في ما تكثر هذه الأيام في لبنان موجة “المصالحات” شبه العشائرية بين بعض القوى السياسية من فريقي “14 آذار” الاستقلالي و”8 آذار” المتعدد الولاءات، فاجأ سمير جعجع اللبنانيين بخطوة شجاعة وجريئة، عندما طلب بشكل رسمي وعلني، أمام عشرات الآلاف من المناصرين، الاعتذار عما مارسته “القوات اللبنانية” خلال سنين الحرب الطويلة من “إرتكابات مشينة ومؤذية”، وطلب ايضا “السماح من الله وممن أسأنا اليهم…”.
أدخل هذا القائد الميليشياوي السابق، المعروف بماضيه الشرس والدموي، كلمة نبيلة على قاموس الطبقة السياسة اللبنانية، التي مارس أصحابها لسنوات طويلة العنف والحروب والاقتتال، وبث الأحقاد وشحن النفوس، واعتادوا على التمترس كل في موقعه واحتكار الحقيقة وادعاء الطهرانية، والقاء التهم على الآخر وتخوينه ووصفه بشتى النعوت. وبعضهم لا يزال يمارس ذلك لغاية الآن…
دفع جعجع الى الواجهة مفردة تصالحية، مع الذات ومع الآخر، تحتاجها معظم الطبقة السياسية، وأيضا جزء كبير من اللبنانيين، لتطهير الذاكرة وتجاوز أحقاد الماضي، والاقلاع عن الاقامة في هذا الماضي!
تطفو الآن هذه “المصالحات” على السطح اللبناني بعد شتاء وربيع حارين شهدا تجاذبات ومواجهات حادة، تخللها احتلال الوسط التجاري لبيروت، وبلغت ذروتها في 7 أيار الماضي مع الغزوة التي شنها “حزب الله” على العاصمة ومحاولة غزوه للجبل، الى غيرها من الاشتباكات والتحرشات هنا وهناك، بدءا من طرابلس، في الشمال، وانتهاء بالبقاع. ثم جاء “اتفاق الدوحة” ليفرض هدنة على الأرض مهدت لمرحلة جديدة توجت بانتخاب ميشال سليمان رئيسا للجمهورية، بعد أن أفرج رئيس مجلس النواب نبيه بري عن مفتاح المجلس، ثم تسويق بدعة “حكومة وحدة وطنية” نالت فيها فريق “8 آذار” ما إصطلح على تسميته بـ”الثلث المعطل”، أي ثلث المقاعد الوزارية التي تمكّن هذا الفريق من تعطيل الحكومة وشل فعاليتها ساعة يشاء…
الا أن الجراح لم تندمل، واستمر النزف، بالأخص في مدينة طرابلس، عبر تأجيج صراع مذهبي في الظاهر، وانما في العمق على خلفية مجموعة من الحسابات الداخلية والمصالح الخارجية – السورية تحديدا – بهدف تفجير الوضع في طرابلس، التي لـ”تيار المستقبل” (بزعامة سعد الحريري) فيها كلمة الفصل. والهدف الثاني، شل فعالية الجيش اللبناني، أو الأصح تعطيله بالكامل لأنه مصاب بالشلل منذ فترة، وإرباك سليمان في بداية عهده (عملية التفجير التي تعرض لها الجيش في طرابلس، صبيحة توجه الرئيس اللبناني في أول زيارة له الى دمشق، منتصف آب الماضي، وذهب ضحيته عشرة من عناصره). وثالثا، الابقاء على فتيل الأزمة مشتعلا، لنقل الفتنة من منطقة الى أخرى، كما هي الحال في البقاع أو في مخيمات تواجد الفلسطينيين.
وعلى أثر الكلام الذي أطلقه بشار الأسد خلال القمة الرباعية (فرنسا، سوريا، قطر وتركيا)، التي انعقدت في دمشق في 4 ايلول الماضي، والذي حذر فيه من “خطر الأصولية السلفية في الشمال الذي يهدد لبنان”، تحرك الحريري شمالا ليرعى مصالحة شاملة بين كل مكونات طرابلس، ظنا منه انه بالامكان احتواء الوضع وتجنيب طرابلس خطر الانفجار.
