رانيا سنجر- بيروت
في العام 1994 صدر القرار بحل حزب القوات اللبنانية، وأدخل الدكتور سمير جعجع السجن. يومها تراءى لبعض الأطراف أن حزب القوات انتهى أو في طريقه إلى الزوال، وأن جعجع أصبح خارج اللعبة السياسية وبعيدا عن صفحات تاريخ، تاريخ وطن مجبول بتضحيات ودماء أبنائه. اعتقد سجانو سمير جعجع أن الزنزانة الصغيرة التي أحكموا زجّه فيها، سوف تسهل عليهم احتلال كل شبر في لبنان. ولكنهم، اما تجاهلوا أو نسوا أن اللبنانيين هم عشاق الحرية والسيادة والاستقلال، أن اللبنانيين لم يعجزوا يوما أو يكلوا عن الدفاع عن أرضهم في وجه كل مستعمر، أن هذا الشعب يأبى الركوع والخضوع وحتى الاستسلام لو مهما طالت السنوات عليه وقست. وهذا ما حصل. خرج سمير جعجع من سجنه الصغير، قائدا بعد إحدى عشرة عاما، وأكثر عزيمة مما كان عليه من قبل. لم ينس القواتيون ولا حتى اللبنانيون قائدا فضل أن يكون في زنزانة لا يدخلها ضوء النهار، بدلا من أن يكون في سجن ذهبي، أو إذا صح التعبير في منفى ذهبي. لم يصادر قضية وطنه، لم يساوم على الأحرار، لم يتنازل عن قناعاته ومبادئه الاستقلالية. هذا هو سمير جعجع، الذي كانت قوة إيمانه مصدر غذى لمحبيه، وكانت صلابته رمزا لقيادة مسيرة العدالة والسلام.
اليوم وبعد 16 عاما، هذه الأعوام الكثيرة التي حفلت بنضالات وانجازات لطالما حلم بها اللبنانيون، بعد كل هذه السنوات، ما زال سمير جعجع هو هو. ما زال ذاك الرجل الذي رفض يوما أن ينصاع حتى ولو كانت حياته هي الثمن.
يسخرون من ثورتنا.. ويستهزؤون من شعارات رفعناها.. ويا ليتهم تمكنوا من انجاز القليل القليل مما حققناه.. السنوات الخمس الماضية التي اعتبرتموها فارغة من أي أعمال نضالية، هي التي خطت تاريخ لبنان من جديد. وهنا لا بد من أن نعيد لنستذكر ونكرر رسالة واضحة المعالم قالتها الاعلامية مي شدياق بوضوح “خمسة وثلاثون ألف جندي على دمائنا خرجوا والى لبنان لن يعودوا ولو كان الثمن العودة الى الموت والتضحية”.
نحن شعب يعشق الموت في سبيل وطنه.. سبق وأن افتدينا وطنا لا وهما.. ومستعدون اليوم لتكرار التجربة.. سنكون لهم بالمرصاد بكل ما أوتينا من عزم وقوة.. لكل من يحاول أو يفكر في استعمارنا.. فطريق العودة الى ماضي ولت من دون رجعة، وان فكر البعض باعادتها لن تكون الا معبدة بدمائنا وحريتنا وسيادتنا واستقلالنا..
قالها الحكيم بوضوح في احتفال أقيم في البيال لمناسبة الذكرى السادسة عشرة لحل حزب القوات اللبنانية، جاهر الضالين وقال “”إذا لم يكن من الموت بدّ فمن العار أن تموت جباناً”، إذا كانت الذكرى تفيد، فليس للبكاء على الأطلال، ولا لمجرد استحضار أحداث الماضي بل للتأسيس لمستقبل أفضل. بيد أنّي وعند استعراض احداث المرحلة السابقة أجد نفسي عاجزاً عن المرور عليها من دون أن أنحني أمام أوجاع وعذابات وآلام وتضحيات لمئات وآلاف القواتيين، الذين بالعهد تشبثوا وبالرغم من كل شيء استمروا، وتمكنوا من الصمود والتصدي السلمي الديمقراطي الحضاري للسلطة التي كانت قائمة، والذي تجلى بأبهى حلله في ذلك اليوم التاريخي من تلك السنة التاريخية، عنيت به يوم الرابع عشر من آذار 2005”.
