”أَفِيقُوا أَفِيقُوا يَا غُوَاةُ فإنَّمَا
دِيَانَاتُكُمْ مَكْرٌ مِنَ القُدَمَاءِ“
أبو العلاء المعرّي
*
مقدمة
”إنّ الإسلام في أزمة اليوم“، يقول محمد مجتهد شبستري، أستاذ الفلسفة في كلية أصول الدين في جامعة طهران، ويضيف: ”إن دينًا لا يستطيعُ أنْ يعرض قِيَمَه بصورة سليمة هو دين يعيش في أزمة.“[[أنظر: محمد مجتهد شبستري، ديننا في أزمة“، الشفاف.]]
قبل الخوض في هذه الأزمة، والتي نشأ على خلفيّتها الإرهاب الإسلامي، من الجدير بالتذكير أوّلاً وقبل كلّ شيء إنّ الطبيعة البشرية واحدة ويشترك فيها جميع بنو البشر منذ أن وُجدوا على هذه الأرض. الاختلاف الظاهر في العنصر، الجنس، لون البشرة، اللّسان وسائر المزايا البشرية لا تُلغي تلك الحقيقة الواحدة الجامعة لهم بوصفهم خلقًا ناطقًا، ضاحكًا، باكيًا وحالمًا. لذلك، فلدى الحديث عن موضوعة الإرهاب يجب التفريق بين منظومتين اثنتين: أوّلاً، منظومة المسلمين الذين ولدوا لأبوين ينتميان للإسلام في مجتمع يدين بالإسلام كعقيدة متوارثة أبًا عن جد. وثانيًا، منظومة المسلمين الذين يتّخذون من الإسلام عقيدةً أيديولوجيةً تستند إلى ركائز من موروث قديم بدعوى أنّ هذا الإسلام الذي نشأ في جزيرة العرب في القرن السابع هو كامل متكامل وصالح لكلّ زمان ومكان.
ما من شكّ في أنّ الثورة التكنولوجية والمعلوماتية التي اجتاحت العالم في العقود الأخيرة قد وضعت جمهور الذين ينتمون إلى العالم العربي والإسلامي في خانة صعبة. لقد وجد هؤلاء أنفسهم مضطرّين إلى مواجهة التحدّيات التي يجلبها معه هذا العصر المتسارع باختراعاته واكتشافاته. فقد أضحى العالم، على خلفية هذه الطفرة المعلوماتية، قرية صغيرة تنتقل فيها المعلومة بالكلمة، بالصوت وبالصورة بسرعة البرق. فيكفي أن يمتلك الفرد حاسوبًا متّصلاً بالإنترنت ليشاهد ويعرف ما يجري حوله في هذا العالم.
غير أنّ هذا الانفتاح الذي كان يمكن أن يشكّل نعمة على العالم العربي قد وضع الناس أمام حقائق العصر التي لا يمكن تجاهلها. فكلّ تقارير التنمية البشرية الصادرة عن الأمم المتحدة في العقود الأخيرة والتي بحثت الأوضاع البشرية قد أشارت إلى أوضاع مأساوية مزمنة في العالم العربي وعلى جميع الأصعدة: الاقتصادية، السياسية، الثقافية والاجتماعية.
ولمّا كان الفرد العربي يترعرع في هذه البلدان على ثقافة تمجيد الماضي العربي من العصور الإسلامية الإمبراطورية السالفة، فقد وجد نفسه مضطرًّا إلى مقارنة أحواله في هذه الأيّام بتلك الأزمان السالفة من جهة أولى، ومقارنة أحواله هذه بسائر شعوب العالم التي اندفعت قدمًا على جميع الأصعدة، بينما ظلّ هو على قارعة الطريق مستهلكًا لكلّ ما تنتجه الشعوب الأخرى. إنّه لا يبدع ولا ينتج أيّ شيء يذكر من مقوّمات حياته على هذه الأرض، بدءًا من الإبرة، الثّوب والكوفية، وانتهاءً بالسيّارة، الطائرة والحاسوب. وكلّ هذا ناهيك عن إنتاج الغذاء لملايين البشر.
وهكذا، يتحوّل الحنين إلى الماضي الأسطوري والمتوهّم، والّذي ترعرعت عليه الأجيال العربية والإسلامية طوال عقود طويلة، إلى الملجأ الوحيد الذي يهرب إليه العربي، والمسلم بعامّة، من حالات الإحباط النفسية في حياته الراهنة. إنّ هذه الحال بالذات، هي الخلفية التي تستغلّها الحركات الأصولية التي ترى في ذلك الماضي المتوهّم دواءً جاهزًا لمعالجة كلّ أمراض مجتمعاتها في هذا العصر. كذلك، فإنّها ترى في ذلك الماضي المتوهّم أرضيّة خصبة للخيال والسبيل الوحيد للانطلاق مجدّدًا في رحلة ”الفتوحات“ العصرية، على هدي الأسلاف من الأزمان الصحراوية الغابرة. وإذا ما أردنا تقريب هذه الحال إلى الأفهام، يمكننا القول إنّ حال الإسلاميين هذه، على العموم، هي أشبه بشخص أُثبتت عيونه في قفا رأسه، وأنظاره موجّهة دومًا إلى الوراء. ولمّا كان على هذه الحال، فهو لا يستطيع أن يخطو قدمًا، فكلّما حاول التقدّم خطوة للأمام، فهو سرعان ما يعثر في طريقه وينكبّ على وجهه، إذ أنّ عيونه ترى الوراء – الماضي – والوراء فقط.