ويبدو أن الصدام السني- العلوي (بين منطقتي باب التبانة وبعل محسن المتجاورتين)، بحسب معلومات نقلتها مصادر موثوقة، تم تداوله على هامش قمة دمشق، وأن نيكولا ساركوزي وأمير قطر مارسا ضغوطا قوية على الأسد كي يساهم في تهدئة الوضع، وإلا كان من الصعب ان يتجاوب العلوي علي عيد، رجل سوريا وأداتها المحلية، مع مساعي التهدئة ويوافق على لقاء الحريري، وغيره من المحسوبين على سوريا.
ولكن، يبقى السؤال الى متى ستصمد هذه المصالحة؟ قبل أيام حشدت دمشق ما يوازي العشرة آلاف جندي مع معداتهم وآلياتهم، على الحدود الشمالية مع لبنان. وبعد تكتم دام نحو ثمانية وأربعين ساعة، صدر بيان مقتضب عن قيادة الأركان السورية يبرر التحرك بأنه “مجرد تدابير روتينية أحطنا قيادة الجيش اللبناني بها…”!
بعدها انتقل الحريري الى البقاع لتهدئة الخواطر تمهيدا للمصالحة بين أهالي تعلبايا وسعدنايل، حيث تبين أن لـ”حزب الله” باعاً طويلاً بما يجري هناك. وأمس استقبل في دارته في قريطم، وفدا من “حزب الله” يترأسه محمد رعد، تمهيدا لـ”المصالحة الكبرى” بينه وبين زعيم “حزب الله” حسن نصرالله. وما بين المصالحتين، انعقدت “مصالحة الجبل” بين “حزب الله” ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، برعاية وفي دارة خصمه التقليدي طلال ارسلان. وهناك من يسعى لمصالحات أخرى بين القوى المسيحية و..
وانطلاقا من هذا الواقع المتأجج على الأرض، ماذا تعني هذه “المصالحات”، التي يريد “فريق 8 آذار” تسويقها تحت شعار “عفا الله عما مضى”، وما مدى امكانية ان تتحقق نقلة نوعية في مسار الصراع السياسي، بمطباته الأمنية؟
ان الكلام الذي صدر عن لقاء قريطم لا يوحي كثيرا بذلك. اذ أن رعد أعلن في تصريحاته عقب اللقاء “أننا تصارحنا وتصالحنا على اساس أن كل طرف طرح من موقعه ثوابته ومواقفه المتباينة، وأن الخلاف في الرأي ليس بين جيران متخاصمين، وانما بين الأخوة في الوطن”، موضحا أن “كل طرف باق على تحالفاته…”. فيما أوضح الحريري، خلال احدى الافطارات التي يقيمها كل مساء من شهر رمضان، أن هدف اللقاء “تخفيف حالات التشنج وفك الاشتباك الأهلي ورفع مظاهر الظلم التي وقعت على بيروت، نحن نكسر جليدا قاسيا تراكم في القلوب على مر الأيام (…)، نحن في “تيار المستقبل”، تيار السلام الوطني والاعتدال والعيش المشترك، نريد من الدولة اللبنانية والجيش تحديدا أن يكون الحكم بين اللبنانيين، لأننا لن نترك بيروت رهينة لمشروع الحرب المذهبية، أو لفلتان السلاح (…)”.
وأكد الحريري انه يفتح باب الحوار والتهدئة “وفي يدنا إرادة الالتزام بمبادىء 14 آذار، وبكل الثوابت التي سقط على دربها شهداء انتفاضة الاستقلال (…)، لا تراجع عن القرار الوطني الحر، ولا تهاون في مسألة قيام الدولة ودورها من دون سواها في تحديد مفهوم الأمن القومي”. وهنا بيت القصيد!
