خاص بـ”الشفّاف”
في مكتبه العابق بروائح السجائر، يكتشف « طريف عتوّرة » مشرع اتفاق خروج المتمردين، المحاصرين منذ 3 أشهر، من شرق « حلب »، أكبر مدن الشمال السوري. ويقول السيد « طريف » العامل في مؤسسة إنسانية أن « الروس هم الذين وضعوا الوثيقة في « مركز المصالحة » التابع لهم في قاعدة « حميميم » الروسية، قرب اللاذقية ». ويجتاز السيد « طريف » خط الجبهة الذي يقسم « حلب » بصورة منتظمة من أجل القيام بمهامه. وتحمل الوثيقة التي أطلعنا عليها توقيع الجنرال السوري « زيد صالح » وتوقيع رئيس الأركان الروسي في سوريا « سيرغي أوستينوف ». ويودّعنا السيّد « طريف عتوّرة » قائلاً: « آسف، ولكن علي أن أتوجّه فوراً إلى مركز التنسيق الروسي-السوري ».
كان ذلك في آخر شهر أكتوبر، في اليوم الأول لهدنة لم تُفلِح في إقناع الثوّار بالخروج من الأحياء الشرقية لـ»حلب » التي تعرّضت في الأيام الأخيرة لهجمات عنيفة جداً من طيران النظام. وقد اعترف مسؤول سوري كان موجوداً في مكتب المؤسسة الإنسانية بدون مواربة بأن « الروس هم الذين يقومون بالعمل. فهم يفاوضون مع أجهزة الإستخبارات التركية التي، بدورها، تنقل المعلومات إلى السعوديين، وذلك لحثّ السعوديين بالتدخّل لإقناع ثوّار « حلب »، وبعد ذلك كله يقوم الروس بإطلاعنا على النتائج »!
ومع أن « حرس الثورة » الإيراني، وميليشيا حزب الله الشيعية اللبنانية، تمسك الأرياف المحيطة بمدينة « حلب »، فإن الروس، بفضل طيرانهم، هم الذين يؤمّنون الدفاع عن ثاني مدن سوريا. ويستمر الصراع الكبير حول « حلب » منذ 6 سنوات تقريباً. وقال لنا أحد العاملين في جمعية إنسانية أن « المنتصر في حلب سيكسب الحرب كلها ».
ولم نلاحظ وجوداً كثيفاً للروس داخل المدينة نفسها. بالمقابل، صادفنا قوافل روسية كثيرة بين « عفريات » و »خناصر » قبل الوصول إلى حلب. وتقع تلك المنطقة على الطريق الذي يمتد في الصحراء على مسافة 450 كيلومتراً والذي يفصل « دمشق » عن « حلب » ». وفي الليل، يتسلّل الجهاديون الكامنون من أجل زرع ألغام على تلك الطريق الفرعية التي فتحها حلفاء دمشق الإيرانيون، والتي يتولى حراستها مقاتلون أفغان يتمركزون في حصون مرتفعة.
إعادة تنظيم بطيئة للجيش السوري
بعد سنة من التدخل العسكري الذي قرّره فلاديمير بوتين من أجل إنقاذ نظام بشّار الأسد، فإن العمل جارٍ لترسيخ « انتداب » روسي على سوريا. وقال لنا خبير أجنبي يتواجد في دمشق ويفضل عدم كشف اسمه أن « الروس يزرعون رجالهم في قنوات القرار الرئيسية في سوريا، ولكن مهمّتهم ليست سهلة ». وبفعل الضغوط التي مارسها الروس على الرئيس بشار الأسد، فقد تم، في الربيع، استبدال قائد الحرس الجمهوري « بادي المعالي » بـ »طلال مخلوف ».
وبين قادة أجهزة المخابرات المتعددة، فإن رجل الروس رئيس مجلس الأمن القومي القوي جداً، « علي المملوك »، بل « ديب زيتون »، الذي زار إيطاليا في مهمة سرية خلال الصيف الفائت قبل أن يقوم بزيارة رسمية إلى مصر. ويقول رجل أعمال يعرف النظام من الداخل أن الروس يحذرون من « علي المملوك » مع أنهم استقبلوه مراراً: « إنه رجل الأسد، وهو ضابط مخابرات متمرس جداً، ويصعب التلاعب معه ».