نافع لكلّ زمان ومكان
إنّ الركود الفكري الذي يُحذّر منه الأستاذ شبستري مُستمرّ منذ القرن السابع الهجري. لقد كان منتصف ذلك القرن علامة فارقة في تاريخ الإسلام من الناحية السياسية والفكرية، حيث شهدت تلك الفترة علامات أفول الدولة العباسية، كما سُدّ في تلك الفترة باب الاجتهاد في الإسلام، فانحسر الإسلام إلى وجوب اتّباع النّقل عن مذاهب السنّة الأربعة وتحريم اتّباع أيّ مذهب آخر. لقد حدث ذلك مع افتتاح المدرسة المستنصرية في بغداد، وهي التي تمّ تقسيمها إلى أربعة أجنحة، واحد للشافعية، واحد للحنفية، واحد للحنابلة، وواحد للمالكية. وقد تمّ اختيار فقهاء لتدريس كلّ مذهب سيرًا على نهج المشايخ الأربعة: ”وألزموهم أن لا يذكروا شيئًا من تصانيف أنفسهم للطلبة المتفقهين عندهم، وأن لا يلزموهم بحفظ شيء من تلك التصانيف، بل يقتصرون على ذكر كلام المشايخ القدماء.“ وعندما اعترض مدرّس الشافعية، ومدرّس الحنفيّة على ذلك: ”بما معناه أن المشايخ كانوا رجالا ونحن رجال، ونحو ذلك من الكلام الموهم للمساواة بينهم وبين المشايخ القدماء… أنهى الوزير صورة الحال إلى حضرة الخليفة المستعصم، فتقدم الخليفة بأن يُلزموا المدرسين بذكر كلام المشائخ واحترامهم، فأُلزموا بذلك، فأجابوه جميعًا بالسمع والطاعة.”[[للتوسع في هذه المسائل، أنظر: آغا بزرگ الطهراني، توضيح الرشاد في تاريخ حصر الاجتهاد.]] وهكذا، ومنذ ذلك الأوان، دخل الإسلام في مرحلة الجمود الفكري لقرون طويلة لاحقة.
لقد سارت الحال على هذا المنوال حتّى بدايات القرن العشرين، حيث ظهرت على الساحة دعوات لفتح باب الاجتهاد من جديد. ولعلّ أبرز الذين كانوا قد دعوا مجدّدًا إلى الإصلاح وإلى إعمال العقل من جديد هو مفتي الديار المصرية وشيخ الأزهر، الإمام محمّد عبده. لقد أطلق محمد عبده دعوة مجدّدة إلى إلغاء التحريم المفروض على الفلسفة وطالب بتدريسها، كما نادى بتحكيم العقل وفتح باب الاجتهاد من جديد. لقد طالب بالإقرار بحقّ الفرد في أن ينظر في النصوص المؤسِّسة للإسلام ”بدون توسيط أحد من سلف أو خلف“.ل[[قد عارض بذلك ما ذهب إليه فقهاء الحنفيّة الذين يقولون: “العامي لا رأي له ولا مذهب، وإنما مذهبه قول مفتيه وشيخه”، كما قال الفقيه الحنفي محمد بيرم، انظر: مجلة المنار؛ انظر أيضًا: مجلة الأبحاث الإسلامية.]] لقد ذهب بعيدًا في محاولاته الإصلاحية، حيث أصدر فتاوى بتحليل الفوائد المصرفية وإباحة اللباس الإفرنجي للمسلمين وندّد بتعدّد الزوجات، كما إنّه طالب بحرية المعتقد الديني لدرجة أنّه أتاح للفرد حرية الاختيار: “من شاء أن يدخل في الإسلام فليفعلْ، ومن شاء أن يخرجَ منه فله ذلك”.[[أنظر: علي عمران، قراءة في حركات الإصلاح الديني.]] غير أنّ دعواته الإصلاحيّة هذه قد ذهبت أدراج الرياح.
وهكذا، وبعد مرور قرن من الزّمان على تلك الدعوات الإصلاحية المتجدّدة، فإنّ التحذيرات التي يطلقها الأستاذ شبستري في هذا الأوان، تشي لنا بأنّ شيئًا لم يتغيّر في التوجّهات الإسلامية. إنّها تُحيلنا من جديد إلى تلك المقولة المتأصّلة في أذهان الإسلاميين، على اختلاف تيّاراتهم، بأنّ الإسلام بشرائعه وتشريعاته كامل متكامل منذ نشأته في القرن السابع في جزيرة العرب، وأنّه عابر للحدود الزمنية والمكانية، وهو صالح لكلّ زمان ومكان.
مصدر التشريع
أمّا المصادر التي تتأسّس عليها هذه الشريعة الإسلامية العابرة للزمان والمكان ومنذ القدم فهي النصّ القرآني أوّلاً، ثمّ النصوص المتوارثة عن السنّة النبويّة، إذ أنّ: ”الكتاب والسنة، بما تضمّناه من نصوص وأحكام، جاءت على قدر كبير
من الدقة والأحكام الموروثة والمبادئ العامة والقواعد المقررة، مما يجعل هذه الشريعة صالحة لكل زمان ومكان“.[[انظر: عبد الله بن محمد العجلان، ”صلاحية التشريع الإسلامي للبشر كافة“، مجلة البحوث الإسلامية.]]
