على الرغم من تأجيل الانتخابات البرلمانية في مصر – الأولى منذ بداية ولاية الرئيس عبد الفتاح السيسي – والتي كان من المزمع إجراؤها في 21-22 آذار/مارس إلى حين صدور قانون انتخابي جديد يلبي المعايير التي وضعتها المحاكم، يواصل حزب “النور” السياسي السلفي البارز وضع نفسه في خانة الشريك في المعركة التي يشنها نظام الرئيس السيسي ضد التهديدات المحلية والإقليمية الناشئة عن التنظيمات الإرهابية.
ومن المرجح أن موقف الحزب يرتبط باستراتيجيته الأكبر التي تهدف إلى الحفاظ على قاعدة ناخبيه وأمنه الحسي سعياً إلى نشر تعاليمه السلفية – وهذه مقاربة قد تؤتي ثمارها خصوصاً على ضوء الماضي الكارثي لجماعة «الإخوان المسلمين» في الحكم وعلى ضوء إمكانية اهتمام النظام بتطوير التحالفات والمصداقية على المستوى الشعبي.
حزب “النور”: من السكينية إلى النشاط السياسي
أُسس حزب “النور” في حزيران/يونيو 2011 ليكون الجناح السياسي لحركة “الدعوة السلفية” المصرية – والتي، منذ تأسيسها في الإسكندرية عام 1982، تنصّلت صراحةً من العنف والانخراط المباشر في الحياة السياسية.
وقد كان موقف السكينية، [أي الهدوء واللافعالية السياسية]، الذي تبنته حركة “الدعوة السلفية” متشابهاً إلى حد كبير مع نظرائها في المنطقة الذين ادعوا تبني الموقف نفسه، كما أنه كان إيديولوجياً بقدر ما كان عملياً. فمن الناحية العقائدية، انبثق هذا المذهب عن اهتمامات العلماء السلفيين في توجيه المسلمين نحو “تطهير” الممارسات والمعتقدات الدينية عوضاً عن الدخول في المنازعات السياسية المباشرة كما فعل «الإخوان المسلمون». وبالفعل انتقد السلفيون الجماعات أمثال «الإخوان المسلمين» و”حزب التحرير” باعتبارها حركات فقهية لا أهمية أو سلطة حقيقية لها اندفعت إلى التعبئة السياسية بدلاً من أن تعمل أولاً على تصحيح فهمها للممارسات والمعتقدات الدينية. ومن ثم وسّع السلفيون نقدهم هذا ليشمل الجهاديين أيضاَ.
أما من الناحية الأكثر عملية، فجاءت سكينية حركة “الدعوة السلفية” كرد فعل على تنامي ارتياب الحكومة وعمليات القمع المتكررة التي تعرض لها أعضاء الحركة بسبب ظهور موجة من الحركات الجهادية ونشاط العمل السياسي لـ «الإخوان المسلمين». وفي هذا السياق يشير الباحث مختار عوض إلى أن الحركة كانت تشعر قبل كانون الثاني/يناير 2011 “بخوف متواصل من التعرض لإجراءات قمعية مفاجئة من قبل الحكومة” وأن السلطات المصرية كانت متنبهة بشكل خاص إلى حركة “الدعوة السلفية” بسبب قدرتها على التوسع من خلال شبكة المساجد الموجودة في مدينتها الأم الإسكندرية.
ونظراً إلى موقف حركة “الدعوة” من السياسة وحالة الإسلام السياسي المتزعزعة في البلاد، جاء الضغط الذي مارسه أعضاؤها من أجل تشكيل حزب سياسي لها في حزيران/يونيو 2011 كخطوة مفاجئة وبالغة الأهمية في آن واحد. لكن الأمر الأكثر إثارة للاهتمام، والذي ربما يؤكد الشكوك السابقة التي راودت الحكومة حول شعبية الحركة، هو قدرة هذا الحزب الجديد على حصد أكثر من ربع مقاعد البرلمان المصري بعد الإطاحة بحسني مبارك.
