ثمة حلقات مفقودة عدّة في الخطاب الأخير للامين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله في مدينة بعلبك اللبنانية، المدينة التي كان يمكن ان تكون اكثر مدينة مزدهرة في لبنان. كان ذلك ممكنا لولا ممارسات الحزب الذي جعل من بعلبك مأساة لبنانية بكلّ ما في كلمة مأساة من معنى.
قبل ان يختار بعلبك للإعلان منها عن “التحرير الثاني”، لماذا لا يسأل الأمين العام لـ”حزب الله” نفسه لماذا تعاني المدينة من الحال المزرية التي تعاني منها ولماذا كل هذا الظلم اللاحق باهلها ولماذا هناك مناطق واحياء فيها وفي محيطها خارج سلطة الدولة. من المسؤول عن عدم المساواة بين اللبنانيين؟ اليس سلاح “حزب الله” غير الشرعي السؤول الاوّل والأخير عن ذلك؟ اليس هذا السلاح الذي يمنع التنمية ويعزّز الاقتصاد الريعي الذي يشكّل الخطر الأكبر على لبنان ومستقبله ودوره في المنطقة؟
هناك حلقة مفقودة أخرى تضاف الى حلقة انتشار البؤس والفوضى في مناطق سيطرة “حزب الله”. في أساس هذه الحلقة، انّ لا وجود لـ”تحرير ثان” يسعى “حزب الله” الى اقناع اللبنانيين به بعد الصفقة التي عقدها مع “داعش” في جرود عرسال. ليقل لهم حسن نصرالله قبل ذلك ما الذي حصل بعد “التحرير الاوّل” كي يقتنع اللبنانيون بـ”التحرير الثاني”. كيف وظّف التحرير الاوّل، أي تحرير الجنوب، بغض النظر عن الظروف التي أحاطت به، في إبقاء لبنان “ساحة” للتجاذبات الإقليمية، بدل ان يكون بداية لمرحلة جديدة ينطلق فيها البلد في اتجاه تطوير نفسه واستعادة أبنائه الذين هاجروا الى اقاصي الارض.
لم يكن “التحرير” في السنة 2000 سوى مقدّمة لمزيد من المتاجرة بالبلد من اجل انهاكه وصولا الى حرب صيف 2006 التي يعتبرها “حزب الله” انتصارا، علما انّها هزيمة بكلّ معنى الكلمة في ضوء ما لحق بالبلد من خسائر من جهة وتعطيل للاقتصاد من جهة أخرى. لم تكن تلك الحرب سوى محاولة لتغطية جريمة اغتيال رفيق الحريري ورفاقه وخطوة أخرى من اجل تحقيق انتصار على لبنان بتواطؤ إسرائيلي واضح.
لو كان لبنان انتصر فعلا في العام 2000، لما كانت قضية مزارع شبعا بقيت عالقة من اجل ان يظلّ البلد مرتبطا بنزاع يمكن حلّه بسهولة فائقة. لو كان مطلوبا التوصل الى حلّ لقضية مزارع شبعا، لكان النظام السوري بعث في حينه برسالة الى مجلس الامن يؤكد فيها ان المزارع ارض لبنانية وليست سورية. احتلّت اسرائيل المزارع، وهي لبنانية أصلا استولى عليها السوريون في خمسينات القرن الماضي، في العام 1967. ينطبق عليها القرار 242 الذي يخصّ سوريا وليس القرار 425 المتعلّق بلبنان. لم يفعل النظام السوري شيئا الّا تأكيد ان مزارع شبعا ارض سورية وليست لبنانية وانّ مصير هذه الأرض مرتبط بمصير مرتفعات الجولان. هذه وجهة نظر النظام الذي يراهن عليه “حزب الله”، وهو نظام باع الجولان باكرا ولم يفعل في ايّ يوما شيئا من اجل استعادته. من يريد استرجاع مزارع شبعا يتوجّه الى النظام السوري اوّلا بدل تجاوز الواقع والحقائق والدخول في مزايدات لا هدف لها سوى إبقاء جنوب لبنان سلعة في لعبة إقليمية من مصلحة لبنان النأي بنفسه عنها.