وبكلمات أخرى، فإنّ النصّ القرآني الذي خرج من جزيرة العرب في القرن السابع هو القول الفصل العابر للزمان والمكان في كلّ شاردة وواردة. وإذا اتّسم هذا النصّ القرآني بعدم الوضوح وكان قابلاً للتأويل، فيجب الأخذ بالسنّة النبوية وبنهج الصحابة والتابعين: ”فقد بيّن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته السنة، وأوضَحَها لأصحابه، وهم الجماعة“.[[ولذلك ”فمن خالف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء من أمر الدين فقد كفر … فاحذر المُحدَثات من الأمور، فإنّ كلّ مُحدثة بدعةٌ، وكلّ بدعة ضلالةٌ، والضلالة وأهلها في النار“. انظر: شرح السنة، للإمام أبي محمد بن علي الحسن البربهاري 329 هـ.]] ليس هذا فحسب، بل ينظر علماء المسلمين، منذ القدم وحتّى يومنا هذا، إلى الأحاديث النبويّة بوصفها وَحْيًا إلهيًّا، كنظرتهم إلى النصّ القرآني ذاته: ”جميع ما جاء في القرآن حقّ، وكل ما جاء في الحديث الصحيح وحيٌ.[[“أنظر: رسالة من عشرات علماء المسلمين إلى الخليفة البغدادي. بل وأكثر من ذلك، ينظر هؤلاء العلماء في هذا الأوان إلى الرسول والصحابة بوصفهم: ”كانوا أكبر وأعظم منَّا جميعًا فهمًا وفقهًا وعقلًا“، رغم أنّهم كانوا يعيشون بدون التكنولوجيا المعقّدة، كما تنصّ عليه الرسالة المذكورة.]] بل وأبعد من ذلك وأخطر، إذ أنّ من لا يرى هذا الرأي فهو في عرف فقهاء الإسلام كافر ومرتدّ عن دين الإسلام، بما تتضمنّه هذه المصطلحات من أبعاد خطيرة. هذا ما تصرّح به الفتوى الإسلامية التالية: ”فإن شمولية دين الإسلام وصلاحيته لكل زمان، وكل مكان، ووفاءه بكل متطلبات الإنسانية الدينية والدنيوية واجب ديني. ومن اعتقد خلاف ذلك، وأن الإسلام يصلح لزمن دون زمن، أو لطبقة دون أخرى، أو أن غيره أصلح للناس منه، وأوفى بمتطلباتهم، فقد كفر… وكل هذا معلوم من الدين بالضرورة. وعلى هذا، فمن أنكر شمولية الدين بالمعنى الذي ذكرنا، فهو كافرٌ مُرتدّ عن الإسلام. [[أنظر: إسلام ويب – مركز الفتوى، رقم الفتوى: 9263؛ أنظر أيضًا: البربهاري، شرح السنة.]]
ولمّا كانت الطفرة المعلوماتية قد وصلت أطراف الأرض، فإنّ عولمة المصادر الإسلامية تتيح لكلّ من يملك حاسوبًا أن يغوص في هذا الموروث الذي أُسبغت عليه قداسة تُحظر مساءلتها ويمنع التشكيك فيها. ولمّا كان باب المساءلة والاجتهاد قد أُغلق على هذا الموروث منذ قرون طويلة، فإنّ هذه النّعمة التكنولوجية التي أتاحت لنا الوصول إلى أمّهات المصادر التراثية بسرعة البرق تُضحي في نهاية المطاف نقمة على أصحابها، فلا يستطيعون فكاكًا من هذا الموروث الإسلامي على ما يتضمّنه من أمور لا يستطيع المنطق السليم أن يتقبّلها في هذا الأوان. وبكلمات أستاذ الفلسفة في جامعة طهران: ”نحن اليوم في طور لم يعد فيه ما قيل في القرون الماضية يملك أية قيمة في نظرنا كمسلمين معاصرين.[[“أنظر: محمد مجتهد شبستري، ديننا في أزمة“، الشفاف.
]]
العصور الذهبيّة للخلافة؟
(1) اغتيال الخلفاء: جدير بالذّكر أنّ عصور الخلافة الإسلامية الغابرة، وعصر الخلافة الراشدة على رأسها، تتمثّل في ذهنيّة الإسلامويّين بوصفها عصورًا إسلامية ذهبية يطمح المسلمون في العودة إليها وإلى منظوماتها الأخلاقيّة التي ينبغي للمسلمين السير على هديها. غير أنّ ذلك الماضي البعيد لم يكن في يوم من الأيّام على تلك الصّورة الورديّة التي ترتسم في المُخيّلة التي ترعرعت عليها الشعوب العربية والإسلامية. إذ إنّ العودة إلى المصادر الإسلاميّة الّتي وثّقت لنا أحداث تلك الأزمان الغابرة تكشف لنا نقيض ما تمّ غرسه في مخيّلة هذه الشعوب.
فهل حقًّا كان ذلك العصر عصرًا أخلاقيًّا بكلّ ما يعنيه المصطلح من معنى؟ للإجابة على ذلك، يكفي أن ننظر إلى ما آل إليه مصير الخلفاء الراشدين من اغتيال وتمثيل بجثثهم لينكشف لنا زيف هذه النّظرة المتوهّمة لماض هو أبعد ما يكون عمّا يرتسم في المخيّلة.
فها هو الخليفة عمر بن الخطّاب يلقى حتفه بطعنة من أبي لؤلؤة. يجدر بنا أن نتذكّر أنّ أبا لؤلؤة هذا هو من جملة من سبتهم الجيوش العربية في نهاوند من بلاد فارس. أمّا الروايات العربيّة التي تتطرّق إلى هذا الحدث فإنّّا تصف أبا لؤلؤة هذا بالخُبث. إنّها تُغدق عليه هذه الصفة، لا لشيء إلاّ لأنّه كان يتفطّر حزنًا ويعطف على الأولاد الصغار الذين اقتادتهم جيوش الاحتلال العربية من بلاد فارس وأحضرتهم لاستعبادهم في جزيرة العرب: ”وكان خبيثًا، إذا نظرَ إلى السَّبْي الصّغار يأتي فيمسح رؤوسَهم ويبكي، ويقول: إنّ العرب أكلت كبدي.“[[أنظر: ابن سعد، الطبقات الكبرى؛ انظر أيضًا: البلاذري، [أنساب الأشراف->http://library.islamweb.net/hadith/display_hbook.php?bk_no=196&pid=125643&hid=2522
].]]
وإذا بحثنا عن مصير الخليفة الثالث عثمان بن عفّان فسنرى أنّه لم يكن بأفضل حالاً من سابقه. فها هو المؤرّخ الطبري يروي لنا كيف كانت نهايته الوخيمة: ”وأمّا عمرو بن الحمق فوثبَ على عثمان، فجلسَ على صَدْره وبه رَمقٌ، فطَعنَه تِسعَ طعنات. قال عمرو: فأمّا ثلاث منهنّ، فإنّي طعنتهنّ إيّاه للّه. وأمّا ستّ، فإنّي طعنتهنّ إيّاه، لما كان في صدري عليه“[[انظر: الطبري، تاريخ الأمم والملوك؛ انظر أيضًا: ابن الأثير، الكامل في التاريخ
]؛ ابن منظور، مختصر تاريخ دمشق؛ ابن كثير، [البداية والنهاية->http://islamport.com/w/tkh/Web/927/2660.htm?zoom_highlight=%2522%25DA%25E3%25D1%25E6+%25C8%25E4+%25C7%25E1%25CD%25E3%25DE%2522
].
