جاء في صحف إدريس عليه السلام (التى ترجمناها عن الانجليزية ونشرناها مع تعليقات لنا في مجلة مصرية) أن الله خلق الانسان ليخلق به. وإدريس هذا هو الذي قال عنه القفطى (وغيره) في كتابه “إخبار العُلماء بأخبار الحكماء” إنه عاش في مصر، وهو ما يوافق ما جاء في كتاب المؤرخ اليوناني بلوتارك (46 – 120) بالالمانية Isis et lside (اي إيزيس وأوزوريس). وقد جاء في هذا الكتاب أن أصل أسم أوزير (إدريس) هو يسر، وهي كلمة غير محددة المعني، لكنها يمكن أن تترجم إلى قوة أو قدرة أو عزم. وقد عاش أوزير في مصر في عصور موغلة في القدم (10500 من الوقت الحالى) وكانت له وللحضارة المصرية صلة بكوكبة الجبار ( Orion Constellation ) لم يُكشف عنها النقاب بعد، وهو الذي علّم الناس الزراعة والصناعة والكتابة والفلك والموسيقي والختان، وغير ذلك، مما جعله مُعلّم البشرية ومرشد الانسانية، الذي يتجسد بين الناس من حين إلى آخر، ليعمل على إزالة الخرافات الحارة والتراكمات الضارة، ويقدم المعاني الحقيقية للخلاص والفداء والجذب الكوني والوصل الروحي، وطبيعة عمل الانسان.
إلى جانب ما قدمه أوزير (إدريس) للبشرية، فقد عرّفهم بالله الواحد الأحد، والمركز الكوني لكل شيء، والنبع الدافق لكل حياة، والوصل الدائم لكل العلاقات والمخلوقات. وقدم الشريعة في لفظ واحد هو “ماعت” الذي يعني الحق والعدل والاستقامة والنظام، فكان على كل فرد أن يؤمن بالله، وينجذب إليه (بالجذب الصوفي) ويتواصل معه (بالوصل الواعي)، ومنه وعنه يضع في قلبه الحق والعدل والاستقامة والنظام، ثم ينشرها فعلا وقولا إلى الناس جميعاً.
وكانت لأوزير اسماء متعددة حسب اللهجات المختلفة والمناطق المتعددة. وقد نطق اليونان اسمه أوذريس، بإضافة الياء والسين، كعادة أجروميتهم للتنوين، ثم صّحف للعرب لفظ أوذريس ليصبح إدريس، وهو تصحيف عادى لفروق النطق. وقد ورد اسم ادريس في القرآن مرتين (واذكر في الكتاب ادريس انه كان صّديقا نبيا، ورفعنا مكانا عليا) سورة مريم 56 : 59 (وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كلا جعلنا من الصابرين) سورة الانبياء 21: 85، ويخلط البعض إدريس بأخنوخ، لورود اسم أخنوخ في ثبت اسماء أولاد آدم في التوراة، ولكى يجعلوا له صلة بأنبياء التوارة، لكن الواقع أن أدريس (أوزير) ليس هو أخنوخ، وأنه يسبق عصر هذا بكثير، فهو مصري وُجد وعاش – على الراجح – 85000 عاماً قبل الميلاد، أى 10500 عاما من وقتنا الحالى.
وقد سادت عقيدة إدريس، البسيطة والنقية، وتخللت كل عقيدة تلتها، ففي القرآن (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة) سورة فصلت 30 وفي التوراة ورد (إهدني في سبيل مستقيم) مزامر 37: 11.
هكذا، حَيَتْ مصر حكاما ومحكومين تؤمن بالله الذي ليس كمثله شيء، وتعتنق الحق والعدل والاستقامة والنظام، شعبا راقيا ساميا وديعا. ولم يكن الحكم آنذاك حكم الفرعون، فأصل اسم فرعون في المصرية القديمة (برعو) أى البيت العالى، ثم صحفه العبرانيون إلى فرعون، ومنهم انتقل إلى العرب، ليفيد معني التعالى والتجبّر والغطرسة. لكن الحقيقة أن الحاكم (الفرعون) وعماله وكهانه كانوا يلتزمون حكم الشعب وفقاً لمبدأ ماعت، الذي هو الحق والعدل والاستقامة والنظام. وفي متون الاهرام، وفي هرم اوناس، من الاسرة الخامسة، يقول فيها عند محاكمته السماوية بعد الموت، إنه كان يحكم طبقا لنظام ماعت، الحق والعدل والاستقامة والنظام (الكونى)، فلم يحد عنها قط.
