كثرت الفتاوى على الفضائيات التي تحرم على المرأة السفر إلا صحبة محرم أو زوج، وهي فتاوى خوفت العديد من النساء وخاصة اللاتي تنقصهن الثقافة الإسلامية العميقة والدقيقة ويأخذن المعلومات من بعض الفضائيات التي نصبت نفسها لتعليم الناس وعوض أن تطرح المسائل باختلاف آرائها تاركين للمتفرج الاختيار يملون عليه وعليها رأيا واحدا زاعمين أنه رأي الإسلام والحال أنه رأي فقيه فكر واجتهد. ولذلك أطرح سفر المرأة باختلاف الآراء فيه لأختم برأيي.
تعرّض الفقهاء لمسألة سفر المرأة دون محرم في كتب الحجّ واختلفوا في ذلك استنادا على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم “لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم (رواه البخاري في الجامع الصحيح كتاب جزاء الصيد باب 26 رقم الحديث 1862).
فاختلفوا اختلافات كبيرة نجملها فيما يلي:
أوجبت الحنفيّة الحجّ على المرأة مع محرم أو زوج إذا كان بينها وبين مكّة مسيرة ثلاثة أيام فأكثر، أمّا أذا كانت المسافة أقل من ذلك فيجب عليها الحج أن لم يكن معها زوج ولا محرم.
أوجبت المالكيّة السفر إلى الحج على المرأة صحبة زوج أو محرم أو رفقة مأمونة إن كانت جماعة من النساء مع تيسر الركوب لها إذا كانت المسافة بعيدة. ولا يحدّد فقهاء المالكية البعد بطول المسافة أو قصرها بل بمستوى المشقّّة والتّّعب الذي تسبّبه الرّحلة للمرأة وراعوا في ذلك كل امرأة ما يناسبها. قال مالك في الصّرورة من النّساء الّتي لم تحج قط “إنّها إن لم يكن لها محرم يخرج معها أو كان لها فلم يستطع أن يخرج معها أنّها لا تترك فريضة الله عليها في الحجّ لتخرج في جماعة من النّساء”.
(جلال السيوطي ،تنوير الحوالك شرح على موطأ مالك ،1/372،دار الكتب العلمية بيروت).
ذهبت الشافعية إلى أنّ المرأة تسافر وجوبا مع زوج أو محرم أو نسوة يوثق بهنّ لا يقل عددهنّ عن اثنتين ويرون أن المرأة يمكن أن تسافر للحج والمشهور عند الشافعية اشتراك الزّوج أو المحرم أو النّسوة الثّقات. وفي قول، تكفي امرأة واحدة ثقة، وفي قول نقله الكرابيسي وصحّحه في المهذب تسافر وحدها إذا كان الطريق آمنا وهذا كله في الواجب من حج أو عمرة (ابن حجر العسقلاني، فتح الباري ،شرح صحيح البخاري،4/85-86,دار المعرفة بيروت).
وذهب الجمهور إلى أنّه لا يجوز للشاّبة السّفر إلى الحجّ الواجب إلاّ مع محرم ونقل قولا عن الشاّفعي أنّها تسافر وحدها إذا كان الطريق آمنا (محمد ابن إسماعيل الكحلاني الصنعاني، سبل السلام 2/183، دار إحياء التراث العربي، الطبعة الرابعة 1379 هـ/1960م).
تقول الحنابلة لا يجب الحجّ على المرأة إلا إذا كان معها زوجها أو أحد محارمها (عبد الرحمان الجز يري, الفقه على المذاهب الأربعة،1/640 -648 ).
سبب الاختلاف:
يعود الاختلاف كما ذكرنا سابقا إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم”لا تسافر المرأة إلا ومعها ذو محرم”.(البخاري عبد الله بن إسماعيل،الجامع الصحيح، كتاب جزاء الصيد،باب حج النساء، رقم 26 الحديث رقم 1862).
