أصولها الحضارية، فالمساجد في مصرمصرية بفن مصرىوهى غير المساجد في الشام بفنون أهل الشام وليس أهل الجزيرة وغيرها في أسبانيا وغيرها في جزيرة العرب، فشأن تدبير الدنيا شأن إنساني أرضي بحت. اما شأن الآخرة فهوما ليس بيدنا إنما هو بيد رب الدين، لأن الآخرة ترتبط بالدين والعبادات وأصول التوحيد… إلخ، ولا دخل بتدبيرنا فيها، فلا نحن نستطيع زيادة ركعات العشاء ولا الصيام في يناير ولا الحج في أمشير. هذه شئون الآخرة، وهكذا لا تجد بين يديك لا صالح الدنيا ولاصالح الآخرة.
ويدهشك ما يرطنون به هذه الأيام حول أخذهم بالحداثة وإيمانهم بالديموقراطية كسبيل للتداول السلمي للسلطة، واكتشافهم اسلوباً جديداً يتناول المستحدثات بحسبانها كانت موجودة في صلب الإسلام، فأصبحوا يفعلون في علوم السياسة ما يفعله (مصطفى محمود وأبو جلمبو وزغلول النجاروأم سحلول) في العلوم الفيزيائية.
ورغم كل هذه المشقة التي يبذلونها، تبدر منهم فلتات لسانية تشير إلى المرجع والمصدر الأصيل الذي لا يحيدون عنه، أنظره يدعم ما يقولة عن صنع قرار سياسي إسلامي بلغة تبدوحداثية، بقول الإمام الشافعي: “إن التصرف على الرعية منوط بالمصلحة”.
القوم ما زالوا يعيشون زمن كان هناك من يتصرف على الرعية، وأن عليه عندما يتصرف أن يرعى مصالح رعيته. وبدون وعي يلقي الرجل بشهادة يراها لصالح حداثته، فإذ به ينتكس انتكاسة عنيفة إلى زمنه الذهبي السالف. زمن كان الخليفة هو المتصرف على الرعية. ولا تعلم هل فيما درس من علوم سياسية أن التصرف على الرعية هو شأن من شئون الرعية، وأنها هي التي ترعى شئون نفسها، وأنها ليست قاصرة، وليست مستعبدة لسيد فاتح كما كان زمن الخلافة، حتى نقيم لها سادة أو صياء مرة أخرى تكون مهمتهم تدبير شئون مصلحتها.
إن عبارة التصرف على الرعية تعني أن الرعية ليس لها حق التصرف، هي الصورة التي تقبع في خلفيتها صورة الزمن الغابر عندما كنا عبيداً وعلوجاً وأنباطاً وأهل ذمة وأقنانا وجواري وإماء وغوغاء وعوام. لا يرون الدنيا حولهم وقد أصبح رجال الدين والعبيد والجواري والعوام كلهم سواء لأنهم كلهم شركاء في وطن واحد، ومن أجله يصنعون قراراً يعود على المجتمع بالمصلحة. أصبح الموالي وأهل الذمة يشاركون بالتفكير العميق لصنع القرار السياسي رغم أنف الإمام جلال الدين السيوطي.
المدهش في أمر سدنة الفكر الإسلامي اليوم في قولهم بالحداثة، هو تبنيهم لمبادئها من عداله وحقوق إنسان ومساواة وديموقراطية… إلخ، وتبنيهم في الوقت ذاته لمتصرف على الرعية منوط تصرفه بالمصلحة، وهوأمر يجد حل دهشته في ثقتهم أنهم قد تمكنوا من التحول بالمجتمع كله بعد تهيئته عبر وسائل الإعلام والتعليم والمساجد لقبول نظام المتصرفين على الرعية.
