في الثامن من يوليو/ تموز 1994 توفي فجأة مؤسس كوريا الشمالية وزعيمها المطلق وقائدها الأعظم ومعبود جماهيرها “كيم ايل سونغ” على اثر إصابته بنوبة قلبية عن 82 عاما.
سيناريوهات مختلفة
وقتها تبارت وسائل الإعلام في الحديث عن مصير هذه البلاد في ظل غياب الرجل الذي ترأس حكومتها ما بين عامي 1948 و1972 قبل أن يسيطر دون انقطاع بقبضة حديدية منذ عام 1972 على الأمانة العامة لحزب العمال الحاكم والقيادة العليا للجيش الكوري الأحمر. البعض قال أن مصير كوريا الشمالية لن يختلف عن مصير دول أوروبا الشرقية والاتحاد السوفيتي بمعنى تحررها من النظام الماركسي الاشتراكي وتبنيها للنظام الليبرالي التعددي. البعض الآخر تنبأ بحدوث صراع على السلطة ما بين ابني الزعيم الراحل غير الشقيقين “كيم جونغ ايل” و”كيم بيونغ ايل”، خصوصا وان الأخير كان قد أبعده والده إلى أوروبا ليعمل كدبلوماسي في سفارة بلاده في وارسو، تفاديا لاحتمالات تصادمه مع أخيه. كان هناك أيضا فريق توقع أن يتدخل الجيش فيمنع صعود “كيم جونغ ايل”، ليس فقط بسبب رعونته وتصرفاته الطائشة، وعدم وجود ما يشفع له في سيرته الذاتية من إنجازات وطنية مماثلة لإنجازات والده، وإنما أيضا بسبب ما قام به ضد الكثيرين من ذوي الرتب العليا داخل مؤسسة الجيش من فصل وتعنيف استنادا إلى رؤيته الخاصة بأنهم من البيروقراطيين الذين يسيئون إلى النظام ويهددون سمعته، وبالتالي يجب التخلص منهم.
كيم الابن مختلف كليا عن كيم الأب
كان كيم ايل جونغ في نظر العسكر الكوري الشمالي لا يتمتع بأي من مزايا وسجايا والده الذي دخل المعتقلات في سن مبكرة لدفاعه عن المباديء الماركسية وانشأ للغرض الأخير في حدود عام 1929 رابطة للطلبة الماركسيين في جنوب منشوريا، وشارك في العام 1935 مع الحركات الفدائية العاملة في شمال الصين تحت قيادة الحزب الشيوعي الصيني ضد القوات اليابانية، قبل أن يجتاز النهر الأصفر إلى الأراضي الروسية وينخرط في الجيش الأحمر السوفيتي، ويترقى في الرتب العسكرية حتى نهاية الحرب الكونية الثانية، ويؤسس من هناك الجيش الأحمر الكوري الشمالي الذي سيزحف لاحقا نحو شبه الجزيرة الكورية بمساعدة فنية وعسكرية من صين ماو وروسيا ستالين، ويستولي على معظم أراضيها، بما في ذلك الأراضي التي تشكل اليوم جزءا من تراب كوريا الجنوبية، قبل أن تتدخل الأمم المتحدة والولايات المتحدة لتدفعا به شمالا نحو المنطقة الحالية منزوعة السلاح. كان “كيم ايل سونغ” في نظر هؤلاء العسكر، معجزة زمانه، رغم كل الحرج الذي تسبب لهم فيه لعدم استطاعته مجاراة ما فعله نظيره الفيتنامي “هوشيه منه” لجهة خوض حروب التحرير الشعبية ضد “الإمبريالية” و نجاحه لاحقا في توحيد شطري الوطن المقسم.
العوامل التي ساهمت في انتشار السيناريوهات السابقة
ولعل ما ساعد في حينه على انتشار تلك السيناريوهات المشار إليها أعلاه أمران: الأول هو العزلة المريرة التي فرضتها كوريا الشمالية على نفسها منذ إنشائها بحيث صارت صنوا للغموض ومن الصعب إدراك ما يجري فيها. والثاني هو أن الإعلان عن استلام كيم الابن لجميع مقاليد الأمور خلفا لكيم الأب تأخر إلى الثامن من أكتوبر 1997، مما أشاع باحتمال وجود صراع داخلي على النحو الذي ذكرناه سالفا. هذا الأمر الذي سرعان ما تبين انه كان متعمدا من اجل دفع الأعداء (عبارة يقصد بها كوريا الجنوبية والولايات المتحدة والغرب) إلى ضرب الأخماس في الأسداس.
