حينما حل عيد ميلادي السبعين كنت (ومازلت) في المنفى، بعيداً عن وطني الحبيب. وقد تفـضـل د. مصطفى النبراوي، بإعداد كتاب تذكاري، بهذه المناسبة، استكتب فيه عدد كبير من الشخصيات العامة والمثقفين، ممن عرفوني عن قرب أو عن بعد. وقد تأثرت كثيراً بهذه اللفتة الكريمة من د. مصطفى النبراوي ومن كل من أدلوا بشهادتهم في حقي. واعتبرت ذلك أفضل هدية لشيخ يقترب من نهاية عُمره ـ وقد أطلعت على مسودة الكتاب الذي سيظهر قريباً.
ورغم أن الجميع كانوا كُرماء، وكال مُعظمهم لي مديحاً أخجلوا به تواضعي، وبأكثر مما أستحق، فقد استوقفني شهادة كل من د. محمد أبو الغار، الأستاذ بطب القاهرة، والمُدافع الأول عن الحُرية الأكاديمية واستقلال الجامعات، وكذلك شهادة الأستاذة فريدة النقاش، الناقدة الأدبية المعروفة وأحد أقطاب اليسار في مصر المُعاصرة. لذلك أستأذن القُرّاء في التعليق على بعض ما ورد في شهادتيهما. فقد مس كل منهما جوانب من حياتي واجتهاداتي العامة، التي ربما يشاركهم فيها آخرون. ولذلك وجب التنويه.
نبدأ بالدكتور محمد أبو الغار، والذي بدأ شهادته بالإعلان عن أنه لم يُقابلني شخصياً، ولكنه استمع إلى مُحاضرة لي في الأسقفية الأرثوذكسية عن “الفتنة الطائفية”. وأظن أنه يُشير إلى ما كان عنوانه “طريق الأشواك من الخانكة إلى الكُشح”، وذلك في فبراير 2000، بعد الأحداث الدامية في صعيد مصر، والتي وصلت ذروتها، ليلة رأس السنة الميلادية، مع افتتاحية الألفية الثالثة، والتي جرى الاحتفال بها حينئذ احتفالاً صاخباً، عند سفح الهرم الأكبر، بحضور رئيس الجمهورية وعلية القوم. كانت المُفارقة والتوقيت، مما يُقطّع شفاق القلوب.
كما يذكر الدكتور محمد أبو الغار، أنه قرأ لي كثيراً، وخاصة كتابنا الموسوعي عن “الملل والنحل والأعراق والأقليات في الوطن العربي” فالدكتور أبو الغار على هذا النحو هو مُثقف نشط، ومهموم بالشأن العام، خارج تخصصه في عالم الطب. ومن هذه الناحية فالإعجاب بيننا مُتبادل، وإن كانت دروب الحياة لم تتقاطع بشكل أكثر مُباشرة. كان يمكن معها أن نكون صديقين مُقربين.
استوقفتني الفقرة التالية في شهادة الدكتور أبو الغار:
“أعتقد أن هناك فجوة بين الشعب وأنا من بينهم وبين د. سعد سببها الحقيقي عدم الثقة في توجهات د. سعد. وربما يرجع ذلك إلى أن د. سعد كان مُؤيداً لعبد الناصر وانقلب عليه. وكان مُؤيداً للسادات وانقلب عليه. وكان مُؤيداً لمُبارك وانقلب عليه…”.
ولأنني أحترم الرجل وأخذ رأيه مأخذ الجد، فيلزم توضيح الآتي:
1ـ أن موقفي من الرؤساء الثلاثة، لم يكن تجاه أشخاصهم، ولكن تجاه سياساتهم. ولأن سياساتهم مرت بأطوار وتغيرات، فكذلك كان موقفي من هذه السياسات.
