في هذه الأيام الفلسطينية، الدامية المحزنة المخزية الحاسمة في آن، ينبغي أن لا تغيب عن البصيرة تلك الحقيقة التي تقف في رأس أسباب ما جرى، وما سيجري أيضاً: أنّ ما يُسمّى بـ “العالم الحرّ” أحبط تجربة الانتخابات التشريعية الفلسطينية (وكانت، كما شهد العالم الحرّ إياه، ديمقراطية في مقاييس متقدّمة، وتحت معيار ثقيل هو الاحتلال الإسرائيلي) من جانب أوّل؛ وأنّ الفصائل السياسية الفلسطينية، سواء منها التي فازت أو تلك التي خسرت، لم ترتقِ إلى أيّة سوية مقبولة لائقة بذلك الفعل السياسي الديمقراطي الرفيع. الغرب مارس الإحباط (أي: الحصار والمقاطعة والإفشال والتعطيل…) عامداً متعمداً، والقوى الفلسطينية استأنفت حياتها قبل الانتخابات (أي، واصلت ولاءاتها الإقليمية والدولية، وعصبيتها الحزبية والعقائدية، فضلاً عن تضخيم نرجسية جديدة لدى الرابح والخاسر على حدّ سواء) وكأنّ هذه الانتخابات لم تجرِ أصلاً!
هل أخطأ الشعب الفلسطيني حين منح “حماس” هذه الأغلبية، التي قد يتجاسر البعض فيطلق عليها صفة الديمقراطية الرجيمة التي كانت وبالاً على أهلها؟ وهل توجّب أن يمارس الشعب الفلسطيني تجربته الديمقراطية الأولى الكبرى، ليس من منطلق قناعات الناخب في زيد أو عمرو من المرشّحين للمجلس التشريعي، أو مكافأة هذا الفصيل أو معاقبة ذاك، أو اختيار أغلبية برلمانية استناداً إلى برنامجها الوطني إزاء مشكلات الشعب الفلسطيني المختلفة المعقدة… بل من منطلق الخشية من أن يسفر قرار الشعب عن الحصار والتجويع وقطع الأرزاق والاقتتال والحرب الأهلية والمجازر؟
هذا النوع من الأسئلة نافل، بالطبع، في أية تجربة ديمقراطية حقّة، بل هو افتئات على روح الديمقراطية، وهرطقة فاسدة. إلا في فلسطين! أو، في الأقلّ، هذا ما يحقّ للمرء أن يفهمه من مسارعة العالم الحرّ إلى الاعتراف بحكومة سلام فياض، دون أيّ سؤال أو تساؤل ـ حتى من قبيل السفسطة الشكلية ـ حول مصير القرار الديمقراطي الفلسطيني ممثلاً في المجلس التشريعي. في عبارة أخرى، تلقى الشعب الفلسطيني الرسالة التالية من “العالم الحرّ”، ممثلاً في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي: كان عليكم ان تنتخبوا مثل هذه الحكومة في الأساس، ويتعيّن عليكم في المستقبل أن لا تنتخبوا إلا مثل هذه الحكومة، تحت طائلة تكرار ما جرى من حصار وتجويع وسفك دماء!
والحال أنه إذا كانت حكومة اسماعيل هنية قد انقلبت إلى محض استطالة بيروقراطية للجهاز الأمني ـ العسكري الحمساوي، الذي بلغ ذروة قصوى دموية في إبطال القرار الشعبي الفلسطيني الذي جاء بـ “حماس” إلى الحكومة، فإنّ حكومة فياض تنقلب لتوّها إلى محض استطالة بيروقراطية للجهاز الرئاسي الذي سكت تماماً، لكي لا نقول إنه شجّع، الذروة القصوى الدموية التي بلغتها أجهزة محمد دحلان، اقتفاء للغرض ذاته في الواقع: أي إبطال الفعل الديمقراطي الذي جاء بـ “حماس” أو سيجيء بها ثانية في أيّ يوم. واستطراداً، إذا جاز اعتبار حكومة هنية دموية حمساوية أصولية صاحبة أجندات إيرانية سورية، فإنّ من الجائز اعتبار حكومة فياض انتهازية فتحاوية لاوطنية صاحبة أجندات إسرائيلية أمريكية أوروبية!
أليس لافتاً للانتباه أنّ طليعة قرارات حكومة فياض لم تكن ذات طابع اجتماعي أو اقتصادي، معيشي أو صحي أو تربوي، بل كانت تغيير جواز السفر الفلسطيني؟ ما الغرض من هذا القرار العاجل الفوري، سوى الإيحاء بإضافة حصار جديد إلى سلسلة الحصارات التي يعاني منها الفلسطيني، والتلويح بطرائق في الابتزاز ليست أقلّ سوءاً من ممارسات الاحتلال؟ أليس لافتاً، في ملفّ آخر، أن يسارع عضو اللجنة التنفيذية ياسر عبد ربه إلى الإعلان بأنّ الرئيس الفلسطيني محمود عباس سيلتقي رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت الأسبوع المقبل، مبشّراً كذلك بأن زعيماً عربياً سيحضر الاجتماع؟ ما الغرض من هذا التصريح، سوى طمأنة “العالم الحرّ” إياه حول مستقبل التفاوض في ظلّ حكومة الطوارىء العتيدة، وكأنّ حكومة هنية هي التي كانت مسؤولة عن تعطيل التفاوض منذ توقيع اتفاقيات أوسلو!