وظل الحال كذلك حتى نهاية الأسرة الخامسة، حين انتهز البدو المقيمين في البلاد الصحراوية شرق مصر، ما بها من وفرة وثروة ونماء وإزدهار وسماحة، وظلوا يهاجرون إليها زرافات زرافات، حتي كوّنوا في مصر جاليات كثيرة، فرضت مسالكها وتصرفاتها. ولما كان السلوك اجتماعياً، فقد حدث أن اضطر المصريون، للحفاظ على أنفسهم، إلى الهبوط إلى مستوياتهم في التصرف والتعامل، وفي القول والفعل، حتي انتهي الامر بسقوط نظام ماعت، فسقطت الاسرة الخامسة، وبدأ بالاسرة السادسة عهد الاقطاع، ويقول الامريكي عالم الاثاريات المصري جيمس هنري برستيد: إن سقوط نظام ماعت كان أكبر كارثة حلت بالانسانية.
ذلك إنه بدلا من الينبوع الأخلاقي الذي يكمن في القلب (أو الضمير) ويتجلي في الأقوال والأفعال ويحاسب عليها المرء بعد موته، فقد تغير ذلك تماما، وانقلبت الدوائر على نفسها وانكفأت الأمور على عقبيها، إذ انقطعت الروابط الالهية وانقضت العلاقات الكونية وانبتت التواصلات الانسانية، فاختلت الموازين واعتلت المعايير واضطربت المقاييس، وصار كل شيء إلى عكسه وكل مبدأ إلى ضده، الوحدة شتاتاً، والقبضة نثاراً، والحب كرها، والوداعة عنفاً، والبصيرة عماء، والتضامن تنافراً، والتكامل نقصانا، والسلام قتالا، والصفاء عكارة، والجماعة أفرادا، والروحية مادية، والتجريد تجسيداً، والألوهية وثنية. ومنذ هذا الوقت، وحتي وقتنا الحالى، ساد الظاهر والمجسّد والبراني والمشهود والمنظور.. إلى ما ماثل، واختفي أو غام أو تحور أو تحول، الباطن والخفى والمعني والجوّاني والغيبي.. وما هو في هذا السبيل.
لقد انقطع الخيط الماسي والرباط الروحي بين الارض والكون، بين الانسان والله، فصارت البشرية، كل فرد فيها إلا النادر منهم، إلى وهاد الضياع بدلا من ثبات اليقين، وإلى الظلام الدامس عوضاً عن النور الساطع، وإلى فارغ القول بدلا من واضح الفعل.
لم كان ذلك؟ وما سبب هذا التحول الخطير؟ ربما يقتضي السياق بيانا وجيزا لكنه كافيا، في هذا الصدد.