]]
. كما تذكر الروايات أنّه جرت محاولات لحزّ رأسه، لولا التوسّل والاستجداء من قِبَل أهله[[أنظر: باقر شريف القرشي، علي بن أبي طالب، الجزء الثاني.]]. ليس هذا فحسب، بل أكثر من ذلك: ”إن عثمان بعد قتله أُلقي على المزبلة ثلاثة أيام… وأما غلاماه اللذان قُتلا معه فجرّوهما برجليها وألقوهما على التلال، فأكلتهما الكلاب.“ [[أنظر: عبدالحسين الاميني، من حياة الخليفة عثمان؛ أنظر أيضًا: الطبري، تاريخ الرسل والملوك؛ وقد تمّ دفنه فقط بعد أن أذنَ عليّ بن أبي طالب بذلك: ”بقي عثمان ثلاثة أيام لا يدفن، ثم إن حكيم بن حزام القرشي وجبير ابن مطعم كَلّمَا عليًّا في أن يأذن في دفنه، ففعل.“، أنظر: ابن الأثير، الكامل في التاريخ.]]
وحينما خرجت جنازته في نهاية المطاف، بمشاركة قليل من أهله، بعد أن أذنَ بذلك عليّ بن أبي طالب، كان النّاس يرجمون سريره، ويهمّون بإلقائه أرضًا، ثُمّ دُفن أخيرًا في مقبرة لليهود.[[”وخَرجَ به ناسٌ يسيرٌ من أهله؛ وهم يريدون به حائطًا بالمدينة، يُقال له: حُشّ كوكب، كانت اليهود تدفن فيه موتاهم. فلما خُرج به على الناس رَجَمُوا سريرَه، وهَمُّوا بطرحِه. فبلغَ ذلك عليًّا، فأرسلَ إليهم يعزمُ عليهم ليكفّنّ عنه، ففعلوا. فانْطلقَ حَتّى دُفن رضي الله عنه في حُشّ كوكب.“ أنظر: الطبري، تاريخ الرسل والملوك.
]]
أمّا عليّ بن أبي طالب فقد لقي مصرعه في المسجد بالكوفة، حيث كمن له هناك عبد الرحمن بن ملجم الذي كان قد اختار أن يقتل عليًّا ثأرًا على قتل إخوان له، وذلك لأنّه ”قد حَكّم الرجال في كتاب الله، وقتل إخواننا المصلينَ؛ فنقتله ببعض إخواننا[[“أنظر: المسعودي، مروج الذهب]]؛.. وكان ابن ملجم قد تواعد مع آخرين على تنفيذ الاغتيالات: ”اجتمَعُوا فتذاكَرُوا أمرَ الناس وعابُوا عملَ وُلاتهم، ثم ذكرُوا أهلَ النهر فترحّموا عليهم، وقالوا: ما نصنع بالبقاء بعدهم؟ فلو شرَينا أنفُسَنا وقتلنا أئمة الضّلالة وأرحنا منهم البلاد! فقال ابن ملجم: أنا أكفيكم عليًّا.“”وقال البرك بن عبد الله: أنا أكفيكم معاوية. وقال عمرو بن بكر: أنا أكفيكم عمرو بن العاص“، [[أنظر: ابن الأثير، الكامل في التاريخ.]] كما إنّ الروايات التي أوردها لنا المؤرّخون تشي بوجود جانب شخصي لهذا الاغتيال، حيث تذكر لقاء ابن ملجم بابنة عمّ له وكانت بارعة الجمال. فحين تقدّم لخطبتها اشترطت عليه مَهرًا، وكان أحد بنوده أن يقتل عليًّا، وذلك لأنّه قتل أباها وأخاها في موقعة النهروان.”[[فلما قدم الكوفة أتى قطَام بنت عمه، وكان علي قد قتل أباها وأخاها يوم النهروان، وكانت أجمل أهل زمانها، فخطبها، فقالت: لا أتزوج حتى تسمي لي: قال: لا تسأليني شيئًا إلا أعطيته، فقالت: ثلاث آلاف وعبدًا وقينة، وقتل عليّ، فقال: ما سألت هو لك مهر، إلا قتل عليّ، فلا أراك تدركينه، قالت: فالتمس غرّته، فإن أصبته شفيت نفسي وَنَفَعَك العيشُ معي، وإن هلكْتَ فما عند اللّه خير لك من الدنيا، فقال: واللّه ما جاء بي إلى هذا المصر، وقد كنت هاربًا منه، إلا ذلك. وقد أعطيتك ما سألت.“ أنظر: المسعودي، مروج الذهب؛ .]]
نفهم ممّا سلف أنّه لم تكن ثمّة حرمة لشيء، فلا حرمة شهر رمضان ولا حرمة المساجد تعني شيئًا في نظر هؤلاء، ولم يعرها المسلمون اهتمامًا بأيّ حال من الأحوال.[[فقد تمّ اغتيال عليّ في الليلة الثالثة عشرة من رمضان ”وهي الليلة التي واعد ابن ملجم أصحابه على قتل علي ومعاوية وعمرو، أخذ سيفه ومعه شبيب ووردان وجلسُوا مقابل السدّة التي يخرج منها عليّ للصلاة. فلما خرج عليّ نادى: أيّها الناس، الصلاة الصلاة. فضربَه شبيب بالسيف، فوقع سيفه بعضادة الباب، وضربَه ابن ملجم على قَرْنه بالسّيف، وقال: الحكم للّه، لا لكَ يا عليّ ولا لأصحابك!“، أنظر: ابن الأثير، الكامل في التاريخ. أنظر أيضًا: الطبري، تاريخ الرسل والملوك؛ المسعودي، مروج الذهب؛ اليعقوبي، تاريخ؛ أبو الفرج الأصفهاني، مقاتل الطالبيّين؛ ابن منظور، مختصر تاريخ دمشق.]] ومنذ ذلك الزّمان الأوّل توالت الحروب القبليّة والاغتيالات على مرّ التاريخ الإسلامي فلم يكد خليفة واحد تقريبًا من خلفاء المسلمين، أو زعمائهم أن يموت موتًا طبيعيًّا، إذ جلّهم قد لقوا حتفهم بطعنة من خنجر أو ضربة من سيف.[[أنظر: هادي العلوي، الاغتيال السياسي في الإسلام.
