يخوض العراق حرب الإستقلال، التي سبق له وخاضها في العام 1980، عندما دخل مواجهة استمرّت ثماني سنوات مع “الجمهوريّة الإسلاميّة” في ايران. في أساس تلك الحرب، التي اخطأ صدّام حسين في خوضها بالطريقة التي فعلها، رغبة ايرانيّة في وضع اليد على العراق من منطلق مذهبي.
بعد كل هذه السنوات، لا بدّ من العودة إلى السؤال ذاته الذي طرح نفسه في العام 1980. هل العراق ملحق بايران أم لا؟ هل المرجعيّة الشيعيّة العليا موجودة في النجف أم طهران؟
سيتقرّر ذلك نتيجة حرب الإستقلال الجديدة التي فرضت على الزعيم الشيعي مقتدى الصدر في ضوء اعلان المرجع الشيعي المقيم في النجف كاظم الحائري ولاءه للوليّ الفقيه في ايران، أي لعلي خامنئي. في الوقت ذاته وفي سياق اعلان الحائري عن استقالته من كلّ مواقعه، شكّك في أهلية مقتدى الصدر كرجل دين مؤهل لأن يكون مرجعية.
دفع ذلك مقتدى الصدر إلى القول في تغريدة الاعتزال: “يظن الكثيرون بمن فيهم السيد الحائري أن هذه القيادة جاءت بفضلهم أو بأمرهم، كلا، إن ذلك بفضل ربي أولاً ومن فيوضات السيد الوالد قدس سره الذي لم يتخل عن العراق وشعبه”. أضاف: “على رغم استقالته (استقالة الحائري)، فإن النجف الأشرف هي المقر الأكبر للمرجعية كما هو الحال دوماً، وإنني لم أدع يوماً العصمة أو الاجتهاد ولا حتى القيادة إنما أنا آمرٌ بالمعروف وناهٍ عن المنكر ولله عاقبة الأمور”.
زاد: “وما أردتُ إلا أن أقوّم الاعوجاج الذي كان السبب الأكبر فيه هو القوى السياسية الشيعية باعتبارها الأغلبية وما أردتُ إلا أن أقربهم الى شعبهم وأن يشعروا بمعاناته عسى أن يكون باباً لرضا الله عنهم… وأنّى لهم هذا، وعلى الرغم من تصوري أن اعتزال المرجع (الحائري) لم يكن من محض إرادته… وما صدر من بيان عنه كان كذلك أيضاً… إلا إنني، بعدما كنت قد قررت عدم التدخل في الشؤون السياسية، فإنني الآن أعلن الاعتزال النهائي وغلق كافة المؤسسات إلا المرقد الشريف والمتحف الشريف وهيئة تراث آل الصدر الكرام”.
في كلام مقتدى الصدر إيحاءات كثيرة من بينها اتهام ايران بأنّها وراء الحائري والهجوم الذي شنّه عليه. لكن العبارة الأهمّ تتعلّق بالنجف ودورها وكونها “المقرّ الأكبر للمرجعية كما هو الحال دوما”.
ليس نزول انصار مقتدى الصدر إلى الشارع في بغداد وأماكن أخرى حدثا عاديا. اعتبر نفسه غير مسؤول عن تصرفات هؤلاء الذين سارعوا إلى اقتحام القصر الجمهوري وكان عليهم مواجهة الميليشيات الإيرانية في بغداد، أي “الحشد الشعبي” الذي ليس سوى أداة لـ”الحرس الثوري” الإيراني.
لم يخف كاظم الحائري في البيان الذي اعلن فيه اعتزاله ولاءه لـ”الجمهوريّة الإسلاميّة”. قال صراحة: ” أوّلاً: على جميع المؤمنين إطاعة الوليّ قائد الثورة الإسلاميّة سماحة آية الله العظمى السيّد عليّ الخامنئي (دام ظلّه)، فإنّ سماحته هو الأجدر والأكفأ على قيادة الاُمّة وإدارة الصراع مع قوى الظلم والاستكبار في هذه الظروف التي تكالبت فيها قوى الكفر والشرّ ضدّ الإسلام المحمّدي الأصيل.