من يريد بالفعل استعادة مزارع شبعا، لا يعمل على توريط لبنان في مشاكل ونزاعات هو في غنى عنها. من يريد استعادة مزارع شبعا لا يلجأ الى اقناع اللبنانيين بافضال النظام السوري عليهم. انّها افضال بدأت باغراق لبنان بالسلاح وتزويد كلّ من أراد تأسيس ميليشيا به. سلّح الفلسطينيين وارسلهم الى لبنان، ثمّ سلّح الميليشيات المسيحية كيف تدخل في قتال مع الفلسطينيين. سلّح كلّ أنواع الميليشيات المسيحية والاسلامية من اجل القضاء على لبنان والظهور في مظهر الاطفائي الذي يخمد الحرائق لدى الجار القريب.
لم يتردد النظام السوري الذي ادخل “الحرس الثوري” الايراني الى لبنان في العام 1982، في قتل خيرة اللبنانيين، على رأسهم كمال جنبلاط. قتل في المخيمات الفلسطينية الموجودة في لبنان، مباشرة او عبر ادواته، اكثر بكثير مما قتلت إسرائيل.
يمكن إضافة عدد لا بأس به من الحلقات المفقودة الاخرى الى خطاب الأمين العام لـ”حزب الله”. ابرز هذه الحلقات اثنتان. الاولى دعوته الى تطبيع مع النظام السوري. هل هذا نظام طبيعي مقبول من شعبه كي تكون هناك علاقات عادية معه؟ ما الذي قدّمه النظام السوري للبنان واللبنانيين غير القتل والتدمير؟ ما الذي قدّمه للسوريين أصلا غير القمع والتشريد والبراميل المتفجّرة والسلاح الكيميائي؟ نسي حسن نصرالله ان النظام السوري صار جزءا من الماضي. لا مكان لبشّار الأسد، في سوريا المستقبل، هذا اذا بقي شيء من سوريا التي عرفناها والتي صارت تحت خمس وصايات على الاقلّ. لن ينقذ “داعش” النظام السوري. العالم الجدّي، بما في ذلك فرنسا، يعرف تماما ان النظام السوري شريك في الإرهاب وليس في الحرب على الإرهاب. يريد “حزب الله” من اللبنانيين الرهان على نظام انتهى وربط مستقبل بلدهم بهذا النظام الذي عانى منذ اليوم الاوّل لقيامه من غياب أي شرعية لديه ومن انّه جزء من مشروع فاشل اسمه حلف الاقلّيات ولا شيء آخر غير ذلك.
اما الحلقة الثانية التي يمكن اضافتها الى الحلقات المفقودة الأخرى، فهي الإصرار لدى حسن نصرالله على المعادلة “الذهبية” التي اسمها “الجيش والشعب والمقاومة”. هذه معادلة في حكم المنتهية منذ سنوات عدّة، منذ العام 2005 تحديدا، عندما اغتيل رفيق الحريري وعندما اكتشف اللبنانيون باكثريتهم الساحقة ما وظيفة “المقاومة” المتعاونة مع النظام السوري.
جاء انتصار الجيش في جرود رأس بعلبك ليؤكد ان المؤسسة العسكرية اللبنانية ليست في حاجة الى دعم من ميليشيا مذهبية تشارك في الحرب على الشعب السوري وتستعين بـ”داعش” لتخويف اللبنانيين وبثّ الرعب في صفوف السيحيين منهم بشكل خاص. هناك نقطة تحوّل حصلت على الصعيد اللبناني في اليوم الذي اكّد فيه الجيش انّه لا ينسق مع “حزب الله” ولا مع القوات التابعة للنظام السوري.
اذا كان من خدمة يستطيع “حزب الله” تقديمها الى اللبنانيين، يمكن ان يبدأ بعمل شيء في بعلبك. لماذا كلّ هذا البؤس في بعلبك؟ هل “المقاومة” تعني نشر البؤس والفوضى والفقر في مدينة ذات تاريخ عريق كان يمكن ان تساهم في تحسين أوضاع الاقتصاد اللبناني كلّه وليس اوضاع أهلها فقط؟
لو كان “حزب الله” صادقا مع نفسه ومع اللبنانيين، لكان حاول اوّلا استيعاب المشكلة التي اسمها بعلبك التي تعاني من اهمال الدولة بسببه وبسبب سلاحه قبل ايّ شيء… الّا اذا كان لدى الحزب مثل اعلى يهمّه تسويقه هو النموذج الايراني حيث ما يزيد على نصف السكّان تحت خط الفقر!