]]
غير أنّ الاغتيالات السياسية لم تتوقّف عند الخلفاء والزعماء فحسب، بل تعدّتها إلى ارتكاب المجازر بأتباعهم، كتلك المجزرة الرهيبة التي ارتكبت بأمر من عبد الله السفّاح العبّاسي ضد عشرات من أتباع الأمويين في بلدة قلنسوة على مقربة من نهر أبي فطرس من أرض فلسطين.[[أنظر: ابن تغري بردي، النجوم الزاهرة؛ أنظر أيضًا: المسعودي، مروج الذهب؛ ابن منظور، مختصر تاريخ دمشق؛ الذهبي، تاريخ الإسلام.]] لقد أُعملت السيوف في هؤلاء، ثمّ وُضعت البسط عليهم، ونُظّمت في المكان مأدبة ووليمة، حيث وُضع الطعام على البسط والأنطاع المفروشة عليهم، بينما كان يُسمع أنين المغدورين تحتها وهم في النزع الأخير.[[”فامر بهم عبد الله فشدخوا بالعمد وبسط من فوقهم الانطاع فأكل الطعام عليها وأنينهم يُسْمع حتى ماتُوا، وذلك بنهر أبى فطرس.“ أنظر: ابن خلدون، تاريخ ابن خلدون.
]]
(2) رؤوس متطايرة: من الجدير بالذكر أنّ الرؤوس قد تطايرت منذ بداية التاريخ الإسلامي، وقد طيفَ بها في ديار الإسلام شرقًا وغربًا. فعلى سبيل المثال، ها هو المصير الذي آل إليه محمد ابن الخليفة الراشد الأوّل أبي بكر الصدّيق، حيث قُتل ووضع جسمه في جوف حمار ثمّ أُحرق، بينما احتُزّ رأسه وأُرسل إلى معاوية بن أبي سفيان بدمشق، حيث طيفَ به هناك.[[أنظر: ابن تغري بردي، النجوم الزاهرة؛ .]]“ وها هو رأس الحسين بن عليّ، وهو حفيد رسول الإسلام، يتمّ التمثيل به بعد قتله، حيث يُعلّق في الكوفة، ثمّ يُرسل إلى يزيد بن معاوية في الشام: ”ثم إنّ عبيد الله بن زياد نصبَ رأس الحسين بالكوفة، فجعل يُدار به في الكوفة، ثم دعا زحر بن قيس فسرّح معه برأس الحسين ورؤوس أصحابه إلى يزيد بن معاوية … فخرجوا حتّى قدموا بها الشام على يزيد بن معاوية.[[“أنظر: الطبري، تاريخ الرسل والملوك ؛ أنظر أيضًا: ابن كثير، البداية والنهاية؛ ابن الأثير، الكامل في التاريخ؛ الذهبي، تاريخ الإسلام؛ ابن منظور، مختصر تاريخ دمشق؛ المباركفوري، تحفة الأحوذي في شرح جامع الترمذي.]]
ولعلّ في هذه الرواية التي يوردها المسعودي في مروج الذهب، بلسان شاهد عيان عمّا جرى في دار الإمارة بالكوفة، أوضح مثال على هذا الإرث العربي بشأن الرؤوس المتطايرة: ”عن أبي مسلم النخعي، قال: رأيتُ رأسَ الحسين جيء به، فوضع في دار الِإمارة بالكوفة بين يدي عُبَيْد اللّه بن زياد. ثم رأيتُ رأسَ عبيد اللهّ بن زياد قد جيء به، فوُضع في ذلك الموضع بين يدي المختار، ثم رأيتُ رأسَ المختار قد جيء به، فوضع بين يدي مصعب بن الزبير. ثم رأيتُ رأسَ مصعب بن الزبير قد جيء به، فوضع في ذلك الموضع بين يدي عبد الملك.[[“أنظر: المسعودي، مروج الذهب؛ رواية مشابهة لهذا الخبر برواية عبد الملك بن عمير الليثي، انظر: ابن المطهر، البدء والتاريخ؛ .]]
كما إنّنا لا نستطيع أن ننسى ما اقترفه خالد بن الوليد، الذي يُكنّى بسيف الله المسلول، بالشاعر مالك بن نويرة وبرفاقٍ له آخرين، طمعًا في زوجة مالك التي كانت توصف بجمالها. إذ بعد المقتلة التي ارتكبها خالد وجيشه فقد قاموا باحتزاز الرؤوس واستخدامها أثافي للقدور التي يوقد تحتها لطبخ الطعام لجيشه: ”كان مالك بن نويرة من أكثر الناس شعرًا وإنّ أهل العسكر أثّفُوا برؤوسهم القدور، فما منهم رأسٌ إلا وصلت النار إلى بشرتِه، ما خلا مالكًا فإنّ القدر نضجتْ وما نضج رأسُه من كثرة شعره. وقى الشعرُ البشرةَ حرّها أنْ يبلغ منه ذلك.[[أنظر: الطبري، تاريخ الرسل والملوك .