تحريم سفر المرأة:
فهم البعض أنّ الحديث دليل على تحريم سفر المرأة من غير محرم واختاروا صيغة المطلق في كثير السفر وقليله متعلّلين باختلاف التّقييدات وأخذوا بالمتيقّن وطرحوا ما عداه لأنه مشكوك فيه -في رأيهم -وخاصة بعض الحنفيّة الّتي من قواعدها تقديم الخبر العام على الخاص وتمسك أحمد ابن حنبل بعموم الحديث فقال إذا لم تجد زوجا أو محرما لا يجب عليها الحجّ وهذا المشهور عنه .ووردت رواية أخرى عنه كذلك وهي تخصيص الحديث بغير سفر الفريضة.
وقيل أيضا هو مخصوص بالإجماع إلا بعض الاستثناءات من ذلك الكافرة تسلم في دار الحرب، أو الأسيرة تتخلّص من الأسر، أو امرأة انقطعت من الرّفقة فوجدها رجل مأمون فإنّه يجوز له أن يصاحبها حتى تصل مكانها.
جواز سفر المرأة:
إن الحديث الذي استندوا إليه في تحريم سفر المرأة هو نفسه جوّز به البعض الآخر سفرها لورود أحاديث قيّد ت إطلاقه وقد اختلفت ألفاظها من ذلك: “لا تسافر المرأة مسيرة ليلة إلا مع ذي محرم”(البخاري،الجامع الصحيح،كتاب جزاء الصيد،باب 26) وفي خبر آخر “فوق ثلاثة” وفي خبر آخر “مسير يومين”وفي خبر آخر “ثلاثة أميال” وفي لفظ “بريد” (والبريد مسافة عشرين كيلومترا) وفي لفظ آخر “ثلاثة أيام”.
و بناء على هذا التّقييد فصّل العلماء فقالوا يجوز سفر المرأة وحدها في الهجرة من دار الحرب والمخافة على نفسها ولقضاء الدّين وردّ الوديعة والرّجوع عن النّشوز وهذا مجمع عليه.
قال ابن دقيق العيد: إنّ قوله تعالى “ولله على الناس حجّ البيت”عموم شامل للرّجال والنّساء وقوله صلى الله عليه وسلم “لا تسافر المرأة إلاّ مع ذي محرم” عموم لكلّ أنواع السّفر فتعارض العمومان ،ويجاب بأن أحاديث :”لا تسافر المرأة للحجّ إلا مع ذي محرم” مخصّص لعموم الآية ثم الحديث عام للشّابة والعجوز وخالف جماعة من الأئمّة فجوّزوا السفر للعجوز بغير محرم دون الشاّبة (محمد بن إسماعيل الكحلاني الصّنعاني ،سبل السلام ،2/183،دار إحياء التراث العربي،الطبعة 4 ’1379 ه/1960م).
واختلف أيضا هل من شرط وجوب الحج على المرأة أن يكون معها زوج أو محرم فقال مالك والشّافعي ليس من شرط الوجوب ذلك وتخرج المرأة إلى الحجّ إذا وجد ت رفقة مأمونة وخاف أبو حنيفة وأحمد وجماعة ورأوا أنّ المحرم أو الزّوج شرط في وجوب الحجّ على المرأة.
نلاحظ أن من غلّب عموم الأمر قال تسافر للجحّ وإن لم يكن معها زوج أو محرم ومن خصّص العموم بهذا الحديث أو رأى أنّه من باب تفسير الاستطاعة قال لا تسافر لحجّ إلا مع زوج أو ذي محرم(محمد بن رشد القرطبي،بداية المجتهد ونهاية المقتصد1/322،دار المعرفة بيروت الطبعة 8 سنة 1406هـ،1986م).
المسألة اجتهادية وقع فيها الخلاف ولنا الاختيار بما نراه يوافق زمننا اليوم ويسمح بسفر المرـة قياسا على سفرها للحج قديما. ندعم اختيارنا بأدلّة أخرى على جواز سفر المرأة منها: جاءت امرأة من خثعم فقالت للنّبيّ صلّى الله عليه وسلم “إن فريضة الله أدركت أبي شيخا كبيرا لا يثبت على الراحلة،أ فأحجّ عنه؟
قال: نعم
وذلك في حجة الوداع (الجامع الصحيح للبخاري كتاب جزاء الصيد باب 24 حديث رقم 1855) وكانت المرأة شابة ولم يأمرها الرسول باصطحاب محرم لتحجّ عن والدها.