غير أن افتقار مؤسسي حزب “النور” إلى الخبرة السياسية، وعلى الرغم من الجدل المحتدم بين قدامى الحركة حول صلاحية دعم حزب سياسي، أثبت هؤلاء المؤسسين أنهم يتمتعون بقدرٍ عالٍ من الحنكة في تشريع وجودهم منذ البداية وفي كسب تأييد واسع النطاق. وعند صياغة هوية الحزب، سلك المؤسسون الطريق نفسها التي وطأها كل أسلافهم المصريين وكذلك السلفيون في الأماكن الأخرى على مرّ القرن العشرين – فأرسوا توازناً بين الالتزام المزمع بمنهجية معينة من جهة، والابتعاد عن كافة أشكال انعدام الاستقرار السياسي، ولا سيما الجهادية، من جهة أخرى. ومن المرجح أن ما حدث هو الشق الثاني نظراً لتورط السلفيين في عدد من أحداث العنف التي وقعت في مصر في بدايات “الربيع العربي”.
وخلال مؤتمر تأسيس الحزب في حزيران/يونيو 2011، جادل قادة “الدعوة السلفية” بأن مهام الحركة الرئيسية هي الدعوة والتثقيف، وإذا اعتُبر أن تشكيل حزب في حالة معينة يسهّل بلوغ هذه الأهداف الرئيسية، يصبح حينئذٍ تشكيل حزب سياسي مبرراً. كما برر الأعضاء المؤسسون خطة نشاطهم السياسي من خلال الاستعانة بالمعنى الحرفي لمصطلح “سياسة” – أي “الحوكمة”، عوضاً عن معناه الأكثر استعمالاً كـ “تسيير الأعمال السياسية” – موضحين أن الحكم وتقديم الخدمات للشعب هما واجب إسلامي.
وعوضاً عن المناداة بأسلمة البلاد كما فعل «الإخوان المسلمون»، صورّت قيادة حزب “النور” حملتها بأنها تمثل رفاه جميع المصريين وصوّرت الإسلام كجزء تاريخي قائم من هوية البلاد. وفضلاً عن ذلك، اعتمد القادة مقاربة بدت توحيدية في تشكيل التحالفات المحلية والأجنبية. وكما أوضح مؤسس الحزب عماد عبد الغفور أنه “إذا رغبت أي ديانة في مساعدتنا، فنحن نقبل [عرض الشراكة] بشرطين… الأول هو أن تساعدنا على تحقيق رفاه الأمة المصرية، والثاني أن تكون الأساليب المتبعة لتحقيق هذه الأهداف قانونية، بخلاف تلك التي مارستها القوى السياسية أو من خلال خداع الشعب المصري… إذ يجب أن يعيش المصريون في عدالة وسلام.” ومع أن عبد الغفور مد غصن الزيتون صراحةً للديانات الأخرى، إلا أنه استخدم بشكل استراتيجي مصطلح “الأمة” المشحون بالمعاني الإسلامية للإشارة إلى “المجتمع المصري”، موحياً بأن المجتمع يستطيع التقدم من خلال إقراره بالأسس الإسلامية لمصر.
مواقف واحتمالات جديدة
على الرغم من أن قوة الداعمين السعوديين قد ساهمت حتى الآن في صمود حزب “النور”، إلا أنه لا يمكن التغاضي عن الدهاء الاستراتيجي الذي أظهره قادة الحزب في بلورة مكانته بعناية كممثل عن كل المجتمع المصري وشريك شرعي للحكومة. وأحد أسباب ذلك هو أن حزب “النور” هو الحزب السلفي الوحيد الذي يدعم الحكومة العسكرية للرئيس السيسي؛ وفي الواقع، كان من أوائل وأشد الداعمين للانقلاب الذي نفذه السيسي للإطاحة بحكومة محمد مرسي.