والذي يصف حركة “حماس” بأنها “إرهابية” و”انقلابية” و”تكفيرية”، كما فعل عباس مؤخراً في خطابه الناريّ أمام المجلس المركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية (الذي، للإيضاح المفيد، لم يجتمع منذ عام 2003!)، ماذا يسمّي ناخبي “حماس” الذين صوّتوا لها بالأغلبية الكاسحة الشهيرة؟ هل هم، بدورهم، “إرهابيون” و”انقلابيون” و”تكفيريون” و”خونة”؟ وإذا كان رئيس كلّ الفلسطينيين (وليس الزعيم الفتحاوي فقط، أخلاقياً ودستورياً في الأقلّ) يطلق هذه الصفات على أبناء شعبه ناخبي “حماس”، فهل نلوم الخطاب الإسرائيلي أو الأمريكي إذا وضع الفلسطينيين، جميع الفلسطينيين، في خانة الإرهاب؟ وكيف صحا عبّاس، اليوم فقط، على هذه الحقائق الإرهابية الإنقلابية التكفيرية الخيانية لحركة هزمت حركته التاريخية، وكلّفها بتشكيل حكومتين، ووقّع معها اتفاقاً ذهبياً مقدّساً في رحاب مكة المكرّمة، برعاية سعودية، وفي غمرة إغداق للمديح المتبادل وإهراق للنوايا الطيبة؟
ثمّ إذا صحّ أنّ “حماس” نفّذت انقلاباً على الشرعية، فكيف نسمّي لجوء عباس إلى هذه البدعة الجديدة التي أسماها حكومة طوارىء، تسرح وتمرح في شرعية ذاتية التوليد، حتى تقرّر الرئاسة العودة إلى المجلس التشريعي، إذا قرّرت طبعاً؟ أهو انقلاب على شرعية واقعة في كوكب آخر، وليس في رام الله؟ أم هو انقلاب مشروع، لأنه حظي على الفور بتاييد الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والدولة العبرية؟ وإذا صحّ أن “حماس” تسعى إلى إقامة “دولة التخلّف والظلام”، كما اعتبر عباس في الخطاب ذاته، فأية دولة كان يسعى إليها محمد دحلان في غزّة؟ أهي دولة الحقّ والخير والجمال؟ وفي التنكيل اليومي بكرامة المواطن الفلسطيني الغزّاوي، ما الفارق حقاً بين جهاز “القوّة التنفيذية” الحمساوي، وجهاز “الأمن الوقائي” الفتحاوي؟
وكان مثيراً للشفقة أن يلمّح عباس إلى ارتباط “حماس” بجهات إقليمية، في ما يشبه التأكيد على أنّ «المخطط المعدّ سلفاً وتوافقت عليه قيادة حماس في الداخل والخارج مع بعض الأطراف الإقليمية، كان أسبق من محاولاتنا لتجنيب شعبنا الويلات والنكبات». أهذا نقد ذاتي، أم إقرار بعجز الرئاسة وحلفائها غير الحمساويين، أم دسّ لرأس النعامة في رمال المؤامرات الخارجية؟ وكيف حدث أنّ الحمساويين سبقوا الدحلانيين على هذا النحو الخاطف، حين يكون الفريق الأوّل تحت الحصار والفريق الثاني يتنعّم بالمساعدات العسكرية والتكنولوجية والاستخباراتية الأمريكية؟ وكيف حدث أنّ الهزيمة كانت نكراء، إلى حدّ أتاح للغلاة والمتطرّفين والمجرمين من “حماس” أن ينفّذوا أبشع الفظائع بحقّ خصوم اليوم أشقاء الأمس؟
وأين كانت الرئاسة عن “مخطط” يصفه عباس نفسه هكذا: “سلخ غزة عن الضفة الغربية وإقامة إمارة أو دويلة من لون واحد يسيطر عليها تيار واحد من ميزاته التعصب»، وذلك «لتحقيق حلم مريض وأهوج في إقامة إمارة الظلام والتخلف، والسيطرة بقوّة الحديد والنار على حياة أبناء غزة وفكرهم»؟ سبحان الله! وما الذي كانت كانت الإمارات الأخرى، الفتحاوية هذه المرّة، حيث الفساد والنهب والقهر، تسعى إلى تحقيقه؟ الحلم النظيف المستنير المعافى، بدولة الحقّ والخير والجمال؟
ولائم “حماس” على ارتباطاتها الإقليمية، سواء مع النظام الإيراني أو النظام السوري، هل كان ينتظر منها أن لا ترتبط إلا مع الأنظمة التي ترتبط بها الرئاسة الفلسطينية، على نحو او آخر، مثل السعودية ومصر والأردن؟ أليس من المنطقي أن لا يكون لـ “حماس” أيّ ارتباط إلا مع هذين النظامين حصراً، فضلاً عن العلاقة الوطيدة مع “حزب الله” اللبناني، في طول الشرق الأوسط وعرضه؟ ومَن الجهة التي يمكن أن تستفيد من الدخول مع “حماس” في شراكة من أيّ نوع، سوى النظام السوري والنظام الإيراني؟ وهل هذا الحلف المؤلف من النظام الإيراني والنظام السوري وحركة “حماس” و”حزب الله”، يعني أنّ الأحلاف الأخرى على حقّ، وتسبغ بالتالي شرعية آلية على حليفها عباس؟