أما ما يدهش المتخصص في الدراسات الإسلامية، هو من أين جاء الشافعي نفسه بهذه القاعدة الشرعية ومن أي حدث زمن الدعوة، أو من أي آية أو حديث خرج بها وجعلها أصلاً إسلامياً للسياسة الشرعية كما يقول الحاج فوزى؟
إن إناطة مصلحة المجتمع بالتصرف على الرعية لم يكن واضحاً عند المسلمين الأوائل، بل كان هو الغائب الأمثل بلا نظير، وكانت مصلحة المجموع هي آخر مايعنى المتصرف على الرعية، وإذا كان المفروض أن تكون المصالح واحدة غير متغيرة، فإن تاريخنا يقول أن كل خليفة من الخلفاء الراشدين قد تصرف على الرعية بطريقة غير التي تصرف بها الثلاثة الآخرون.
وإذا كانت مصلحة الناس هي المنوط بقرارات المتصرف عليهم حقاً، فهل كان من المصلحة تغيير لغة مصرالقديمة إلى العربية، فكان أن فقد المصريون والعالم كله وعاء حضاراتهم القديمة ، وهى خسارة حضارية فادحة ليس لمصر فقط ولكن للعالم والأنسانية أجمع، حتى تحولت آثار تلك الحضارات في نظر المصرى المسلم اليوم إلى مجرد مساخيط. ولمصلحة من كان قرار إلغاء ومحوالمصرية القديمة؟ مصلحة الحاكمين؟ أم مصلحة المحكومين؟
لا يبقى من مفهوم المصلحة فيما تم طرحه حتى الآن، سوى عملية إشراك وهمي للناس لم تتحقق حتى في أفضل قرون التاريخ الإسلامي، هي ذريعة لإشراك الناس في استصدار تشريعات تجور على الناس، حتى إن تذمر الناس قالوا له بمنطق الدنيا إنها المصلحة العامة، وبمنطق الدين إنها إرادة الشريعة.
وإذا كان صنع القرار السياسي في عصر الخلافة الراشدة كان يتم وفق هذة الصياغات الكبيرة المحدثة التى يقدمها لتا الإسلاميون المحدثون أمثال الدكتور فوزى، فهلا عرفنا حضراتهم كيف كان تدبير السيدة عائشة زوجة النبي (ص) العميق لاتخاذ القرار بشن الحرب على ابن عم النبى وخليفته علي بن أبي طالب، وشقها على الإمام عصى الطاعة؟ كيف صنعت السيدة عائشة قرارها السياسي؟ وهل كان قراراها منوطاً بمصالح المسلمين؟ وكيف رفض معاوية إعطاء البيعة للخليفة الشرعي علي بن أبي طالب؟ وكيف صدر قرار إبادة آل بيت النبوة إبادة شاملة في مجزرة هي الخزي ذاته في تاريخنا العار؟. وكيف تم اتخاذ القرار السياسي منوطاً بالمصلحة لضرب الكعبة بالمنجنيق وتدميرها وحرقها على المستغيثين بها؟. هل كان هذا المجتمع مسلماً أم غير مسلم؟ لقد كان هذا هو مجتمع الصحابة الذي يدعوننا إليه الدكتور فوزي وجماعته.
لا يشك أحد في سلامة إيمان الصحابة ، لكن الواقع أن الإسلام لم يقصد إلى إقامة دولة يتخذ فيها القرار السياسي من الشريعة، فلم تكن الدولة ضمن أهدافه بالمرة، لأنها لوكانت هدفه، فلا شك أن دولة الصحابة كانت هي الهدف النموجي للدولة الإسلامية محققاً على الأرض، ولكن إذا نظرنا إلى ما كان محققاً على الأرض فسنجدة مما لا يليق أن ننسبه إلى الإسلام ولا إلى رب الإسلام، فالرب لوأراد دولة لهيأ لها ما يجعلها أعظم الدول عبر كل التاريخ، لذلك لا يمكن أن نصف دولة كلها دم وقتل وفتن وفاتحين من النهابين بأنها هي دولة الإسلام ، اللة لايقيم دولة نتاشين وقتلة متمرسين ، تلك هى الدولة التي يريدون عودتنا لها كي ننجومما نحن فيه اليوم فنستجير من الرمضاء بجهنم وخراب الدياروالخروج من تاريخ الإنسانية مكللين بالعار، الأكرم للإسلام ألا تنسبه إلى الصحابة مهما علا قدرهم لأنهم في النهاية بشر بضعف ومطامع البشر، والأكرم للإسلام ألا ننسبه إلى تلك الدولة الراشدة أو غيرها، لأنها لم تكن دولة الإسلام بل دولة العرب ودينها الإسلام. كانت إمبراطورية العرب، وما جرى فيها من ظلم وسحق وحرق يعود إلى مطامع تخص البشر العرب الحاكمين ولا علاقة للإسلام كدين بهكذا دولة. إن اللة لاينشىء دولة قتالين قتلى وشيوخ منسر.