ثانياً: اُوصي أبنائي في عراقنا الحبيب بما يلي:
أ- الحفاظ على الوحدة والانسجام في ما بينهم وعدم التفرقة، وأن لا يفسحوا في المجال للاستـعمار والصهيونيّة وعملائهما بإشعال نار الفتنة والتناحر بين المؤمنين (…).
ب- تحرير العراق من أيّ احتلال أجنبي ومن أيّ تواجد لأيّة قوّة أمنية أو عسكريّة، وخصوصاً القوّات الأميركية التي جثمت على صدر عراقنا الجريح بحجج مختلفة (…)”.
لم يكن ينقص الحائري سوى الإعلان رسميّا عن ضرورة ان يكون العراق جزءا من “الجمهوريّة الإسلاميّة” حيث الحاكم بامره “المرشد” علي خامنئي. يمثل ما صدر عنه الموقف الحقيقي لإيران من العراق ونظرتها إليه بعد تحقيقها في العام 2003، بفضل إدارة جورج بوش الإبن، ما عجزت عن تحقيقه في حرب السنوات الثماني التي انتهت في العام 1988 بشبه هزيمة ايرانيّة.
هل لا يزال ما يمكن ان يحول دون حرب أهليّة في العراق؟ تصعب الإجابة عن هذا السؤال في ضوء التطورات التي تشهدها المنطقة والعالم. في مقدّم هذه التطورات اقتراب “الجمهوريّة الإسلاميّة” من توقيع صفقة مع “الشيطان الأكبر” الأميركي الذي سلمها العراق على صحن من فضّة. تبدو ايران مستعدة للذهاب بعيدا من اجل منع العراق من الإفلات منها مجددا. هذا ما يفسّر موقف الحائري واعلانه صراحة وضع نفسه في تصرّف “الوليّ الفقيه” في ايران. يشكل كلام الحائري، وهو من أصول ايرانيّة (من شيراز تحديدا)، تتمة للتسريبات التي صدرت قبل فترة قصيرة عن نوري المالكي رئيس الوزراء السابق الذي لم يخف ولاءه لـ”الحرس الثوري” وضرورة نقل هذه التجربة الإيرانيّة إلى العراق.
ما يحصل في العراق، حيث عمت الفوضى البلد وحيث لم يعد من مؤسسات سوى حكومة مصطفى الكاظمي وقوات مسلّحة تتعاطى مع الوضع في غاية الحذر، تتويج لأزمة نظام لم يعد قابلا للحياة. تجاوزت الأزمة النظام إلى ما هو ابعد من ذلك. المطروح حاليا مصير العراق في وقت تبدو الإدارة الأميركيّة التي تسببت بقيام النظام الحالي بعيدة جدا عن كلّ ما له علاقة بالعراق.
يبدو العراقيون على عتبة حرب جديدة مع ايران لتأكيد أنّ بلدهم لا يزال قابلا للحياة من جهة وأنّه مستقلّ عن ايران من جهة أخرى. إنّها بالفعل ايّام مصيريّة على صعيد العراق كلّه، بل ايّام مصيريّة على الصعيد المذهبي أيضا. هل المرجعية الشيعيّة العليا في النجف ام في طهران؟
ليس معروفا ما الذي سيفعله مقتدى الصدر، لكنّ الواضح أنّه يعد نفسه لخوض معركة كبيرة على صعيد العراق . هل لديه المؤهلات التي ستسمح له بخوض هذه المعركة؟ سيكون مهما معرفة ما الذي سيفعله الشعب العراقي، خصوصا المجموعات المستقلة عن الأحزاب السياسية التي كانت وراء التحرّك الشعبي في تشرين الأوّل – أكتوبر 2019؟