لقد اتخذ الإستراتيجيون الروس موقفاً نقدياً من الأسلوب الإيراني الرامي إلى خلق عدد كبير من الميليشيات من أجل سد النقص في عدد السوريين الراغبين في القتال، وأرادوا، في البداية، أن يخلقوا فيلقاً جديداً يستوعب كل الميليشيات ويحوّلها إلى قوات محترفة. وبعد جهود استغرقت أكثر من سنة من أجل إعادة هيكَلة جيشٍ كان « في حالة سيئة جداً » عند وصولهم، نجح الروس في تحقيق هدفهم. وتم الإعلان يوم الثلاثاء الماضي عن خلق « الفيلق (الجيش) الخامس » المؤلف من متطوّعين يصل عددهم إلى 10 آلاف رجل، ويقبضون رواتبهم بالدولار. ويقول أحد كوادر النظام أن « الروس كانوا يرغبون في التعامل مع الجيش النظامي وحده، ولكنهم أخفقوا ». وهذا ما اضطرهم، هم أيضاً، للجوء إلى قوات رديفة. خصوصا مجموعة « لواء القدس » من مخيم « حندرات » الفلسطيني في ضاحية « حلب »، التي كانت إيران تموّلها في السابق. وبات رجال « لواء القدس » يعتمدون الآن على الروس، مالياً ولوجستياً.
ويقول الكادر في النظام نفسه أنه « حتى لو تعامل الروس بقسوة معنا أحياناً، فإن ما يعمل لصالحهم، بالمقارنة مع الإيرانيين، هو أنه ليس لديهم أجندة دينية، وأن مستواهم المهني أرقى ».
في مركز القيادة تحت الأرض في وسط « حلب »، ينطق مسؤول الأمن العام، « أحمد »، بضع كلمات بالروسية، التي كان تعلّمها في مدرسة جهاز « الكا جي بي » السابق، في حين يعرض عملاؤه صوراً من إحدى صفحات « فايسبوك » التي خلقوها خصيصاً من أجل الإتصال بعملائهم السرّيين الذين يختبئون في صفوف المتمردين في شرق « حلب ». هل يحصلون على دعم تكنولوجي روسي. لا جواب! من جهتها، فإن روسيا، التي ترغب في معرفة ردود فعل الأهالي على تدخّلها العسكري، أنشأت خلية مراقبة في قاعدتها الجوية في « حميميم » على الساحل، في قلب المنطقة الموالية للأسد. ويعترف مسؤول عسكري سوري أنه « استناداً إلى مراقبتهم لكل ما يُقال على الشبكات الإجتماعية في مناطق المتمردين، فإن الروس ينقلون لنا النتائج لاحقاً لكي نتمكن من العمل بصورة منسجمة مع عملياتهم ».
وقد تقاسم الروس والإيرانيون سوريا إلى منطقتين: الجنوب الغربي لـ »حرس الثورة » و »حزب الله ». والشمال الغربي و »تدمر » لرجال الكرملين، الذين يبنون الآن قرب المدينة الأثرية قاعدة عسكرية سيُقام فيها رادار للتنصّت. ويمكن لهذا التقاسم لسوريا أن يتطوّر ويتغيّر حسب الظروف. فقد كان الضباط الروس هم الذين كَفَلوا الخروج الآمن للمتمردين من « داريا »، في ضواحي دمشق، وإجلاءهم إلى « إدلب »، في الشمال الغربي، والتي بات الطيران الروسي يقصفها الآن! وعلى مقربة منها، في « قُدسيّا »، فإن الجيش السوري هو الذي يشرف على خروج المتمردين، في حين يتولى « حزب الله » مهمة مماثلة في « مضايا » و »الزبداني » القريبة من الحدود اللبنانية.
لا يخفي المسؤولون السوريون خلافاتهم مع الروس. ويقول مسؤول مقرّب من بشار الأسد «نحن نريد استعادة السيطرة على سوريا كلها، في حين يبدو الروس مستعدين للإكتفاء بما يسمّى « سوريا المفيدة »، وهذا خلافنا الرئيسي معهم »! بالنسبة لموسكو، فإن الهدف هو استعادة المدن الكبرى، وضواحيها، وشبكات نقل النفط والغاز في أنحاء البلاد، بحيث لا يتبقّى لبقايا التمرّد سوى الأرياف والصحراء. وهذا التكتيك شبيه بالتكتيك الذي اتّبعه الجيش الجزائري ضد « الجماعة الإسلامية ».