الدين الإسلامى طلب منا الإسلام، ولم يطلب منا الدولة، طلب منا أن نعبد الله ونطيعه أملاً في رحمته وكريم غوثه، ولم يطلب منا الانضمام إلى حزب الله أو حزب البعث أو حزبنا اللة ونعم الوكيل ، ولم يطلب منا الإسلام أن نستدعيه اليوم لنستمع إلى رأيه الشرعي في عملية صناعة القرار السياسي، بينما لم تكن السياسة ولا الدولة ضمن شواغله أو اهتماماته أصلاً.
ويبقى أن نصف ما قال الدكتور بأنه عبارة نابية ومهينة للجميع ، فقولتة “التصرف على الرعية”، عبارة تهين العقل وتشين المواطنين وتصمهم بالهطل والعتة والبلة وتفرض عليهم الوصاية والهيمنة. أما كلامه عن التدبير والتفكير العميق فهى من قبيل : هوكس فوكس وشمهورش جمهورش طراطيش، هو من أدوات السحر والشعوذة، هي حركات بهلوانية كاذبة تعمد إلى إعطاء الإيحاء أنه يعمل بالعقل، بينما هو لم يعمل فيما قال حتى الآن سوى بالنقل وحدة ولم يقل شيئا له علاقة بالعقل ولا بتخصصة كدكتور علوم سياسية.
الملاحظ أنهم الفريق الوحيد الذي ليس لديه ولا يملك أي حل مبرمج لمشاكل الوطن، فهم يضعون شرطاً مسبقاً هو تمكينهم أو لاً من الحكم حتى يأتونا بعد ذلك بالحل؟ فإذا كان لديهم حلولا فهل من الحرام إعلانها على الناس؟ أم أن الحل جاهز وموجود هو نموذج الدولة الإسلامية الراشدة كما يعلنون في حالات أخرى؟
ولهذا السبب تحديداً فإن المجتمع لا يبدومقتنعاً بصدق ما تطرحه عليه فرق الإسلام السياسي، لأنه لواقتنع حقاً وصدقاً لصار منهم، ولشاهدنا في مصر ستيين مليون لحية غير مشدبة وستيين مليون لباس باكستاني. شعبنا خجول وحساس تجاه الدين فيقدم ما يثبت هذا الحياء فيقبل الحجاب ويطبق الشروط الدالة على الإسلام على الطرف الأضعف، لكنه لا يطلق لحيته ولا يربط رأسه برباط أبي الحكم أو أبي لهب وأبى عنزة . لوكان الناس مقتنعون حقاً لشاركوا في تغطية الإخوان المسلمين في الإنتخابات بالحضور بنسبة 100 % وليس 15 %. الناس منسحبون من مباراتكم يا دكتور فوزي لأنهم يعلمون أنه صراع على الحكم وأنة ليس لهم ولا لدينهم ناقة فيها ولا حمار.
نتابع معاً استكشاف مجاهل الخطاب الإسلامي السياسي المحدث للعثور على ما يمكن التعامل معه ،رغم خداع هذا الخطاب ومخاتلته وعدم شفافيته ولا وضوحه ولا تدقيق ما يقول من ألفاظ أو عبارات. نتابع استاذ علوم سياسية يضع لسياستنا في الدولة الإسلامية المقبلة طريقة صنعها للقرار السياسي بالإستناد إلى الشريعة، حتى يتحقق الوئام ونكون قد أصلحنا بما في أنفسنا فينصرنا الله على القوم الكافرين.