2ـ ولعل قضية الديمقراطية والحريات العامة هي مفتاح تفسير تغير موقفي من الرؤساء الثلاثة… ففي حالة عبد الناصر، كان المبدأ السادس لثورة يوليو، التي قادها، هو “إقامة حياة ديمقراطية سليمة”، ومع عام 1966، وكنت رئيساً للطلبة العرب، وكانت الثورة قد مر عليها أربعة عشر عاماً، وتوطدت أقدامها، وحققت معظم أهدافها المُعلنة، فقد حان في نظري أوان تنفيذ الهدف السادس والأخير. وقلت في رسائل مكتوبة ومقالات منشورة أن التلكؤ في تنفيذ هذا الوعد هو الذي تسبب في انتكاسات سياسية داخلية وإقليمية، لأنه يُُحرم الثورة من ثمرات الحوار الحُر، ومعرفة الرأي والآراء الأخرى. وضربنا الأمثلة لذلك ـ ومنها “تفسخ الجمهورية العربية المتحدة” وتسرب الفساد وممارسات الاستبداد إلى الحياة العامة في مصر. فما كان من عبد الناصر، إلا أن أمر بمُعاقبتي. ففُصلت من بعثتي الدراسية، وفرضت عليّ الحراسة، وسُحبت مني الجنسية المصرية. وظل هذا الوضع قائماً، إلى أن ألغى الرئيس أنور السادات تلك الإجراءات، فعدت إلى مصر عام 1975، بعد غيبة ثلاثة عشر عاماً.
3ـ ومع امتناني لما فعله الرئيس السادات، وإعجابي بقراراته التي مكنتني من العودة لأرض الوطن وإنجاز نصر أكتوبر الذي أعاد للمصريين والعرب إحساسهم بالكرامة، إلا أنني اختلفت من سياسته التالية، التي اعتقدت في حينه أنه لم يستثمر فيها إنجازات حرب أكتوبر، وأنه تسرّع في عقد اتفاق سلام منفرد، أضعف العرب في إدارة سراعهم مع إسرائيل. كما اعترضت على سياساته الداخلية المنحازة للقادرين والأثرياء، ثم تراجعه السريع عن الديمقراطية المُحددة في أعقاب انتفاضة الخُبز (يناير 1977)، وقد استدعاني إلى استراحته بالإسكندرية (31/8/1981) ووبخني توبيخاً شديداً في حضور السيدة قرينته. ولكن للأمانة استمع الرجل في النهاية لردودي. ثم طلب مني الإعداد للقاء مع المثقفين العرب للحوار، فإما أم يُقنعهم بصواب ما فعله أو يُقنعونه بخطأه في مُبادرة السلام. ولكنه رحل عن عالمنا (6/10/1981)، فبل اتمام ذلك اللقاء. ولم يمنعني ذلك من إعادة تقييم سياساته، ونشر كتابي “إعادة الاعتبار للسادات” (دار الشروق 1991).
4ـ أما الرئيس مُبارك، فقد كنت أعرفه وأسرته لعدة سنوات، ورحبت بسياساته وطهارة يده في بداية عهده، ولكن حينما حادت السياسات والمُمارسات عن الطريق القويم، فإنني بادرت للكتابة له بمؤخاذاتي. ولما لم يستجب، فإنني نشرت آرائي وتحفظاتي علناً. وكانت القشة التي قسمت ظهر البعير بيننا هي قضية مُخطط الأسرة “لتوريث الُحكم من الأب لأحد أبنائه”. ولأن ذلك بدى لي في أواخر تسعينات القرن الماضي، كما أن يوشك أن يكون ظاهرة عربية عامة، فقد نشرت مجلة “المجلة”، اللندنية مقالاً بهذا المعنى، عنوانه “الجملوكيات العربية، مُساهمة العرب لعلم السياسة في القرن الحادي والعشرين” ويوم ظهور المقال صباح يوم 30/6/2000، اختفت أعداد المجلة ظهراً من أسواق القاهرة، وقُبض عليّ في منتصف نفس الليلة. وبدأت دراما المُلاحقات والسجون والنفي، الذي ظل مُستمراً إلى لحظة كتابة هذه السطور.