]]
وإذا ما واصلنا التقدُّم للوراء إلى تلك الفترة الذهبيّة المتوهّمة، فماذا نجد؟ فها هو رأس أبي جهل يُقطع بعد أن كان مُصابًا ملقيًّا على الأرض في يوم بدر، ثُمّ يُحضر الرأس ويوضع بين يدي الرسول: ”عن أنس قال: مرّ بن مسعود فإذا هو بأبي جهل يجود بنفسه فجاء حتى قعد على صدره، فرفع أبو جهل رأسه فقال: ألستَ رويعنا بالأمس بمكة؟ لقد صعدت مصعدًا صعبًا. فاحتزّ رأسه فجاء إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال: هذا رأس أبي جهل فقال: الله، قال: الله! إنّه رأسه.[[“الطبراني، المعجم الأوسط؛ أنظر أيضًا: الطبري، تاريخ؛ الواقدي، كتاب المغازي؛ أبو الفدا، المختصر في أخبار البشر؛ اليافعي، مرآة الجنان وعبرة اليقظان.]]
وكذا كان أيضًا مع رأس كعب بن الأشرف[[أنظر: الطبري، تاريخ؛ ابن كثير، [البداية والنهاية->
http://shiaonlinelibrary.com/%D8%A7%D9%84%D9%83%D8%AA%D8%A8/3596_%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%AF%D8%A7%D9%8A%D8%A9-%D9%88%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%87%D8%A7%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D8%A8%D9%86-%D9%83%D8%AB%D9%8A%D8%B1-%D8%AC-%D9%A4/%D8%A7%D9%84%D8%B5%D9%81%D8%AD%D8%A9_9].،]] ورأس الأسود العنسي [[أنظر: ابن عبد البر، الاستيعاب في معرفة الأصحاب.]]، ناهيك عن عشرات الرؤوس الأخرى المتطايرة في الصحارى العربية.
الخلافة الإسلامية المتجدّدة
مع تفاقم الأوضاع السورية، إثر انتفاضة الشعب السّوري وخروجه ضدّ الاستبداد المعاصر، لم ينتبه أحد إلى حادثة واحدة جرت في بلدة سوريّة اسمها ”معرّة النّعمان“. لقد ذاع اسم البلدة في العالم العربي، لا لشيء إلاّ لانتساب أحد أعظم الشعراء العرب في العصور الوسيطة إليها، ألا وهو الشاعر الفيلسوف الزاهد أبو العلاء المعرّي. فعندما احتلّت الكتائب الإسلامية بلدة معرّة النعمان، كان من بين ما فعلته هذه الكتائب تحطيم تمثال هذا الشاعر الذي كان منصوبًا في البلدة منذ سنوات الخمسين من القرن الفائت. لكنّها لم تكتف بتحطيم التمثال، بل عمدت إلى قطع رأس التمثال ودحرجته في الطرقات. لقد كانت هذه الحادثة بمثابة المسدّس الّذي ظهر في المشهد الأوّل على حلبة مسرح الأحداث. فقد كشف هؤلاء بهذا المشهد المسرحيّ عن نواياهم اللاحقة، وعن عزمهم على الانتقال من قطع رؤوس التماثيل المصنوعة من المعدن، إلى قطع رؤوس البشر، المخلوقة من لحم وعظم ودم، وذلك سيرًا على نهج القدماء، كما أسلفنا من قبل.
العقيدة الداعشية
المسلمون، على اختلاف مذاهبهم، يقسمون العالم إلى معسكرين: معسكر الإيمان ومعسكر الكفر. ولهذا، فليس من المستهجن أن يطفو مصطلح الكفّار من جديد على السطح، في تعامل كتائب ”داعش“، أو جيش ”الخلافة الإسلامية“ الجديدة التي احتلّت أجزاء من العراق والشام. فها هي التقارير التي تخرج من المناطق التي يسيطر عليها تنظيم ”داعش“ تكشف عن عمليّات اختطاف النساء وبيعهنّ في أسواق العبوديّة المتجدّدة، أو تفريقهنّ على عناصره. وذلك لأنّهنّ في أعراف وشرائع هذه الخلافة الإسلامية ”سبايا من غنائم الحرب مع الكفّار.“
[[أنظر: موقع العربية.. إقرأ أيضًا عن تفاصيل خروقات حقوق الإنسان: [تقرير صادر عن مكتب حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة->http://www.ohchr.org/Documents/Countries/IQ/UNAMI_OHCHR_POC_Report_FINAL_6July_10September2014.pdf
]]]
هكذا، إذن: سبايا وغنائم وحرب على الكفّار. إنّها المصطلحات ذاتها التي خرجت من رحم الصحراء العربية قبل ألفيّة ونصف من السنين، يُعمل بها الآن في القرن الواحد والعشرين. ولمّا كانت الحال على هذا المنوال، فلعلّه من المفيد في هذا السياق أن ننظر في هذه التعابير المُستنبطة من موروث هذه الأيديولوجيّة الصحراوية الضاربة في القدم. ولعلّه من المفيد أيضًا أن نعيد إلى أذهان القارئ بعض ما دوّنه لنا السلف من روايات تعجّ بها المصادر العربية والإسلامية. إذ إنّ هذه المصادر هي ذات المصادر التراثية التي يفتخر بها الإسلامويّون والقومويّون على كافّة مذاهبهم وتيّاراتهم، ينهلون منها معلوماتهم ويتّخذونها منصوصاتها أساسًا لأيديولوجيّاتهم.
فإذا كان المسلمون، كما فصّلنا من قبل، يقترفون الجرائم بحق مسلمين منذ القدم، فما بالكم بالجرائم التي تُرتكب بحقّ غير المسلمين، أو بحقّ الذين يُعتبرون كُفّارًا في نظر الإسلام.