يقول الدكتور فوزي خليل في: “إن لدينا قواعد صارمة وضعها علماء الشريعة يجب توافرها في القائمين على إعداد القرارات ذاتها، ومرجعية هذه القرارات”.
أنظر هنا إلى اللغة والصياغة وأسلوب التعبير، علماء الشريعة وضعوا لنا قواعد صارمة، ولا تفهم لماذا علماء الشريعة دون غيرهم هم من يضع لنا القواعد طوال الوقت، وهى القواعد التي يصفها بأنها “صارمة”. ولا تفهم كيف تلتقي الصرامة في التشريع مع ما يغنيه علينا بطول موضوعة، هو وغيره من فريقه، عن ديموقراطية التشريع الإسلامي.
إن الصرامة هي الجمود، وعكس الصرامة هو السلاسة والليونة والمرونة، أما الصرامة والحدود القواطع والأمور المنتهية الغير قابلة للنقاش، فكلها مما لا يتفق لا مع الديموقراطية ولا مع الكرامة ولا مع الحرية. إنه يضع لنا هنا صنفين من البشر، صنف يسوس بشريعة الله ويضع القواعد الصوارم والحدود والقواطع، وصنف مسوس كقطعان الخراف .. هو الرعية وعليه الطاعة بدون نقاش. هكذا سيحكموننا يا مسلمين.. هكذا!!
إن الصرامة هي إحدى وسائل التعامل مع العبيد، ولا تصدر إلا عن قلوب صارمة حجرية تتفنن في صرامتها، وتغالي في احتداد هذه الصرامة يوماً بعد يوم. التشريعات الصارمة لا تعرف التسامح ولا الراي الآخر ولا المحبة ولا الإخاء ولا الليونة ولا التيسير على الناس ولا الرفق بالإنسان ولا بالحيوان. إن الصرامة مكانها الوحيد هو عندما نكون في حالة عداء وحرب مع دولة أخرى، الصرامة لا تكون بين أعضاء المجتمع الواحد، لأنهم إخوة لا أعداء، إخوة وأهل وأصدقاء على قدم وساق ليس بينهم سيد يفرض صرامته، ومسود يطيع وهومصروم.
إن الصرامة التي يعجب بها المتأسلمون بشدة كما نرى، مأخوذة من تاريخ مضى وانقبرلا أعادة اللة ولا ردة ، كانت تناسب زمنها وتتفق مع وقائع قديمها، حيث الحكم بالسيف والعقاب بالسوط وبالرجم، الحاكم أوحد مطلق النفوذ في التصرف على رعيته. إن أدبيات الصرامة هي ما تغص به أرفف مكتبتنا التراثية، تسبب لمن يقرأها اليوم الألم فى القلب والوجع فى الضمير لما كان يلحق بالعباد في دولة الصرامة من ظلم وطغيان يفطر الأكباد. وتشرح حال الرعية في عصور الظلام حيث في كل اتجاه قواعده صارمة لا تعرف الرحمة، كما أنها لا تعرف أيضاً تيسير الإسلام كما كان في بكارته الأولى، قبل أن يصيبوه بالجهامة والقتامة والغلظة بما أضافوه له عبر العصور، فأينما مددت يدك في تراثنا وجدت كنوزاً من قصص الآلام والجبروت، أسوق لكم نموذجاً لطيفاً منه نقرأه معاً من صبح الأعشى للشيخ أبي العباس القلقشندي إذ كتب يقول: “وهذه نسخة مرسوم كتب به عن نائب المملكة الطربلسية إلى نائب حصن الأكرد، بإبطال ما حدث بالحصن من الخمارة والفواحش، وإلزام أهل الذمة بما أجرى عليهم أحكامه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب (رضي)، في أو اخر جمادي الأولى سنة خمس وستين وسبعمائة وقد جاء فيه: وأما أهل الذمة ممن رفع عنهم السيف إلا بإعطاء الجزية والتزام الأحكام، وأخذ عهود أكيدة عليهم من أهل النقض والإبرام. فليتقدم الجناب الكريم بإلزامهم بما ألزمهم به الفاروق رضوان الله عليه، وليلجئهم في كل أحوالهم إلى ما ألجأهم إليه، من إظهار الذلة والصغار، وتغيير النعل، وشد الزنار، وتعريف المراة بصبغ الإزار، وليمنعوا من إظهار المنكر والخمر والناقوس، وليجعل الخاتم أو الحديد في رقابهم عند التجرد في الحمام. ويلزموا بغير ذلك من الأحكام التي ورد بها المرسوم الشريف من عدة أيام. ومن لم يلتزم منهم بذلك وأعلن بكفره وأعلى حكمه، فما له إلا السيف وغنم أمواله وسبي ذراريه وما في ذلك على مثله حيف. فهاتان مفسدتان أمرنا بإلزامهما فراراً من سخط الله تعالى وحذراً منه، إحداهما إبطال الحانة، والثانية إخفاء كلمة اليهود والنصارى، فليقدم الجناب المشار إليه باستمرار ما رسمنا به..، ونرجومن كرم الله تعالى استمرار هذه الحسنة مدى الزمان، وليقمع أهل الشرك والضلال بما يلزم من الصغار عليهم والإذلال”.