كما حرص الحريري على التأكيد ان “قوى 14 آذار موحدة وستبقى موحدة مهما تباينت وجهات النظر، ان 14 آذار هي قوة التاريخ والحاضر، وأيضا المستقبل، والانتخابات المقبلة ستشهد على صحة هذه القوة…”. وعشية اللقاء مع “حزب الله” حصل الحريري على موافقة قيادات 14 آذار عبر بيان صدر يحدد الثوابت السياسية وعلى صون السلم الأهلي، رغم ان البعض لم يبد حماسا كبيرا لذلك، وكان يفضل ان يسبق اللقاء ما يشبه الاعتذار عما عن اجتياحه لبيروت.وهنا يحضر سؤال آخر: هل ستخوض “قوى 14 آذار” الانتخابات بلوائح موحدة؟
يبدو واضحا اذن أن الأمور لن تتعدى التهدئة، ولن تصل الى عملية “غسل القلوب” كما تمنى رعد، ردا على سؤال أحد الصحافيين. وان كل طرف ثابت في موقعه وعلى مواقفه. الا أن عقد مثل هذه “المصالحة”، وقيام وفد من “حزب الله” بزيارة الى قريطم، بعد انقطاع دام أكثر من سنتين، ومنذ حرب تموز 2006، كانت حاجة ضرورية وملحة ل”حزب الله” بعد غزوه بيروت، في 7 أيار الماضي. ورغم المكابرة التي يبديها في الظاهر، الا أن “حزب الله” يدرك ضمنيا أن استعمال سلاحه “المقاوم” في الداخل، ضد اللبنانيين، قد خلف جرحا عميقا من الصعب التئامه، واسقط عنه “هالة” الحزب المقاوم… لذلك، هو يسعى الآن جاهدا لعقد مئل هذه “المصالحات”، ويشجعها بين مختلف القوى، كي يرفع عن نفسه هذا الحمل الثقيل، ولكي يثبت أن الخلافات والنزاعات تعم كل لبنان، بين مختلف القوى، وفي كل المناطق، وأيضا كل الطوائف، وليست مذهبية، وتحديدا سنية-شيعية.
كما أن اللافت في هذا المجال، الموقف شبه الموحد الذي اتخذته “قوى 8 آذار” بمسارعتها الى تحميل مسؤولية الاشتباك الذي حصل بين “القوات اللبنانية” و”تيار المردة” الذي يقوده سليمان فرنجيه، الأسبوع الماضي في منطقة الكورة، شمال لبنان، والذي أوقع قتيل من كل طرف، لـ”القوات اللبنانية”. ومنهم من ذهب أبعد من ذلك، واصفا ما حصل أنه “جريمة اغتيال يوسف شاب فرنجيه” (!).
الا أن معظم أطراف هذا المعسكر سارع في نفس الوقت الى المطالبة (كذا) بـ”مصالحة مسيحية”، وتحميل جعجع مسبقا مسؤولة رفض مثل هذه “المصالحة”، في الوقت الذي وقف هذا الأخير بجرأة غير مسبوقة طالبا الاعتذار عن المرحلة الماضية. واعتبر هؤلاء، وتحديدا سليمان فرنجيه وميشال عون وعمر كرامي، أن الاعتذار هو مجرد مناورة قبيل الانتخابات النيابية في الربيع المقبل!
كيف لا، اذ أن الترحيب بخطوة جعجع يعني، أقله، ان على “حزب الله” أن يبادر الى الاعتذار من أهالي بيروت، ومن اللبنانيين عموما، عن فعلته في 7 ايار. كما أن ذلك يعني ايضا ان على الجميع، وتحديدا “حركة أمل” و”حزب الله” – الذي يدعي باستمرار أنه لم ينغمس في الحرب اللبنانية، وأنه لم يرتكب فظائع كالآخرين – أن يقوما بمراجعة الماضي والاعتراف بما ارتكب من اخطاء، والاعتذار من اللبنانيين. اعتذار، يجب أن يسبق أي مصالحة، وشرطها أن تكون سياسية. علما ان جنبلاط قد مارس، في أكثر من مناسبة، خلال السنوات الأخيرة، شيء من النقد الذاتي والاعتذار عما ارتكب خلال الحرب في الجبل، من ممارسات ضد المسيحيين…
كما ان ما يهم “حزب الله” في هذه المرحلة هو محاولة تحصين وضعه الداخلي، عبر هذه “المصالحات” الشكلية، تحسبا لما قد يطرأ على الصعيد الأقليمي، وبخاصة ما يمكن ان تؤدي اليه المفاوضات السورية-الاسرائيلية عندما تصبح مباشرة، والثمن الذي من المحتمل أن يدفعه نتيجة أي تسوية تريح سوريا وتخرجها من عزلتها، وتبعدها عن ايران وتقربها من الولايات المتحدة.
s.kiwan@hotmail.com
بيروت
حشد سوري على الحدود.. ومصالحات لا تكسر “جليد القلوب”
بئس الموقع موقع يشيد بسمير جعجع كنت اكن لكم الاحترام ولكنكم برهنتم انكم عملاء للنظام السعودي ولصهيوني الاول بندر بن سلطان اتحدى النشر ان كنتم تدعون الحريه