من هم الكفّار؟
هنالك إجماع في الإسلام على تعريف الذين يشملهم المصطلح ”كافر“. فالكفّار، بحسب النّظرة الإسلامية، ينقسمون إلى ثلاثة أصناف: فصنف منهم هم الكتابيّون، أي أولئك الذين يدينون بدين أهل الكتاب من اليهود والنصارى، وصنف منهم له شبهة كتاب كالمجوس، وصنف يجمع كلّ ما عدا هؤلاء: ”الكفار على ثلاثة أضرب: أهل كتاب، وهم اليهود والنصارى… ومن له شبهة كتاب فهم المجوس فحكمهم حكم أهل الكتاب… ومن لا كتاب له ولا شبهة كتاب وهم من عدا هؤلاء… من عباد الأصنام والأوثان والكواكب وغيرهم…[[“أنظر: المبسوط للشيخ الطوسي،ج 2، ص 9، انظر أيضًا: ابن ادريس الحلّي، السرائر…]] وبكلمات أخرى، فإنّ الكفّار بنظر الأيديولوجية الإسلامية هم كافّة البشر الذين لا يدينون بدين الإسلام، بدءًا من عامّة المشركين على شتّى معتقداتهم، مرورًا بمن له شبهة كتاب كالمجوس، وانتهاءًا بأهل الكتاب، اليهود أو النصارى، لا فرق.[[”كل من خالف دين الإسلام من مُشرك أو كتابي إذا لم يكن صاحب عهد ولا ذمّة، ذكره الماوردي، واختاره ابن العربي وقال: وهو الصحيح لعموم الآية فيه.“ انظر: القرطبي، تفسير]]
ولمّا كان رجال هذه ”الدولة الإسلامية“ الجديدة راغبين في العودة إلى الأصول الأيديولوجية للإسلام بغية تطبيقه على الأرض فإنّهم يأخذون الكلام المتوارث بحذافيره، وكما يفصّله لهم فقهاء هذه الأيديولوجية في النصوص المتوارثة منذ القدم. ولهذا أيضًا فإنّ عمليّات القتل والسلب والنهب، تهديم الكنائس والتماثيل، قطع الرؤوس وسبي نساء الكفّار واستعبادهنّ وتوزيعهنّ على محاربي الدولة تصبح أمرًا عاديًّا في عرف هؤلاء. إذ إنّهم، بهذه السلوكيّات، يقتفون آثار القدماء من ”السلف الصالح“، مثلما يتعرّفون عليها تضاعيف المصادر التاريخية الّتي دوّنت لهم ذلك منذ ظهور الإسلام في الصحراء العربيّة.
ما هو مصير الكفّار؟
هنالك بالطبع الكثير من المسلمين الذين يعبّرون بصدق عن اشمئزازهم ممّا يُعرض في وسائل الإعلام من جرائم يرتكبها جيش داعش بحقّ بني البشر في المناطق التي يسيطرون عليها ولما في هذه الجرائم من تشويه لصورتهم في الرأي العام. غير أنّ هؤلاء المشمئزّين، ومهما كان اشمئزازهم صادقًا، فهم لا يكلّفون أنفسهم التعبير عن الاشمئزاز من النصوص التي تشكّل جذور هذه السلوكيّات والمنابع التي ينهل منها هؤلاء سلوكيّاتهم. فعلى سبيل المثال، عندما يحزّ جيش ”الخلافة الداعشية“ رؤوس صحفيّين غربيين وغيرهم، فإنّما هم يسيرون على نهج صحرواي مُغرق في القدم ومتجذّر في الأيديولوجية الإسلامية. فقد روي حديث عن الرسول يقول صراحة: ”لم أُبعث لأُعذِّب بعذاب الله، وإنّما بُعثتُ لضَربِ الرّقاب وشَدّ الوَثاق.[[“أنظر: الثعلبي، الكشف والبيان؛ ابن كثير، تفسير.
]]
أمّا ”ضرب الرقاب“ هذا فهو المنصوص عليه في سورة محمّد. وهذا الضرب يعني، كما يفسّره لنا ابن كثير: ”فاحصدوهم حصدًا بالسيوف[[“انظر: ابن كثير، تفسير.]]. أي، ليس مجرّد القتل، بل الإثخان فيه، وذلك ”لأنّ في العبارة بضرب الرقاب من الغلظة والشدة ما ليس في لفظ القتل، لما فيه من تصوير القتل بأشنع صوره، وهو حزّ العنق وإطارة العضو الذي هو رأس البدن وعُلوُّه وأوْجَهُ أعضائه.“، كما يشرح لنا القرطبي هذه الآية[[أنظر: القرطبي، تفسير، أنظر أيضًا: النسفي، تفسير؛ الزمخشري، الكشاف؛ ابن الجوزي، زاد المسير؛ الشوكاني، فتح القدير.]]. إذ أنّ هذه البشاعة في القتل هي بنظر منظّر الإخوان المسلمين، سيد قطب: ”تصوير لعملية القتل بصورتها الحسّية المباشرة، وبالحركة التي تمثلها، تمشيًا مع جوّ السورة وظلالها.[[“أنظر: سيد قطب، في ظلال القرآن.]].
من الخاطف ومن المخطوف؟
عندما بدأ الإرهاب الذي ينفّذه مسلمون في العقود الأخيرة يضرب أماكن شتّى في العالم، أخذت صورة الإسلام والمسلمين تتشوّه في الرأي العام. وهكذا أيضًا، بدأت تصدر في العقود الأخيرة تصريحات من مسلمين، ذوي نوايا طيّبة بالطبع، تقول إنّ هؤلاء الإرهابيين التكفيريين قد اختطفوا الإسلام وشوّهوا صورته، ويؤكّدون على أنّ الإسلام هو خلاف ذلك. فهو، كما يصرّحون، دين محبّة وسلام وما إلى ذلك من مقولات نابعة بالطبع من إيمان صادق، مع أنّه إيمان شعبيّ شائع لدى العامّة من المسلمين، وهو إيمان يختلف عن إيمان الفقهاء الذين يعرفون الأصول المؤسسة للعقيدة.