هذه هي دولة الشريعة التي كانت تطبق الشريعة بدقة وهي الدولة التي يريد أن يستعيدها لنا الدكتور فوزي خليل وإخوانه. ويفلسف لها ويؤسس بلغة معاصرة تناسب زماننا فيقول: “يغدوالإجتهاد في مفهومه الأصولي، هو الأساس الذي يقوم عليه الاجتهاد في العملية السياسية، الهادفة إلى الوصول إلى القرارت، التي تستهدف حفظ مقومات المصلحة العامة”.
إذن هو يقول أن الإجتهاد في العملية السياسية يسير عبر هدفين الأول هو الوصول إلى القرارات، والثاني هو هدف هذه القرارات وهوأن تكون مهمتها حفظ مقومات المصلحة العامة، وتكون المصلحة العامة هي المحور الذي تدور حوله عملية الاجتهاد، وهوكلام جميل لابد أن نتساءل قبله: ما هي المصلحة العامة وكيف نعرفها؟ ربما يكون طرح الأسئلة سبيلاً للوصول إلى تعريف المصلحة العامة، فهل السعي لإقامة دولة دينية تمهيداً لإقامة خلافة إسلامية إمبراطورية من المصلحة العامة؟ إم سيترتب على ذلك حتماً المصادمة مع دول العالم والمجتمع الدولي. وإعلان التمرد على الشريعة الدولية المتمثلة في مجلس الأمن والأمم المتحدة والقانون الدولي ومعاهدات جنيف. وهل من المصلحة العامة إعلان الحرب على الذين كفروا من أهل الكتاب فنبدأ مثلا بالأقربين فنستولى على أموال الأقباط ونهتك أعراض نساءهم ونستبيح ذراريهم ونستعبد رجالهم ؟ أم ترى أن تكون الأفضلية نتطهير بلاد الإسلام من الشيعة الروافض ؟ سؤال أخير: هل من صالحنا العام أن نظل محكومين بإفتاءات تنهال علينا من كل فجٍ عميق في كل طريق وفي كل مكان.
. إن المصلحة العامة شأن شعبي يخص الجميع، وليس مصلحة لجماعة محظورة أو لفريق من الشعب دون فريق آخر.