ففي مصر القديمة – كما انف البيان في دراسة سابقة – كان المصريون على مدى تاريخهم يعبدون الله الواحد الأحد ( neter uno )، ومع أن مصر فصلت عنها أغلب آثارها، فلم يظهر أبدا تمثال لله الواحد الأحد، الذي لم يكن يماثله خلق، وكان خفياً ولفظ آمون يفيد معني الخفى، وقد خلق الله الكون بالكلمة، وهى الحكمة وهي الابداع (على نحو ما يقول القرآن: كن فيكون).. وكانت ماعت هي الرفيق أو المتناغم ( Consort ) للكلمة – والمتناغم هي من لفظ التناغم أو التوافق ( Harmony ). فكان المصريون القدماء يعبدون الله، ويبجلون الكلمة، ويطوون قلوبهم على تلك العبادة وذاك التبجيل، بما يتجلي في تطبيق ماعت، أى الحق والعدل والاستقامة والنظام، في كل فعل وأى قول. ولم يكونوا يعرفون خيراً، بل شخصاً خيّراً، كان أوزير (إدريس) رمزا له؛ كما كانوا لا يعرفون شراً، بل كانوا يرون الشرير ورمزه ست، أخ أوزير الذي غار منه وقتله.. ولكى يكون الشخص خيّراً عليه أن يتمثل بأوزير في كل حياته، وإن لم يفعل ذلك كان متمثلا بست رمز الشر والخيانة والعدوان. ولفظ ست هذا هو الذي نطقه العبرانيون، ثم بنو إسرائيل، “سيطان”، وصار في العربية “شيطان” وفي الانجليزية ( Satan ). وهكذا، ولم يكن لديهم لفظ يعبّر عن الدين، إذ كان الدين عندهم أسلوب حياة، يكون فيها الخيّر متمثلاً بأوزير، ويكون الشرير متمثلاً بست. بهذا لم يكن لديهم ألفاظاً منبتّة عن الواقع المتحقق، وكانوا يرون أن لغتهم مقدسة، إذ كانت على قدّ العمل، ولم تكن قد انفصلت عن الواقع المتحقق والوجود الحى لتصبح كيانا خاصا ً بذاته، وبمفرداته، يسير ويدور ويثور ويفور بلا غرض إلا مجرد الحديث، والتأويل والتعليل والتفسير والتبرير، الذي يقوم على الألفاظ وينقطع عن الفعل أو التحقيق، بل يكون غاية في ذاته، وغرضا يستهدفه الكل دون أن يقصد به تحقيق أى شيء، وهو ما عبر عنه الشاعر العربي فيما بعد، فقال :
ولقد سئمت مآربي وكان أكثرها خبيث
إلا الحديث فإنه مثل اسمه أبدا حديث
وكان لا بد أن يمتد هذا النهج إلى النبع الأخلاقي الذي كان يصدر عن ماعت الكائنة في ذات الانسان، فيرتبط وينضبط بماعت الكونية، ومن ثم يكون لضمير الفرد علائق ووشائح وثوابت من الضمير الكوني، فصارت الاخلاق بعد انفصال الفرد عن الكون وانفصام الضمير الفردي عن الضمير الكوني كما قال أرسطو (348 – 322 ق م) بحق في كتابه الاخلاق: مجرد ثرثرة يتشدق بها العامة في مجالسهم ليقيموا منها معايير تدين أغيارهم، لكنها لا تلزمهم أبدا.
كان على المصري القديم أن يتوجه إثر وفاته إلى المحاكمة الكبري التي تنعقد برياسة أوزير (إدريس) وبحضور 42 قاضيا، فيسير إليها على صراط مستقيم، ويجتازه بسهولة إن كان نقى السريرة ثابت الجنان، إما إن لم يكن كذلك، فقدَ التوازن وسقط في نار مشتعلة حيث تلتهمه الحيوانات الضارة فيصير إلى عدم. فإذا اجتاز الصراط المستقيم ووصل إلى قاعة المحكمة، قدم نفسه على انه كان نقى القلب تقى الصدر، لم يؤذ أى انسان أو اى حيوان، وإنما أطعم الجائع، وروي الصادى، ولم يتعد الحدود. يقول ذلك صراحة بلا مراءاة، لأنه كان يخشي أن يشهد عليه عضو من أعضائه بغير ذلك. ثم يوضع الميزان، قلبه في كفة منه، وريشة العدالة (ماعت) في كفة آخرى، فإذا اعتدلت موازينه أُعلن أنه برئ ودخل الجنة. ومع الوقت، وكما يحدث عادة – فقد تدخل الكهنة – لانفصال ضميرهم الفردي عن الضمير الكوني، وانفصام الالفاظ عن المعاني والاقوال عن المباني – تدخل هؤلاء الكهنة إلى العقيدة فأفسدوها، إذ قصروا الجنة على عبّاد أوزير (إدريس) وجعلوا السبيل إليها – بدلا من الحساب العسير الذي يفيد قيام النظام الاخلاقي – تمائم وتعاويذ وسحرا وقلائد وايقونات وطلاسم وتلاوات واحجية وأدعية، فصارت زيفا، وتحولت الجنة إلى مظاهر مادية ولذائذ جسدية، يدخلها من كان يحمل سلاح الكهنة، حتي لو كان قد عاش فاسدا بلا اخلاق.