عودة الحديث عن التوريث في كوريا الشمالية
اليوم، وبعد مرور أكثر من عقدين على تلك الأحداث التي لم يتخللها أي انفراجات أو إصلاحات، سواء على صعيد العلاقات مع الشطر الجنوبي أو على صعيد الإصلاح الداخلي – بل على العكس من ذلك دخلت أثناءها البلاد في نفق التحرشات العسكرية العبثية مع واشنطون وسيئول وطوكيو والغرب، في صور استعراضات للقوة في المياه الدولية وتهريب الأسلحة إلى جماعات ودول خارجة على القانون والاستمرار في برامج نووية مكلفة وتحدي المجتمع الدولي، الأمر الذي نجم عنه اضطرار الإدارة الأمريكية السابقة إلى إدراج نظام بيونغيانغ كما هو معروف في قائمة دول محور الشر. علاوة على ما سبق بيانه تحولت السلطة في عهد كيم الابن إلى سلطة أكثر مركزية عما كان في ظل أبيه بسبب قلة خبرته وطيشه وشكوكه فيمن حوله وعدم استماعه إلى نصائح مستشاريه. وهو ما انعكس أيضا بصورة سلبية على أحوال البلاد الاقتصادية فشاعت المجاعة وقلت موارد الطاقة المغذية لمحطات الكهرباء والمياه.
والحال، أنه بعد مرور أكثر من عقدين من غياب الزعيم المؤسس كيم ايل سونغ، يعود الحديث مرة أخرى حول من سيخلف ابنه “كيم جونغ ايل” في قيادة هذا البلد الغامض. خصوصا مع تسرب أنباء كثيرة من بيونغيانغ حول تدهور صحة الزعيم كنتيجة لشراهته في تناول الأطعمة والمشروبات الكحولية وممارسة الجنس ومشاهدة الأفلام السينمائية طوال الوقت (يقال أنه يحتفظ بأكثر من 20 ألف شريط فيديو في قصره لروائع الأعمال السينمائية الأمريكية والإنجليزية والروسية والصينية واليابانية).
غياب الزعيم اغرق الجوار في الشائعات
وقد ترافقت هذه الأنباء مع غياب الرجل عن حضور مناسبات مهمة مثل عدم تواجده في مناسبة إشعال شعلة الدورة الاولمبية الأخيرة في ابريل عام 2008 وعدم ظهوره في العرض العسكري بمناسبة الذكرى الستين لتأسيس جيش الشعب الأحمر في سبتمبر 2008، وظهور تقارير كورية جنوبية حول عجزه عن المشي بسبب مرض السكر. فضلا عن صدور مؤلفات في اليابان تقول بأن الرجل الذي يظهر في بعض المناسبات ليس هو كيم جونغ ايل الحقيقي وإنما شبيه له استأجرته المخابرات الكورية الشمالية ليحل مكانه خوفا من اغتياله، أو للرد على إشاعات واشنطون بأن حاكم بيونغيانغ مات بالسكتة القلبية.
كيم الأب أعدّ ولده جيدا لوراثته
وعلى خلاف ما جرى في عهد كيم الأب الذي حرص على إعداد ابنه الأكبر لخلافته، فدفعه إلى الانخراط في مجالات متعددة كدراسة الاقتصاد السياسي الماركسي وتعلم الفنون العسكرية والموسيقى، ومزاولة هوايات كثيرة مثل إصلاح الجرارت الزراعية والسيارات وأجهزة التلفزيون، وصحبه معه في جولاته في الأرياف والمناطق النائية والمصانع، وأرسله إلى الصين وروسيا لتعلم الصينية والروسية، علاوة على إرساله إلى مالطا زمن رئيس حكومتها الأسبق – اليساري دوم مينتوف- لدراسة الإنجليزية، قبل أن يجعله يصعد سلالم الحزب والجيش الأحمر والدولة خطوة خطوة ويحصد الألقاب مثل “الزعيم الغالي” و “الزعيم المفكر” وصولا إلى التصريح علنا في عام 1976 بأن ابنه “كيم جونغ ايل” هو وحده المسئول عن كل الأمور الداخلية في البلاد.. خلافا لهذا، نجد أن كيم الابن لم يعد أيا من أبنائه لخلافته، وان كانت المصادر الكورية الجنوبية قد ألمحت مرارا بأنه يقترب من تسمية ابنه “كيم جونغ تشول” كخليفة له. الأمر الذي دفع بعض مراقبي الشئون الكورية من أمثال الأكاديمي كيم يونغ هيون للتصريح بأن قادة الجيش الأحمر المخضرمين من أمثال وزير الدفاع الأسبق “أو تشين يو” لئن كانوا في مقدمة الداعمين لما أراده زعيم الأمة في عام 1972 حينما نصب ابنه كوريث على عرش كوريا الشمالية، فإنهم سيكونون هذه المرة بالمرصاد ولن يسمحوا باستمرار حكم سلالة آل كيم رغم سياسة عبادة الشخصية المتجذرة في المجتمع.
أقرب المرشحين لخلافة “كيم جونغ ايل”
والمعروف أنه إلى وقت قريب كان المرشح لزعامة كوريا الشمالية هو ابن كيم جونغ ايل الأكبر “كيم جونغ نام”. لكن يبدو أن الأخير فقد الآن الحظوة بعد الفضيحة التي تورط فيها في مطار ناريتا الدولي في اليابان في عام 2001، حينما أوقفته سلطات الهجرة اليابانية وهو يحاول دخول طوكيو بوثيقة سفر مزورة، من اجل زيارة مدينة الألعاب الأمريكية “ديزني لاند”.
زيجات “كيم جونغ ايل” وأولاده
والمعلوم أن كيم جونغ ايل تزوج للمرة الأولى من “كيم يونغ سوك”، ابنة احد الجنرالات المقربين من والده، تحت ضغط الأخير. لكنه لم يعاشرها معاشرة الأزواج مفضلا اللهو مع إحدى المحظيات (سونغ هاي ريم) التي أنجبت له في عام 1971 ابنه البكر “كيم جونغ نام”. وحينما توفيت الأخيرة في ظروف غامضة في مصحة في الاتحاد السوفيتي في عام 2002 دون أن تحظى بالاعتراف، ظهرت محظية ثانية في حياة قائد الأمة المقبل وهي “كو يونغ هي” التي أنجبت له في عام 1981 “كيم جونغ تشول” وفي عام 1984 “جونغ وونغ” قبل أن تموت بالسرطان في عام 2004 . وان كان موت هذه المحظية كسابقتها، أحيط بالكثير من علامات الاستفهام، كونها بدت في صحة جيدا حتى آخر يوم من اختفائها. وتفيد التقارير السرية حول حياة الزعيم الكوري الخاصة أنه منذ عام 2004 اتخذ من سكرتيرته الخاصة منذ الثمانينات “كيم أوك” محظية ثالثة.
آل كيم كتلة من الأسرار والغموض
وطبقا لمؤرخين كوريين، فان أسرة “آل كيم” تعتبر كتلة من الغموض في سيرتها. سواء لجهة الأماكن والتواريخ الحقيقية لميلاد أفرادها، أو لجهة أسمائهم الأصلية وأماكن نشأتهم الأولى. على أن الأمر الأكثر غموضا هو ما تنتهي به حياة زوجاتهم. فعلى سبيل المثال تزوج “كيم ايل سونغ” مرتين: الأولى كانت من “كيم جونغ سوك” التي توفيت في ظروف غامضة وهي في مقتبل العمر أثناء وضعها لابنتها الثانية. والثانية من “كيم ايل سوك” في عام 1952. على أن الزعيم المؤسس له الكثير من الأبناء غير الشرعيين بسبب تعدد علاقاته خارج إطار الزوجية وحبه لللهو. وكثير ممن ارتبط بهن لم يعد لهن وجود أو ربما لا يتجرأن على التصريح بتلك العلاقات الخفية.
elmadani@madani.com.bh
*باحث ومحاضر أكاديمي في الشئون الآسيوية من البحرين