إن العلاقة القائمة بين الروس والسوريين هي علاقة « واقعية سياسية » بالمعنى التام. ويُقرّ مستشار للأسد بأنه « ليس لدينا بديل »! وإذا كانت حاشية الرئيس السوري تشعر بالإمتنان للروس لأنهم أنقذوهم في سنة 2015، فإن هذا المستشار لا يخفي دواعي قلقه: « لم نعد أسياد الوضع على طاولة المفاوضات » الرامية إلى تحقيق انتقال سياسي، وهذا مع أن المحادثات السياسية تراوح مكانها حالياً. وبالكاد يخفي هذا المستشار خوفه من أن يتخلّى الحليف الروسي عن حاكم دمشق في لحظةٍ ما.
نزاع حول الحرس المقرّب من الأسد
يلعب الأسد على المنافسة بين حليفيه القويين. وفي الربيع الماضي، اضطرّت الإستخبارات الروسية للتدخّل لدى « حزب الله »، ولدى دمشق، لوقف بناء مرافق عسكرية تحت الأرض كان « الحزب » قد شرع ببنائها في الجنوب على مقربة من « هضبة الجولان » التي تحتلها إسرائيل. ولحرصها على استمرار العلاقات الحسنة مع رئيس حكومة إسرائيل، بنيامين نتنياهو، فقد نجحت موسكو في ردع حلفائها عن إقامة قاعدة خلفية لحرب مقبلة مع «جيش الدفاع الإسرائيلي ».
كما تنازع الروس والإيرانيون حول الحرس الشخصي لـ »الريّس »، الذي يتألّف من سوريين ومن إيرانيين أعضاء في « وحدة المهدي ». ويقول ديبلوماسي عربي في دمشق: « في لحظة معيّنة، سعى الروس لإبعاد الإيرانيين كلياً من الحرس الشخصي للرئيس، ولكنهم لم ينجحوا »!
إنتداب روسي أم سيطرة روسية-إيرانية مشتركة؟
أيّا كان شكلها فإن « السيطرة الروسية مقبولة، لأن الأسد لا يملك هامش مناورة »، حسب كلام الديبلوماسي العربي. ولكن « إذا كان الروس قادرين على إدارة الجانب العسكري من انخراطهم في الحرب، فإنهم لا يقدّمون شيئاً يُذكَر لإعادة إعمار سوريا. وذلك مصدر الإستياء الأكبر ».
وقد سرّعت موسكو مخططاتها في الأشهر الأخيرة، أملاً منها في وضع « دونالد ترامب » أمام الأمر الواقع قبل أن يتسلّم رئاسة اميركا. ولاسترضاء حلفائهم الأكراد، فقد وضع الروس مشروع دستور جديد يخلو من تعبير « الجمهورية العربية »، ويقتصر على « الجمهورية السورية ».
وفي « طرطوس »، يقوم الجيش الروسي بتحويل منشآته المرفأية إلى « قاعدة بحرية دائمة ». ولتأمين الدفاع عن قاعدة « حميميم »، تم نشر صواريخ أرض-جو إس-٣٠٠ » تستكمل شبكة « س-٤٠٠ » التي أقيمت سابقاً.
وأبعد من ذلك، فإن « بوتين يسعى لتحييد جيران سوريا »، حسب الديبلوماسي العربي. وبعد أن انتزع حسن نوايا مصر، وصمت الأردن وإسرائيل مقابل تحييد حزب الله، فقد تفاوض سياسياً، خلال الصيف، من أجل تعديل الموقف التركي. ويكشف الديبلوماسي العربي أنه « بفضل محطة التنصّت التي أقاموها في « حميميم »، قام الروس بتسليم الأتراك معلومات مفيدة جداً في ليلة الإنقلاب الفاشل ضد إردوغان ». ولكنه يضيف أن تحييد أنقرة ما زال هدفاً بعيد المنال. ويقول مستشار الأسد أن « الأتراك كانوا قد وعدوا الروس بعدم التوغّل أكثر من ١٢ كيلومتراً داخل سوريا. ولكنهم نكثوا بوعدهم، وتقدّم المتمردون التابعون لهم نحو معبر « الباب »، وهي مدينة تسيطر عليها « داعش » وتطمع بها دمشق وموسكو.
ويعرب المسؤول الروسي عن أمله في أنه « بالتأكيد، فإن انتخاب « دونالد ترامب »، وربما « فرنسوا فيّون » قريباً، يمكن أن يساعد حلفاءنا الروس ».
نقلاً عن جريدة « الفيغارو »: