أوليس هذا الخراب الكبير في الأحوال العربية مردّه إلى خراب بنيوي وتمزّق متجذّر لم يستطع العرب وطوال قرون طويلة جمع شراذمه القبلية والطائفية في كيان سياسي واحد عابر لهذه العصبيات.
هكذا، وبينما نغذّ الخطى لتوديع عامنا هذا، ما من سبيل لدينا لوصف أحوالنا سوى الرجوع إلى الأيام الخوالي، والزمن الذي مضى وانقضى. نعم، هكذا دارت الأيام ومرّت الأعوام على هذه الأمّة، ولا زالت مآسي ”البعاد والخصام“ تنهال عليها من كلّ حدب وصوب.
غير أنّ الأنكى من كلّ ذلك هو أنّ الغالبية العظمى من هذه المآسي ليست من صنع أحد سوى أهل هذه البلاد الذين سجنوا أنفسهم على مرّ التاريخ في ذهنيّاتهم، وما بدّلوا تبديلا. وهكذا ألفى الفرد العربيّ نفسه هائمًا على وجهه في أنفاق مظلمة، لا يجد بصيصًا من أمل للخروج من غياهبه في المستقبل المنظور.
كلّ هذه الانتفاضات والثورات العربية التي شهدها العالم معنا في الأعوام الأخيرة لم تفلح في إنجاب قيادات بمستوى ”الحلم العربي الكبير“، حلم الحرية والكرامة البشرية، الذي نشبت على خلفيّته. كلّ هذه الأجيال العربية الحالمة بمواكبة العصر لم تفلح في فرز تيّارات وقيادات تتخطّى الذهنيات البالية التي جُبلت عليها هذه الأقوام من قُطّان المنطقة. وهكذا، طفت على السطح تيّارات متصارعة فيما بينها على فتات من هنا وفتات من هناك سائرة بذلك على خطى الأنظمة التي انتفضت عليها والتي لا تقلّ بلادة وفسادًا وطغيانًا في آن معًا. وهكذا أيضًا، وجد العربيّ الحالم نفسه بين مطرقة التخلّف الديني والعصبويّات الطائفيّة وبين سندان الأنظمة المستبدّة بالبلاد والعباد، المفسدة في الأرض.
إنّ المأساة الكبرى هي أن يجد هذا العربيّ الحالم نفسه بين هذين الخيارين. أليس ثمّة طريق ثالثة أو خيار ثالث أو رابع؟ وهل كُتب على العربيّ أن يبقى متخبّطًا بين خيارين هما الشرّ في أسوأ مظاهره؟ والآن، وبعد كلّ هذه الأعوام المنصرمة والدماء السائلة في مشارق العرب ومغاربهم، أليس من حقّنا أن نسأل: أين هو الخير في هذه الأمّة؟ وما السبيل للوصول إليه؟
أليس من حقّنا أن نتساءل؟ أن نطرح تساؤلاتنا على الملأ سوية محاولين التفكّر في البحث عن مخارج؟ أوليس الذين يجنحون إلى تعليق المآسي العربية على كاهل الآخرين هم في نهاية المطاف جزء من هذه المآسي العربية. إنّ شعوب العالم التي انتظمت في كيانات سياسية تسمّى دولاً لها مصالحها وهذه الدول تخطّط سياساتها استنادًا إلى هذه المصالح، ليس إلاّ. وفي عالم اليوم تقف المصالح في مرتبة أعلى من مرتبة القيم. فأين هم العرب من مصالحهم؟ وهل هناك حقًّا مصلحة عربية، أم إنّ هنالك مصالح مختلفة باختلاف الشعوب والطوائف العربية الشتّى؟
والسؤال الكبير الذي نجد لزامًا علينا أن نطرحه أيضًا على الملأ: هل بعد كلّ هذه المآسي، التي شهدها أو شاهدها كثيرون من أبناء جلدتنا، يستطيع الفرد العربيّ أن يصرّح أمام ذاته في المرآة، ماذا تعني له هذه ”الهويّة العربية“ التي طالما تغنّى بها؟ وهل هذه الهوية قائمة حقًّا في الواقع، أم إنّها مجرّد أوهام أخفت حقائق أكثر تجذّرًا في بنية المجتمعات العربية، نرى ليل نهار نتائجها النازفة الآن؟
أوليس هذا الخراب الكبير في الأحوال العربية مردّه إلى خراب بنيوي وتمزّق متجذّر لم يستطع العرب وطوال قرون طويلة جمع شراذمه القبلية والطائفية في كيان سياسي واحد عابر لهذه العصبيات. ألسنا بحاجة إلى المصارحة مع ذواتنا لأجل الخروج من مآزقنا المزمنة؟
كلّ ما في الأمر أنّ الدولة كمصطلح في الثقافة العربية، ومنذ القدم، لا تعني سوى غلبة بطون قبلية واحدة على بطون أخرى لأجل مسمّى. ولولا وجود هذه الثغرات البنوية في الهويّات والعصبيّات العربية لما استطاع أحد الدخول واللعب على تشتيت هذه الأقوام المسمّاة عربًا كتسمية جامعة.
خلاصة القول، لزام على كلّ من يدّعي الانتماء إلى هذه الأمّة، بدءًا بالنخب الثقافية، والاجتماعية والسياسية، أن يعي هذه الحقائق المتجذّرة في هويّات هذه الأقوام وألاّ يغفلها لدى البحث عن سبيل للخروج من هذه المحن. إنّ الشعارات، على اختلاف مدارسها الأيديولوجية الواردة إلينا من العالم الآخر، لا تستطيع تطبيب هذه الآفات العربية والإسلامية.
ولكوننا نعرف الخلفية الحضارية التي ترعرعنا فيها، ونعرف أيضًا مدى تأثير الدين على مجتمعاتنا، فإنّ الخطوة الأولى في رحلتنا الطويلة للشفاء تبدأ بفصل الدين، كلّ دين، عن الدولة. إنّ هذا الفصل لا يعني انتقاصًا من الدين، بل هو اعتراف بثقله في حياة الأفراد. كما يعني ابتعاد الدولة عن دين الأفراد وخصوصياتهم الروحية. كما يعني هذا الفصل احترامًا لكيان سياسي يقف على مسافة واحدة من الرعايا مهما اختلفت عقائدهم الدينية. كذلك، فإنّ هذه الخطوة يجب أن تترافق أيضًا بفصل آخر، وهو فصل القبيلة عن الدولة، وهو فصل يهدف إلى خلق ”قبيلة“ كبرى، ألا وهي ”قبيلة المواطنة“ العابرة لكلّ البطون والأفخاذ البيولوجية. فإذا كان ”دودنا من عودنا“، فما علينا إلاّ البحث عن مسبّبات هذا الدود الذي نخر العود وأفسد الوجود.
من هذه الخطوة الأولى تكون بداية الرحلة للشفاء. وما لم نخطها، فسنظلّ نتخبّط في مستنقعاتنا الآسنة إلى يوم يبعثون.
ما قد يدعو لليأس هو أن ما بين 10 و20 بالمئة من العرب بحثوا عن “قبيلة جديدة” في الولايات المتحدة وأميركا الجنوبية وأوروبا الغربية. أي حوالي ربع سكان القارة العربية. وهذا قبل أن يبدأ موسم الهجرة السوري. ولكن “الجزيرة” الإخونية وقنوات “الوهابية” طاردتهم إلى “قبائلهم الجديدة” وأفسدت تجربة الإنخراط في المجتمعات الجديدة ربما1 على غرار فصل الدين عن الدولة، ربما ينبغي التشديد، كذلك، على فصل “التاريخ” عن “الحاضر”! العربي يقتل نفسه للحصول على جنسية أميركية أو أوروبية، ثم يمضي حياته في الحديت عن “مؤامرة أميركية” أو “غربية” على “ثرواته” المزعومة . سائق التاكسي الباريسي من آصل جزائري، الحامل للجنسية الفرنسية،… قراءة المزيد ..