لكنّ الرئيس الفلسطيني يتناسى أنه زار دمشق مطلع هذا العام لا لكي يبيع الزيارة (حتى في بُعدها الرمزي المحض) إلى الولايات المتحدة وإسرائيل فقط، أو لكي يساوم عليها مع بعض الأطراف العربية مثل مصر والأردن والسعودية وقطر فحسب، بل أيضاً لكي يعيد تسويق دور ما للرئاسة الفلسطينية في ما يخصّ الحوارات الأعرض نطاقاً مع طهران ودمشق، ولكي لا يكون خالد مشعل هو الضيف الوحيد على تلك الحوارات. وللتذكير الضروري، فإنّ المشهد المسرحي الذي جرى قبيل انعقاد اللقاء بين عبّاس ومشعل، حيث تمنّعا كلّ على طريقته قبل أن تفلح وساطات وليد المعلّم، كان مجرّد تدريب على المشهد المسرحي الأهمّ الذي سيُنفّذ في زمن قصير لاحق: اجتماع رئيس مجلس الأمن القومي الإيراني، علي أكبر لاريجاني، مع الفصائل الفلسطينية المقيمة في سورية.
والحال أنّ ذلك اللقاء الفريد كان يرسل إشارتين: أنّ طهران طرف أوّل، قبل دمشق أحياناً، في ما يخصّ الفصائل الفلسطينية الإسلامية على الأقلّ؛ وثانياً، أنّ طهران طرف أوّل، قبل دمشق حتماً، في أيّ ترتيبات ذات طابع عريض يشمل قوى إقليمية عربية وغير عربية، من غزّة إلى بيروت إلى بغداد إلى الرياض. وأن يتعامى عباس عن هذه الحصيلة أمر يخصّ شخصيته الرئاسية الكارثية أساساً، لكنه لا يغيّر من وقائع على الأرض، وفي نطاق أعرض بكثير ممّا يخال العباقرة الملتفّون حول عباس، المبتهجون على هذا النحو أو ذاك بما آلت إليه الأمور في غزّة.
إنه نطاق إسرائيلي أوّلاً، لأنّ أجهزة أولمرت تعرف جيداً أين وكيف وإلى أيّ عمق تضرب “حماس” جذورها في الشارع الفلسطيني، أكثر بكثير ممّا تعرف أجهزة عباس (البعض اليوم يتناسى أنّ الدولة العبرية كانت أبرز الساكتين على صعود “حماس” منذ نشوئها، وذلك للمناورة بها ضدّ سلطة الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات في غزة). وهو نطاق أمريكي ثانياً، لأنّ واشنطن تلعب مع طهران قبل رام الله، كما لم تعوّدنا هذه الإدارة بالذات على أيّ لعب خارج القواعد الإسرائيلية. وهو، غنيّ عن القول، نطاق إقليمي طويل عريض، تمتزج فيه السياسة بالعقيدة، وتحضر على تخومه بغداد مثل كابول، فضلاً عن وطأة قبائح الاستبداد والفساد في النظام العربي كما يُعاد إنتاجها بيد دحلان وأمثاله.
وهكذا، إذا كان انقلاب “حماس” في غزّة رابحاً على الصعيد الأمني التكتيكي وكارثياً على الصعيد السياسي الستراتيجي، فإنّ انقلاب عباس في رام الله لن يضيف إلى سلطته أيّ بأس تكتيكي أو سطوة ستراتيجية في كلّ ما يتجاوز العلاقة مع “حماس”، بدءاً من أولمرت، مروراً بالرئيس الامريكي جورج بوش أو الاتحاد الأوروبي، وصولاً إلى أضراب ذلك الرئيس العربي الذي بشّرنا عبد ربه أنه سيشارك في لقاء عباس ـ أولمرت. تلك سلطة رأينا حدودها ربيع العام الماضي، ساعة هجوم الجيش الإسرائيلي على سجن أريحا، واقتحامه بقوّة الدبابة والجرّافة، وتهديم جدرانه وأسواره ومهاجعه، ثمّ اعتقال الأمين العام لـ”الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين” ورفاقه. ومن المحزن أنّ تعيد “حماس” في غزّة إنتاج ذلك المشهد الذي اجترحته الدولة العبرية حين أخرجت حرّاس سجن أريحا ومعظم سجنائه عراة إلا من ورقة التوت.
.. هذه التي يصرّ الرئيس الفلسطيني على تسميتها: سلطة وطنية فلسطينية!
s.hadidi@libertysurf.fr