في رواية أخرى عند البخاري أيضا جاءت امرأة من جهينة إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقالت:يا رسول الله إنّ أمّي نذرت الحجّ فماتت أفأحجّ عنها؟
قا ل:حجّي عنها، أرأيت لو كان عليها دين أكنت قاضيته؟
دين الله أحق بالقضاء. (البخاري، الجامع الصحيح، كتاب الوصايا’ باب 19).
ومن الأدلّة على جواز سفر المرأة مع النّسوة الثّقات إذا أمن الطريق اتفاق عمر وعثمان وعبد الرحمان ابن عوف ونساء النّبيّ على ذلك وعدم إنكار غيرهم من الصحابة عليهنّ ذلك وقد كنّ رضي الله عنهنّ يسافرن للحجّ ولم يختلفوا أنّ النّساء كلهنّ في ذلك سواء (فتح الباري شرح صحيح البخاري 4 /85-86).
إذا تأمّلنا هذه المواقف من سفر المرأة و قرأناها قراءة متأمّلة ورصينة ندرك أنّ عددا من المجتهدين القدامى أوجدوا مخرجا يسمح للمرأة بالسّفر إذا لم تجد محرما أو لم يكن لها زوج يصاحبها للحجّ فبإمكانها أن تصحب جماعة من النّساء أو أن تسافر منفردة إذا توفر الأمن.
أما سبب إصرارهم -في الأغلب – على الصحبة المأمونة أو المحرم فإنه يعود إلى الخوف من مخاطر السّفر على الدّواب أو مشيا في الطريق التي قد تتعرض فيها قوافل الحجيج إلى نهب وسلب قطّاع الطرق وسبي النساء وهي أسباب معقولة ومنطقية تجعلهم يلحّون على أن تؤمّن المرأة سفرها صحبة من يحميها في تلك العصور.
اليوم زالت هذه الأسباب بفضل تطور وسائل النقل التي قلّصت المسافات من السّير شهورا إلى السّير ساعات معدودة وتوفّرت الصّحبة المأمونة باستمرار وتتمثّل في القائمين على الرّحلات الجويّة والبريّة والبحريّة، وزالت الصعوبات التي من أجلها منعت المرأة من السّفر منفردة ولذلك نساند الرأي الذي يجوز للمرأة السّفر كما أن المطلوب اليوم الاجتهاد في كل هذه القضايا لكي يساير الإسلام الزّمن وتطور الأحكام وفق تطور الأزمان وجدّتها.
إضافة إلى ما ذكرت فإن المرأة سافرت في حياة الرّسول دون محرم ولا زوج رغم مخاطر الطريق وبعد المسافة وأذكر مثلين الأوّل هي زينب بنت الرسول صلى الله عليه وسلم افتدت زوجها وكان من أسرى بدر عند أبيها فمنّ عليه الرسول صلى الله عليه وسلم إكراما لها وطلب منه أن يخلّي سبيل ابنته زينب فلما رجع إلى مكة سمح لها بالذهاب إلى المدينة فخرج بها حموها ليلا وأسلمها لزيد بن حارثة و رجل من الأنصار أرسلهما رسول الله ليصحبا ابنته حتى تصل إليه (ابن اسحاق ،السيرة النبوية ،القسم الأول، صفحة 408 طبعة دار التراث).
المثال الثاني أم سلمة رضي الله عنها هاجر زوجها إلى المدينة وحمل أمّ سلمة على بعير له وفي حجرها ابنها ،فلما عرف قومها بنو المغيرة أخذوها عنوة من زوجها،فغضب بنو الأسد رهط أبي سلمة وقالوا:والله لا نترك ابننا وانطلق بنو الأسد بالطفل وحبس بنو المغيرة ابنتهم وانطلق زوجها إلى المدينة .
