لم يسبق للسعوديين أن شربوا حليب السباع كما يحدث الآن. فهم يخوضون حرباً في اليمن ستدخل عامها الثاني في نهاية الشهر القادم، ويعدون العدّة لحرب ثانية في سورية. هذا يعني القتال على جبهتين في وقت واحد. والقتال على جبهتين، في وقت واحد، مسألة شائكة يحاول القادة العسكريون، والساسة، حتى في الدول العظمى، تجنّب مخاطرها.
وعلى الرغم من انخراطهم في حرب اليمن، ضمن ائتلاف يضم دولاً عربية وإسلامية، وإعلانهم أن حربهم في سورية ستكون ضمن ائتلاف مشابه، إلا أن أحداً لا يصدق إمكانية تقاسم تكلفة الحرب، العسكرية والمالية، بين المؤتلفين، بالتساوي. فالعبء الأكبر يقع على عاتق السعوديين. وهذا يزيد من تعقيد الأمر خاصة في ظل تراجع أسعار النفط، مصدر دخلهم الرئيس.
أما بالمعنى السياسي، وإذا وضعنا مسألة اليمن جانباً، فإن التعقيدات العسكرية والسياسية للتدخل العسكري في سورية تزيد ألف مرّة عن مثيلاتها في اليمن، طالما أن التدخّل المُنتظر لن يقتصر على عمليات القصف الجوي، بل سيشمل عمليات بريّة. وهذا ينطوي على إمكانية الصدام مع حليفين قويّين لنظام آل الأسد، هما روسيا وإيران، ولكليهما قوات على الأرض، إضافة إلى الميليشيات الموالية، وما تبقى من آلة النظام العسكرية.
ذريعة التدخل على الأرض في سورية هي قتال الدواعش، والقضاء عليهم. وإذا وضعنا في الاعتبار المواقف المُعلنة للسعوديين وحلفائهم الأتراك والأميركيين إزاء نظام آل الأسد، ورغبتهم في إسقاطه بالقوة، فإن هذه الذريعة لا تبدو أفضل من ذريعة الروس، الذين برروا تدخلهم بمحاربة الدواعش، وهم في الواقع يريدون حماية النظام الأسدي، والقضاء على معارضيه.
لذلك، من المنطقي، تماماً، التفكير أن حرباً كهذه، عندما تقع، وإذا وقعت، لن تكون باهظة التكاليف وحسب، ولكنها ستكون طويلة الأمد، وغير مضمونة النتائج. احتمال الصدام مع الروس والإيرانيين قائم، واحتمال تحويل الصراع في سورية وعليها من حرب أهلية إلى حرب إقليمية، ذات مضامين طائفية سافرة، تنخرط فيها قوى عالمية، قائم أيضاً.
وإذا كان المعلقون والمحللون، في الأيام القليلة الماضية، قد أسهبوا في تحليل ما تقدّم، فإن ما لا يحظى، للأسف، بالاهتمام، يتمثل في حقيقة أن إطالة أمد الصراع في سورية، وعليها، لا تنم عن استماتة أطراف الصراع في محاولة تحقيق أهدافهم وحسب، ولكنها تنم، أيضاً، عن النتائج الكارثية لعولمة الصراعات المحلية والإقليمية في زمن ما بعد الحرب الباردة.
فالصراعات المحلية والإقليمية تمثل سوقاً مفتوحة لاستثمارات، ومضاربات، ورهانات، تجار السلاح ومنتجيه، والشركات الأمنية، التي يمتلك بعضها جيوشاً خاصة تضم مرتزقة محترفين، وأصحاب مصارف، ومراكز البحث، والتكنولوجيا ذات الصلة، وشركات الاستشارات الأمنية والعسكرية. ولكل هؤلاء شبكات على مستوى العالم، وصلات قوية بحكومات، وصنّاع قرار، في مناطق مختلفة من العالم. ولا مصلحة لهؤلاء في وضع نهاية سريعة لحروب تبيض ذهباً. ناهيك، طبعاً، عن شبكات الإرهاب العابرة للحدود والقوميات، وعلاقتها بالسياسة والسوق في الإقليم والعالم.
فلنَعُد إلى السعوديين. كان تدخلهم المفاجئ في اليمن خروجاً على سياستهم التقليدية. فقد انخرطوا في حروب وصراعات كثيرة في العالمين العربي والإسلامي، ولكنهم فعلوا ذلك، على مدار عقود، من وراء ستار. وغالباً ما كان المال سلاحاً ناجعاً لإنشاء التحالفات، وكسب الولاءات، وضمان تحقيق الأهداف. فما الذي تغيّر إلى حد يُسوّغ لهم اللعب على المكشوف، وحتى القتال على جبهتين في وقت واحد؟
يعيد البعض أسباب الانقلاب المفاجئ إلى: وصول جيل جديد من الأمراء إلى سدة الحكم، وتراكم الثروة، والقوّة العسكرية، وتدهور أوضاع المنافسين التقليديين في العالم العربي، وبوادر الانسحاب الأميركي من المنطقة، الذي يستدعي ضمن أمور أُخرى أن يخلع العرب أشواكهم بأيديهم، وفراغ القوّة، الذي يُسوّغ بدوره لبعض اللاعبين في الإقليم القيام بدور القوّة الإقليمية، وكذلك المخاوف التي أثارتها موجة الربيع العربي ما تحقق منها، وما لم يتحقق، وبقيت شبحاً يهيم في فضاء المنطقة.
قد يُمثّل كل ما تقدّم مكوّنات، يصعب الاستغناء عنها، في كل محاولة لفهم دوافع الانقلاب المفاجئ في السياسة السعودية. وليس ثمة ما يبرر، في الوقت الحاضر، على الأقل، تغليب عنصر على آخر، في مشهد لم تكتمل ملامحه الرئيسة بعد.
ومع ذلك، ينبغي ألا تغيب عن الذهن، في سياق الكلام عن الانقلاب المفاجئ، ومخاطر وتعقيدات القتال على جبهتين في وقت واحد، حقيقة العلاقة العضوية بين التغيير في السياسة الخارجية لهذا البلد، أو ذاك، والمخاطر والتعقيدات الداخلية التي تنجم عنه. فالشعوب التي تخرج للقتال سواء على حدودها، أو خارج الحدود، تشعر أن لديها مطالب واستحقاقات أكثر. وهذا يعني نشوء نوعٍ جديد، وغير مسبوق، من الضغط على بنية النظام الحاكم في السعودية.
أخيراً، تبقى مسألة أخلاقية، وهي شخصية تماماً. فكاتب هذه السطور يعتقد أن نظام آل الأسد يتحمل مسؤولية ما لحق بالبلاد والعباد من ويل وثبور وعظائم الأمور، ولو كان في الدنيا ما يكفي من النزاهة والعدل لوقفت أمم الأرض، منذ سنوات، إلى جانب الشعب السوري لتخليصه من نظام ظالم وغاشم. النزاهة والعدل ليسا من سكّان هذا العالم، كل ما في الأمر أن حطباً جديداً يُضاف إلى نار تستعر.
khaderhas1@hotmail.com