جعجع استغرب الحملة التي يشنها البعض على المحكمة الدولية وسأل “لماذا كل هذه الحملات، بطريقة أو بأخرى، مباشرة او مداورة، على المحكمة الدولية؟ ماذا رأى أصحاب تلك الحملات بعد من المحكمة الدولية، حتى بدأوا رميها بشتى التهم والأوصاف؟ يقول البعض: يظهر ان الصهيونية العالمية والإستكبار والإمبريالية الدولية قد ذرّوا قرونهم في أعمال المحكمة، وسيدفعونها باتجاه يحقق مصالحهم السياسية. ولكن ماذا صدر حتى اللحظة عن دوائر المحكمة ليطرح البعض هكذا إفتراض؟ أعطونا أبسط دليل على ذلك ونحن أول الرافضين والمنددين، لأننا أولاً وأخيراً أهل الشهداء وآباؤهم وأمهاتهم. أمّا البعض الآخر، فيذهب إلى القول إنه من الأفضل أن لا تكمل المحكمة إذا كانت أعمالها ستهدد الإستقرار في لبنان. ولكن لماذا هذا الإفتراض؟ وكيف بكافة الأحوال يمكن لأعمال المحكمة أن تهدد الإستقرار في لبنان؟ إذا كانت أدلة وقرائن ووقائع المحكمة غير مقنعة أو مسيسة أو مزورة فسيتبين ذلك فوراً لأن أعمال المحكمة ليست سرية وسيكون كل الناس ونحن في طليعتهم كلّنا أعين وآذان لتفحص أدق تفاصيل الإدعاء، لأننا لن نرضى العبث بدماء شهدائنا، مهما يكن من أمر وفي أي حال من الأحوال. أما اذا كانت أدلة وقرائن المحكمة الدولية، دقيقة ساطعة أكيدة، فلماذا يهدد ذلك الاستقرار في لبنان؟”.
جعجع استطرد قائلا “لا حماية للبنان، ولا استراتيجية دفاعية، من دون دولة، ولا دولة من دون وجود القرار كل القرار فيها ولها. إذ إن أكبر خدمة نقدّمها لأعداء لبنان وفي مقدمهم اسرائيل هي تغييب الدولة. والدولة، بالفعل اليوم، مغيبة عن كثير مما يجري حالياً على اراضيها في المجالات العسكرية والأمنية، كما أن أكبر خدمة نقدّمها لأعداء لبنان وفي مقدمهم اسرائيل هي شرذمة الصف الداخلي اللبناني. وليس من عامل أشد فعلاً في شرذمة الصف الداخلي، أكثر من نكران حق الآخرين في المناقشة وإبداء الرأي واتخاذ الموقف، إن كان الموضوع، موضوع سلاح حزب الله، ام جنس الملائكة أم سواه”، وسأل: “بالتالي عن اي استراتيجية يتكلمون؟ واي نتائج يتوخون اذا كانوا كل يوم يضربون بعرض الحائط المرتكزات الأولية الجوهرية المطلوبة لنجاح اي استراتيجية دفاعية ألا وهي وحدة القرار في الدولة ووحدة الشعب؟”.