قالت أمّ سلمة: فكنت أخرج كل غداة فأجلس با لأبطح فما أزال أبكي حتى أمسي سنة أو قريبا منها حتى مرّ بي رجل من بني عمّي فرأى ما بي فرحمني.
فقال لبني المغيرة: ألا تخرجوا هذه المسكينة فرّقتم بينها وبين زوجها وبين ولدها؟
فسمحوا لي باللّحاق بزوجي وردّ بنو الأسد ابني فارتحلت بعيري ووضعت ابني في حجري،ثم خرجت أريد زوجي بالمدينة وما معي من أحد من خلق الله .
فقلت في نفسي:أتبلغ بمن لقيت حتى أقدم على زوجي حتى إذا كنت بالتنعيم لقيت عثمان بن طلحة فقال لي:إلى أين يا بنت أبي أمية؟فأجبت:أريد زوجي بالمدينة فقال أ وما معك أحد؟ قلت: لا والله إلا الله وبنيّ هذا قال:والله مالك من مترك فأخذ بخطام البعير فانطلق معي يهوي بي.
وتثني أم سلمة على عثمان ابن طلحة قائلة فو الله ما صحبت رجلا من العرب قط أرى أنه كان أكرم منه كان كلما بلغ المنزل أناخ بي ثم استأخر عنّي حتى نزلت ثم استأخر بعيري فحطّ عنه، ثم قيّده في الشّجرة ثم تنحّى عنّي إلى شجرة فإضطجع تحتها ،فإذا دنا الرّواح قام إلى بعيري فقدمه فرحله ثم استأخرني وقال:اركبي فإذا ركبت واستويت على بعيري أخذ بخطامه فقاده حتى ينزل بي ،فلم يزل يصنع ذلك حتى أقدمني المدينة،فلما نظر إلى قرية بني عمرو بن عوف بقباء قال :زوجك في هذه القرية….فادخليها على بركة الله ثم انصرف راجعا إلى مكة (ابن إسحاق السيرة القسم الأول صفحة 470).
أوردت هذا الخبر على طوله لأظهر مدى شجاعة هذه المرأة التي عزمت على السفر بمفردها مع ابنها الصغير من مكة إلى المدينة مسافة تقارب خمس مائة كيلومتر بين الجبال وتحت حرّ الشّمس ثم لمّا يسّر الله لها رفيقا في الطريق لم ترفضه وسمحت له بمرافقتها طيلة الرحلة.
تأملوا وصفها لهذا الرجل النظيف الشهم الذي يضيره أن تسافر امرأة طيلة هذه المسافة بمفردها فيتطوّع لمرافقتها حتى تصل إلى زوجها وهو رجل عفيف ومتعفّف عامل أمّ سلمة معاملة الأخ لأخته حتى وصلت آمنة إلى زوجها وما سمعنا أن زوجها أنّبها أو طلّقها لأنّها جاءت برفقة غريب عنها صاحبها أياما وليال من مكة إلى المدينة، إنها الثّقة بالنّفس والثّقة بالزّوجة والثّقة بالإنسان دون عقد.
نتساءل في الأخير لماذا أدخلوا على الفكر الإسلامي هذا الانغلاق والتحجر والتحنيط’ وهذا الشك في المرأة والرّجل مما نتج عنه فتاوى جزئية تحرّم على المرأة أن تسافر دون محرم والإنسانيّة ودخلت في الألفية الثالثة.
المطلوب منّا –اليوم- إعادة النّظر في الفتاوى التي تحط من مكانة المرأة، والنّهل من أصول الشريعة قرآنا وسنّة ،ومن سيرة النبّيّ صلّى الله عليه وسلم، فنجدّد الدين والدنيا.ولاننسى أن المٍرأة إنسان من حقها أن تسافر وتحاضر وتتعلم…
إنّه لامبرر- اليوم- لمنع المرأة من السّفر دون محرم أو زوج لطلب العلم وللمشاركة في المؤتمرات والندوات العلمية ممّا يساهم في توسيع آفاق المعرفة.
nfzimzin@yahoo.fr
*جامعية تونسية