هذه هي حقيقة موقفي من الرؤساء المصريين الثلاثة ـ وهي مواقف من سياسات وليس من شخصيات. وهذا هو جوهر مواقفي من أنظمة عربية ودول غير عربية. فالأساس في تحديد هذه المواقف هو السياسات، ومدى اقترابها أو ابتعادها عن المبادئ والقيم التي أدين بها. فالمطلوب من المُثقف كما يقول الراحل إدوارد سعيد “أن نجهر بالحقيقة في وجه السُلطة والسُلطان”. والحقيقة هنا هي كما يراها هذا المُثقف في حينه.
أما الأستاذة فريدة النقاش فهي وأسرتها كانت وما تزال محل إعجابي منذ سنوات طويلة، فزوجها الأستاذ حسين عبد الرازق هو من أكثر اليساريين الملتزمين انفتاحاً على الواقع المُتغير عالمياً وإقليمياً ومحلياً. ولم تحبسه الأيدلوجيا في كهف القرن التاسع عشر. وابنهما جاسر، هو من أكثر الناشطين الشباب الواعدين في مصر والوطن العربي من دعاة الديمقراطية والمُدافعين عن حقوق الإنسان. ولأنني من المؤمنين بقول الشاعر، أن “الأم مدرسة إن أحسنتها، أحسنت شعباً طيب الأعراق”. فإنني أعزو نموذجية هذه الأسرة للأستاذة فريدة. وتأخذ عليّ الأستاذة فريدة في شهادتها “أنني انبهرت بالنموذج الأمريكي…” ولم أر جوانبه الاستغلالية البشعة. ولا أدري كيف توصلت فريدة لهذه الخلاصة. فهي لا تشير إلى نص كتبته أو سلوك أتيته، ينطوي صراحة أو ضمناً على هذا الانبهار. فكتبي تزيد عن الثلاثين ومقالاتي التي تجاوزت الخمسة آلاف مُقالة مُتاحة لمن يريد أن يعرف موقفي من أمريكا كمجتمع، وثقافة، ودولة. ولا أذكر أنني روجت للنموذج الأمريكي أو عبّرت عن الانبهار به في اي من الأعمال المنشورة. بالعكس، كانت لي سلسلة “مقالات ودراسات عن الأمريكي القبيح”… نشرت في الثمانينات، وانزعج منها كل من الرئيس مبارك، لأنها في رأيه كانت تهدد العلاقة بين مصر والولايات المتحدة، واستدعاني في حينه للتوقف عن الاستمرار فيها. كما انزعج في حينه أحد زملائها من قيادات حزب التجمع، الذي تشكك في مصداقية نقدي لأمريكا، حيث أن خلفيتي ومؤهلاتي الأيدلوجية لا توحي بالمصداقية في هذا الصدد! أي أنه، كما قال لي يساري آخر أخف ظلاً، في حينه هو المرحوم فيليب جلاّد “ألا تعرف أننا في حزب التجمع أصحاب التوكيل الوحيد للهجوم على أمريكا في مصر؟”.
في كل الأحوال لست مُحترف هجوم على، أو مديح لأمريكا، أو لأي بلد، أو قيادة في الداخل أو الخارج، ولكني كعالم اجتماع سياسي: أراقب، وأرصد، وأحلل، ثم أقيّم. وذلك على النحو الذي عبّرت عنه في تعليقي على شهادة الدكتور محمد أبو الغار، أعلاه. وأغلب الظن أن الأستاذة فريدة النقاش قد سمعت من آخرين أني “مُنبهر” بالنموذج الأمريكي لأنها بالطبع لم تسمعني أبداً أشيد بذلك النموذج، وهي بالطبع لم تقرأ لي أيضاً أي شيئ منشور يُفيد “بمثل هذا الانبهار” فإذا كان الأمر غير ذلك، فلعلها تدلني أين ومتى ارتكبت فعل “الابنهار” هذا؟ فإن لم تفعل، فليسامحها الله. فهو وحده أعلم.
semibrahim@gmail.com
من سفر المنفى