وتابع بالقول: “إن الأمر الواقع العسكري والأمني الحالي في لبنان موروث من ايام الوصاية، وليس نتيجة لمناقشات هادئة رصينة جديّة بين اللبنانيين، لذلك فهو لا يشكل استراتيجية دفاعية، بالمعنى الفعلي للكلمة، عدا عن أنه ليس موضع إجماع. وإن ما علينا فعله وبأسرع ما يكون، هو من جهة، وضع قرار الدفاع عن لبنان لدى الحكومة اللبنانية، ومن جهة ثانية، مناقشة فعلية جدية وبالعمق على طاولة الحوار للإستراتيجية الدفاعية الأفضل للبنان، فحماية لبنان لا تقوم على مصادرة فريق من اللبنانيين لقرار الدفاع عن لبنان واستبعاد الدولة اللبنانية وكل الآخرين عنه، بل إن خطوة وضع قرار الدفاع عن لبنان داخل مجلس الوزراء، السلطة التنفيذية الشرعية القانونية للبلاد، وحيث الجميع ممثلون هي الخطوة الأولى والأساسية المطلوبة في الاتجاه الصحيح”.
جعجع الذي قال: “شعارنا كقوات لبنانية وكقوى 14 آذار هو “لبنان اولاً”، والكل يعرف مدى ايماننا وتعلقنا بهذا الشعار”، أوضح في الوقت عينه أن “شعار “لبنان اولاً” لا يعني بأي حال من الأحوال لا تقوقعاً ولا انعزالاً خصوصاً عن عالمنا العربي الأوسع. إن العالم العربي يعيش منذ اكثر من نصف قرن مأساةً كبيرة، اسمها القضية الفلسطينية، وإذا كان لنا كلبنانيين تجربة مرة ومؤلمة مع السلاح الفلسطيني في السبعينات، فهذا امر تجاوزناه ولن يؤثر لحظة على نظرتنا للقضية الفلسطينية. بل إن نظرتنا نحن كقوات لبنانية للقضية الفلسطينية لا تنبع لا من الإيديولوجيا ولا من الدين ولا من العرق، بل من شعور عميق واع بالحق وبوقائع التاريخ والجغرافيا، كما بالحقائق الإنسانية الكبرى، فليس مقبولاً في القرن الحادي والعشرين، ان يعيش شعبٌ بأكمله مشتتاً بعيدا عن أرضه ومن دون دولة، ومن جهة اخرى نحن لا نعتقدن لحظة بأنّه يمكن حل اي من مشاكل الشرق الأوسط قبل قيام دولة فلسطينية مستقلة حرة. إن بقاء القضية الفلسطينية من دون حلّ يفتح الباب على مصراعيه للتطرف في كل الإتجاهات، كما يفتح المجال واسعًا أمام الأنظمة اللاديمقراطية في المنطقة للحد اكثر فأكثر من الحريات تحت حجة ان لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، لذا فإذا أردنا التخلص من الكثير من الأدران والفطريات في مجتمعاتنا العربية، فليس من طريق اقصر من حل عادل محق وشامل للقضية الفلسطينية”، لذلك دعا جعجع “من على هذا المنبر بالذات”، الحكومة اللبنانية والحكومات العربية والدول الأجنبية كافة إلى “وضع كل ثقلها على الإطلاق، لإنجاح مساعي السلام الحالية المتعثرة بكل الطرق المتوفرة، لأنه لا حل لأي من مشاكل المنطقة ولكثير من مشاكل العالم، من دون حل عادل وشامل ونهائي للقضية الفلسطينية”.
جعجع في الذكرى 16 لحل حزب القوات: أكبر خدمة نقدمها لاسرائيل هي تغييب الدولة
إلى “الشفاف”
أعتقد أن التزام الخط الليبرالي الديمقراطي لا يحتم ممارسة إعلامية مدّاحة كما تفعل صحافة النظام السوري وأقزامه اللبنانيين.
لا داعي لمديح أحد.. لا جعجع ولا غيره.
العامل في الشأن العام (السياسي) يحاسب إذا أخطأ ولا يشكر إذا فعل خيراً.
يجب أن يقول جعجع أنه يقوم بعملية نقد ذاتي لتاريخه وتاريخ “القوات” وأنا أشجعه بشدة، دون مدحه إذا فعل، فهذا واجبه.
شكراً