إننا كي نتعرف على صالح مجتمعنا العام، نحن في حاجة أولاً إلى رأي عام رشيد يحدد لنا المصلحة العامة ويعرفها ليأخذ بها المشرع، وقبل هذا وذاك نحن بحاجة لفك أسر الرأي العام وإطلاقه حراً، بأن توضع أمامه خيارات وبدائل أخرى يمكنه المقارنة بينها والمفاضلة قبل الاختيار. وقبل كل ما سلف وكي نوجد حرية تصنع رأياً عاماً رشيداً، علينا تحطيم الأنصاب والأوثان التي صنعها لنا رجال يشتغلون بالدين وليسوا هم الدين ، إنما هم من يلعبون بالدين وبنا ويتحصنون بالدين ضد كل المجتمع. لن توجد حرية ولا رأي عام رشيد يمكنه تحديد صالحه العام طالما كانت قلعة رجال الدين زاخرة بالرماة المتمترسين بمقدساتنا، الذين لا يجدون غضاضة أبداً في خلع المواطن من الملة بشديد البساطة. ويقتلون مفكراً مثل فرج فوده بعد صدور فتوى بتكفيره من الأزهر، وينفون غيرة من الأرض المسلمة بعد تطليقة من زوجتة لتأويه بلاد الكفرة وتحميه من عذاب رجال دين الإسلام وغضب سماحتهم وقاتم لطفهم وعسر تيسيرهم. لأن الرأي العام للمسلمين قد تم استئناسه واستعباده بمخترعات الإعلام الحديثة. أليس من قتل الرأي الحر مصـادرة الكتـب والروايـات ومحاكمـة الكتـاب والمفكرين بتهمة التفكير؟
إن أحداث ميدان الأزهر ودهب وشرم الشيخ والعريش وإغتيال الزعيم المصري الوحيد المعاصرالذي آزره رب العزة ونصره وأيده، يوم عيد نصره ونصر مصر كلها. إغتالوه رغم الماثل أمامهم من تأييد رباني، ثم حاولوا إغتيال سلفه في أديس أبابا، وقتلوا فرج فوده وطعنوا رجل نوبل العبقري رحمه الله، وطلقوا كاتبا من زوجتة وكفروا سيد القمني وحاكموه مرتين لولا لطف من الله وتأييده فحاز البراءة، فإن كان الحديث يقول: من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهمـا، فهل يعنى هذا أن الأزهر الذي طالب محاكمة سيد القمني، هو من باء بها. أليس كل هذا الذي يحدث اعتداء صارخ على حرية الفكر؟ أليس الإدعاء بأن الإسلام دين ودولة هو دعوة لعودة الاستبداد الخليفي والإرهاب الفكري، لسلب الناس حرياتهم باسم مطالبة رب العزة لنا أن نقيم له دولة في بلادنا، يرأسها نوابه من الإخوان المسلمين أو طالبان أوالبشيرأو أبوسياف!!
من صالحنا العام أن نعيش كبقية البشر في الدنيا أحراراً، لنا الحق في التفكير والإعلان عن نتائج هذا التفكير للناس، من صالحنا أن يكون لنا حقوق إنسان كاملة غير منقوصة، من صالحنا العام أن نرفض عودة العمل بنصوص الدين في دولة دين تنص على الخراج والجزية وتقيم الناس طبقات حقوقية مع العبودية وأجنحة ألحريم. لقد نسخت القوانين العالمية والرأي العام الدولي العمل بآيات العبودية والجزية، وهي حتى الآن فى فقهنا السارية المعمول بها أبد الدهور لأنها من نوع الناسخ من الآيات وليست من نوع المنسوخ، الاتفاقات الدولية نسخت الرق من الدنيا رغم أنه غير منسوخ في القرآن، ووافق المسلمون على القرارات الدولية عن يد وهم صاغرون وتم نسخ الرق من حياة المسلمين بعد أن قالوا لولى الأمر الأممى الدولي: سمعنا وأطعنا.
قرارات الأمم المتحدة نسخت فقهاً كاملاً بما يرتبط به من حديث وقرآن هو فقه الجهاد والسبي وتغيير أديان الناس بالسيف، اليوم لم يعد هناك خمس ولا فئ ولا من قتل قتيلاً فله سلبة ولامن اسر أسيرا فهو له (أي يستعبد له)، حركة التاريخ نسخت أحكام الرجم والجلد والقطع والجزية والعبودية.
ورغم درس السماء في التغيير والتبديل والنسخ والرفع والإنساء لآياتها بما يجاري حركة الواقع المتغيرالمتطور، ورغم اتفاق العالم على إلغاء الرق والجزية فتوقفت الآيات عن العمل، فإن فقهاؤنا يرفضون إعلان هذا الإلغاء بما هو في المصلحة العامة للبلاد والعباد، لأنهم لم يجرؤا كما جرؤ سلفهم الصالح على إلغاء تفعيل أحكام لتجاوز الزمن لها، مثل إلغاء عمر لمتعة الحج ومتعة النساء والفرض المعروف بسهم المؤلفة قلوبهم، وأن الرب عندما نسخ آيات، وإن الخليفة عمر عندما نسخ العمل بأحكام آيات ظلت منسوخة بأمره إلى اليوم كإلغائة سهم المؤلفة قلوبهم، ودون تدخل جبريل أو السماء، كان الهدف من النسخ في الحالتين هو مواءمة متغيرات الواقع الأرضي وتطورها من أجل الصالح العام، وتعد ظاهرة النسخ في القرآن من أبرز ظواهر مواءمة المقدس الإسلامي للمتغيرات، بحيث كان يجرى تعديلات على ذاته توافقاً مع هذا المتغير واعترافاً به، من أجل مصالح المجتمع العامة التي لابد أن تساير التطور.
تتوافق أيضاً ظاهرة النسخ في الوحي مع قانون الكون كله وهوالتغير والتطور، وضرب لنا منها القرآن الأمثال لنفهم ونتغير عندما يكون التغير مطلوباً، وحدثنا عن قوانين سقطت بحكم حركة التاريخ كما في نسخ الأحكام للأحكام. لأن التاريخ لوتجمد لما هاجر النبي (ص)، ولما انتصر في بدر، ولظلت الآيات المكية فاعلة، ولكان القرآن كله مكياً داعيا للمسالمة والمعاملة بالحسنى والصبر الجميل، لكن التاريخ تحرك فظهر الطارئ الجديد مع الهجرة وبدء الحرب على طريق التجارة المكى ، فتحرك الوحى و جاءت آية السيف لتنسخ آيات حرية الإعتقاد وأي تفكير خارج المقدس الإسلامي تحديداً. والتاريخ مازال يتحرك والدول من يومها تقوم وتسقط لتنتهي ويقوم غيرها أحدث منها وأقوى، وأكثر نظاماً وانضباطاً لما حصلتة من خبرة سابقة تؤدي إلى تحسن نوعي مع تراكمها، فتتحقق العدالة اليوم بأفضل مئات المرات مما كانت بالأمس، حتى لوكانت محكومة بقوانين مقدسة، فلم يعد لدينا عبيد ولا سبي ولا نكاح للإماء، وأمكن محاكمة الطاغية وشنقه علناً،وبقية الحبل على الجرار ، ومازالت حركة التاريخ تستهلك قوانينا وتخلق الأكثر منها إنسانية. لقد ذهبت حركة التاريخ بقوانين حمورابي وبالحركة النازية والشيوعية. وكذلك نسخت الآيات المدنية آيات مكية، وكذلك فعل التاريخ عندما نسخت قوانين اليوم الحقوقية نظام الجزية والعبودية والجلد والرجم والقطع والمنجنيق والسيف والرمح والبيداء تعرفنى .
ومن ثم لا يبقى مع موقف مشايخنا سوى أن يصمتوا أو أن يجترئوا جرأة عمر، لأننا نحن أصحاب الصالح العام، ونفهم من ديننا أن الله بمنهج القرآن الخاص جداً دون كل الكتب السماوية أن النسخ مطلب دورى كلما طرأ طارىء، وأن عمراً عندما نسخ أحكام آيات وأوقف العمل بها نهائياً رغم أنها كانت فروضاً بالمعنى الدقيق للكلمة كان يطبق تلك القاعدة الإسلامية الذهبية النادرة بين كل الأديان، كان النسخ فى القرآن وعند عمر يهدف إلى الصالح العام للناس بما فعلا، فعل الله أو لاً، وفعل الرسول مع أحاديثه نفس الفعل، وفعل عمر بفروض الله نفس الفعل، وأننا عندما نعلن أنه لم يعد في صالحنا العام أن نتحدث عن جهاد أو هتك أعراض المهزوم أو سبي الأطفال والنساء، رغم وجود آيات بذلك، فهوما لا يعني اننا قد كفرنا بالله، لأن الكافر بالله هو من ينكر وجوده وينكر قدرته الكلية، وهوما لا ينكره أحد، لأننا نعرف الله ونعرف مقدساته ونؤدي له فروضه، كما نعرف أيضاً أنه ترك لنا مساحات حرة واسعة لم ترد في النصوص، وأننا أحرار في اتخاذ القرار فيها بأنفسنا، وأن تلك المساحات اتسعت كثيراً عن زمن النبوة لظهور متغيرات هائلة لم تكن موجودة زمن النبوة ولم تصدر بشأنها أى أحكام، كما نعرف أنه ضرب لنا المثال بالنسخ عنواناً لمبدأ إسلامي في التغير، وأكده عمرة وزاد عليه أنه بإمكان المسلمين أن يفعلوا ذات الفعل في الواقع بدون وحي، فكفانا المثال، لنتخذ ما يناسب الصالح العام لزمننا بعد مضى أربعة عشر قرنا عن عمر الذى غير بعد عشر سنوات وأضطرتة حركة الواقع إلى إلغاء العمل بنصوص قرآنية بل وبإلغاء فروض قرآنية غير منسوخة .
كل هذا في جانب، ومفلسفوا الدولة الإسلامية الآتية في جانب أخر، لازالوا يتحدثون عن الوصول إلى الصالح العام عبر عملية الاجتهاد الإسلامي، أو كما قال الدكتور فوزي خليل: “يغدوالاجتهاد في مفهومه الأصولي هو الأساس الذي يقوم عليه الإجتهاد في العملية السياسية الهادفة إلى الوصول إلى القرارات التي تستهدف حفظ مقومات المصلحة العامة”.
المصلحة عامة ويعلم الدكتور فوزي وبطانته ذلك ويفهمه، لكنه لا يرى الناس قادرة على فهم مصالحها، يرون المسلمين دون العالمين أشد الناس بلها و تخلفاً وعتهاً وكساحاً عقليا حتى أنهم لا يستطيعون معرفة صالحهم العام، فهناك من يعرف لهم هذا الصالح وليس مطلوباً منهم أي بذل جهد بهذا الخصوص، فسيقوم الشيخ عاكف أو الشيخ قرضاوي أو الحاج فوزى بالاجتهاد نيابة عنا، لأن الاجتهاد ليس عبثاً مشاعاً بين الجميع، لأن المجتهد يجب أن تتوفر فيه شروط صوارم، وعندما تطالع هذه الشروط ستجد أنها لا تتوفر إلا في المشتغلين بالدين على المسلمين، من الأزاهرة، ومن الإخوان المسلمين، ومن مشايخ التلفزة والفضائيات. ومع هذه الشروط يتم استبعاد جميع المسلمين من الإعلان عن مصلحتهم العامة حتى لوعرفوها، لأنها إن صادمت رأي الشرع أو تصادمت مع مصالح راعي الشرع على الأرض من مشايخ، فإنها ستكون كفراً وعصياناً لله، ومن ثم لا يبقى سوى اجتهاد الفقيه ورأي الفقيه ومصلحة الفقيه إضافة بالطبع إلى حلفائهم من جماعات المنتفعين والتنفيذيين في أجهزة الدولة، إن نظرية الاجتهاد تضيف إلى هؤلاء أيضاً الشيوخ المسلحين، الذين أمكنهم في ظرف تاريخي لن يتكرر أن يعيقوا حركة العراق نحوالنور، بل وإعادته إلى زمن الحروب الجهادية، ويريدون أن يعيدوا مصر إلى دولة الخلافة بعد أن كانت أول دولة تتحرر من الخلافة على يد محمد علي عام 1805 م.
elqemany@yahoo.com
• القاهرة
يتلقى الكاتب المكالمات التليفونبة من الخامسة مساء إلى السابعة مساء بتوقيت القاهرة على تليفون رقم 0020189914505 عدا يومى الخميس والجمعة