وفي الأسابيع والأشهر التي تسبق الانتخابات، خصوصاً بينما تطبق حكومة السيسي يدها على الأنشطة الجهادية وتستمر المنطقة بالتأجج بعمليات تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» («داعش»)/«الدولة الإسلامية» والتنظيمات المتفرعة عنها (آخرها الهجمات التي نفذتها الجماعة المدعوة «ولاية سيناء» – «أنصار بيت المقدس» سابقاً – التابعة لتنظيم «الدولة الإسلامية» في 28 كانون الثاني/يناير، والإعدام الجماعي بقطع الرؤوس الذي نفذه التنظيم في شباط/فبراير بحق 21 مصرياً قبطياً في ليبيا)، واظبت قيادة حزب “النور” على الترويج لنفسها عبر صفحاتها على مواقع التواصل الاجتماعي بصورة الشريك في مكافحة الإرهاب.
وفي 2 شباط/فبراير، أعطى رئيس الحزب يونس مخيون تصريحاً أوضح فيه أن “ما يحدث في سوريا والعراق واليمن يجعلنا نتّحد لمواجهة الإرهاب”. وقد أصدر الحزب بيانات أدان فيها أعمال الحركات الجهادية في سيناء وتنظيم «الدولة الإسلامية»، واصفاً هذا الأخير بأنه جماعة “إرهابية” لا تمت بصلة للإسلام، وأتى تحديداً على ذكر حرق الطيار الأردني معاذ الكساسبة ومقتل المصريين في ليبيا. وفي 2 شباط/فبراير أيضاً، أكّد نادر بكار، المتحدث الرسمي باسم الحزب، أن مصر بحاجة إلى فتح جبهة معارك جديدة في سيناء، “لتحريرها من قبضة الإرهاب”.
وفي مقابلة أجرتها معه قناة “أل. تي. سي.” المصرية في 15 شباط/فبراير، ذكر مخيون أنه اقترح على الرئيس السيسي وضع أجندة وطنية موحدة لمواجهة الإرهاب. ووفقاً للتقارير التي صدرت عن حزب “النور” حول ذلك اللقاء كان مخيون ينوي كما زُعم عقد لقاء متابعة حول الموضوع مع جنرالات في الجيش.
وإلى جانب استخدام هذه الأحداث لإيجاد قضية مشتركة مع حكومة السيسي، فقد اعتبرها المسؤولون في حزب “النور” فرصاً لتوسيع قاعدة دعمهم وجذب سكان سيناء للعمل معاً في أعقاب هجمات 28 كانون الثاني/يناير في تلك المنطقة. وفضلاً عن ذلك، تابع الحزب توسيع قاعدة دعمه بصورة أكثر، مدعياً أن قائمته الانتخابية ستتضمن مرشحين من النساء والأقباط ومقتبساً أحكاماً دينية لتأييد نواياه. وبدوره، أوضح مؤخراً نادر الصيرفي مؤسس الحزب القبطي المعروف بـ حركة «أقباط 38» أنه بينما يلتزم حزب “النور” بعقائده الدينية، إلا أنه يحافظ على علاقة عمل مع الحركة وأن التعاون مع الجماعة نال بركة الكنيسة القبطية كما زعم.
وفي ضوء هذا الانتقال الحذر من حالة السكينية إلى حالة النشاط السياسي، والتحول الجذري من تأييد «الإخوان المسلمين» إلى تأييد حكومة السيسي – في الوقت الذي تواجه فيه المنطقة والبلاد ككل تحديات أمنية من الحركات الإسلامية – فإن الخطوات التي يقوم بها حزب “النور” حالياً لتصوير نفسه كشريك في مكافحة الإرهاب وحفظ الأمن المحلي قد يكون لها تفسيرٌ عملي، وهو أنها محاولات للحفاظ على قاعدة دعمه وللنأي بنفسه عن أي عملية حكومية لقمع الانشقاقات الدينية.
يعقوب أوليدروت هو زميل مساعد في معهد واشنطن، يركز على تاريخ وفكر الحركات السلفية والجماعات الإسلامية في الشرق الأوسط.