رسخت هذه المادية في عقول البشر، ورسفت في نفوس الناس، حتي بعد ظهور الدين. وقد كان المقصود بالدين أن يربط الانسانية بالكونية، ولفظ ( Religio ) اللاتينية، والتي جاء منها لفظ ( Religion ) الانجليزي والفرنسي بمعني الدين، تعني في الاصل رابط أو رابطة ( Bond ). ولكن هذه الرابطة انحرفت إلى المادية وانجرفت إلى التجسيدية. فالجنة في التوارة هي جنة عدن، وهي توجد على الأرض، جنوب العراق، وكان يوجد نهر يخرج من عدن ليسقي الجنة، ومن هناك ينقسم إلى أربعة أنهر، اسم رابعها نهر الفرات الموجود حالا (حاليا) في أرض العراق (سفر التكوين).
وقد سلف بيان ما جاء في سفر الخروج عن صورة الله، وهي صورة مادية، لأن العقل المنحبس في حواسه المادية لا يستطيع أن يتصور ما يخرج عنها، وانحصر في التقاليد لا يمكنه أن يثور عليها، ومن ثم قيل (..ثم صعد موسي وهارون.. وسبعون من شيوخ إسرائيل ورأوا إله إسرائيل وتحت رجليه شبه صنعة من العقيق الأزرق الشفاف، وكذات السماء في النقاوة.. وكان منظر مجد الرب كنار آكلة على رأس الجبل). كما أورد أبو الحسن الأشعري بعض مقالات الإسلاميين (أى مذاهب المتأسلمين) عن الله، وهي أوصاف مادية، تكلفوا في جعلها غريبة عن المألوف لكي لا يكون كمثلها شيء، فقال بعضهم (إن الله جسم وله نهاية وحد، طويل عريض عميق، طوله مثل عرضه وعرضه مثل عمله) وقال البعض الآخر (إن الله نور ساطع. له قدر من الأقدار في مكان دون مكان، وطعامه هو رائحته، ورائحته هي مجسته، وهو نفسه لون) وقال البعض الثالث (انه جسم ذاهب جاء، فيتحرك تارة ويسكن أخرى ويقعد مرة ويقوم بأخرى. وهو طويل عريض عميق، لآنه مالم يكن كذلك دخل في دور التلاشي).
هذا فكر سقيم وقول عقيم، كان الذي ينكره أو يجحده يعتبر ملحدا، مع أن ذلك الفكر هو الالحاد بذاته، إذ يحول الله الخفى إلى وثن مشهود، له أوصاف وخصائص وجسم ورسم.
ظلت البشرية تعاني طويلا من المعتقدات المادية التي ألحدت في الالوهية، وأسقطت الحادها هذا توثينا للوظائف وتجسيدا للخصائص. ولم يكن ثمت مهرب او منقذ للبشرية إلا بوضع الكهانة ضمن نطاق محدد، وإطلاق العقل بعيدا عنها حتى يصل إلى الصواب، من خلال الخطأ والتجربة.
وكان الاسلام المستقيم قيمنا بأن يكون هو البداية في ذلك، لأنه ينكر الكهانة الرسمية، ولأنه يمجد العقل ويؤسس عليه الايمان والمساءلة، لكن هذا الفتح الصائب سرعان ما انعكس إلى ضده وانقلب على رأسه، عندما ظهرت في الاسلام كهانة واقعية ( De Facto ) لها نفس سلطات وضغوط وامتيازات الكهانة الرسمية ( De Jure ) ولأن الاعتصام بالتعقل والتدبر والتفهم تحول إلى صيغ عقيدية جامدة (دوجماطية) وأحياناً خرافية، تمنع التعقل وترفض التدبر وتأبي التفهم، فإذا بالمسلمين يرددون آيات ترفض الكهانة وتعتبر أنهم قد يشكلون عبادة لهم غير عبادة الله، كما يرددون الآيات التي تقضى بضرورة إعمال العقل واتباع التقدير والتدبير والتفهم، معه أنهم يتصرفون على الضد منها وعلى العكس من أحكامها، فصدق عليهم الوصف القرآني (يا أيها الذين أمنوا لم تقولون ما لا تفعلون، كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون) سورة الصف 61: 2-3.
إن الغاية الاساسية والقبلة الرياسية للانسان أن يكون في الكون لا أن يكون من الكون، كالسائمة أو الجماد او الزاحفة.
SaidAlAshmawy@hotmail.com