غير أنّ السؤال الذي لا مناص من طرحه في هذا المسألة هو: من الخاطف ومن المخطوف في الإسلام؟
إنّ الإجابة على هذا السؤال تتجلّى بوضوح في كتابات الإسلامويين والسلفيين أنفسهم. إذ يتّضح من كتابات هؤلاء وممّا يتلفّظون به أنّ الخاطف هو في الحقيقة الأيديولوجية الإسلامية بالذّات، وأنّ المخطوفين هم هؤلاء السلفيون على كافّة تيّاراتهم الذين، كما يتّضح، قد تمّ اختطافهم من قِبَل النصوص الإسلامية ذاتها. فالإسلام، كما يراه هؤلاء، بل وكما يكتبون ذلك حرفيًّا، هو: ”دين قوّة، ودين قتال، ودين جهاد، ودين تقطيع رؤوس، ودين سفك دماء، وليس دين إدارة الخدّ الأيسر لمن صفعك على الخدّ الأيمن“. هكذا، وبهذه الكلمات الواضحة والصريحة، التي لا تحتمل التأويل على وجوه، يصف أحد الإسلاميّين حقيقة دين الإسلام كما يراه.[[هذا ما يكتبه حسين بن محمد في مقالة نشرها في موقع سلفي إسلامي على الإنترنت، أنظر: ”مسألة قطع الرؤوس“، موقع الإسلاميّون..]]
وحول مقولات المسلمين الذين يدّعون بأنّ الإرهابيّين يشوّهون صورة الإسلام يؤكّد الكاتب ذاته: ”الحقيقة أنّ الذي يشوّه صورة الإسلام ليس قطع رؤوس الكفّار وإرهابهم، وإنما من يريدها مانديليّة غانديّة لا قتل فيها ولا قتال ولا بطش ولا دماء ولا ضرب رقاب ولا ضرب أعناق. فهذا ليس دين محمدّ بن عبد الله – صلى الله عليه وسلم – المبعوث بالسيف بين يدي الساعة، الذي سُميّت السورة الوحيدة باسمه في القرآن سورة محمد. بسورة القتال“. كما يذهب الكاتب أبعد من ذلك فيقول إنّ تصوير الإسلام كدين ”سلام وحمام وحبّ ووئام، لا دم فيه ولا قتل“ هو تصوير قد تأثّر ”بنظريّات الغرب الكاذبة وأفكارهم الخبيثة التي تُصدّر إلى الأمّة الإسلاميّة لإضعافها“. إنّ هذه التّصوّرات السلميّة للإسلام، كما يقول الكاتب، هي في الحقيقة من تحريف الصّليبيّين، أي الاستعمار الغربي المسيحي، لحقيقة الدين الإسلامي.[[أنظر: ”نفس المصدر“، موقع الإسلاميّون..
]]
وبعد هذا الكلام الواضح، فما من شكّ في أنّ هؤلاء الإرهابيّين الإسلامويين يضعون كلّ من ينتمي إلى الأمّة الإسلامية، كما ويضعون علماء وفقهاءَ هذه الأمّة في مأزق كبير. إذ أنّ هؤلاء السّلفيين يضعون أمام أعين المسلمين ما يستنبطونه سلوكيّات وأحكام شرعيّة من ذات المراجع الإسلامية التي ينهل منها هؤلاء الفقهاء أنفسهم أيضًا.
إذن، فمن وجهة نظر هؤلاء السلفيّين، ما داموا يؤسّسون أيديولوجيّاتهم وسلوكيّاتهم على ذات المراجع المؤسّسة للعقيدة، فعلى أيّ أساس ينتقدهم المسلمون الآخرون؟ والحقيقة التي تجدر الإشارة إليها هي أنّ الانتقادات الموجّهة لهؤلاء من بعض المسؤولين المسلمين هي انتقادات باهتة. إذ أنّ النقد الموجّه لهم يتطرّق فقط إلى أمور شكليّة وإدارية وليس إلى الجوهر. أي إنّ النقد، مثلاً، هو بشأن مسألة من هو المخوّل بإعلان الخلافة الإسلامية وفي أيّ ظرف. وليس ثمّة أيّ نقد بشأن الأيديولوجيّة، العقائد والسلوكيّات المتّبعة ضدّ من يعتبرهم الإسلاميّون ”كفّارًا“، إذ أنّ هذه الأيديولوجية ”صالحة لكلّ زمان ومكان“.
خلاصة
والسؤال الذي لا مناص من طرحه إزاء كلّ فصّلنا آنفًا هو: هل من سبيل للخروج من هذا المأزق العربي والإسلامي؟
والإجابة على ذلك هي بالإيجاب قطعًا.
ولكن، من أجل الوصول إلى هذه الغاية وإلى سبيل للخروج من هذا المأزق، هنالك حاجة ماسّة إلى بروز علماء مسلمين متنوّرين يواجهون بشجاعة أخلاقية الكثير من منصوصات هذا الموروث الدّموي القديم وينزعون عنها صفة القداسة، ومن ثمّ يقومون بوضعها في إطارها الزّمني الذي قد مضى وانقضى، ولم يعد نافعًا لكلّ زمان ومكان، فكم بالحري في هذا الأوان.
أمّا إذا لم يظهر مثل هؤلاء العلماء المتّصفين بالشجاعة الفكرية والأخلاقية، فلا يسعني إلاّ أن أضُمّ صوتي إلى الصوت الصارخ في البريّة الإسلامية الذي أطلقه الأستاذ محمد مجتهد شبستري، أستاذ الفلسفة وأصول الدين بجامعة طهران، والذي قد حذّر من مغبّة الرّكود الفكري في الإسلام، قائلاً: ”وأنا أتوقّع بأنّه، إذا لم نُحقّق المراجعة الفكرية المطلوبة، فإننا سوف نُدفَن في هذا العالم.“[[أنظر: محمد مجتهد شبستري، ديننا في أزمة“.
]]
***
جذور الإرهاب الإسلامي (بي دي إف)
جذور الإرهاب الإسلامي
ألأصح أن يقال أن المثقف المسلم هو من في أزمة، أزمة إبداع و إتقان. و ليس الدين.
رجوع المثقف إلى التاريخ لتبرير فشله شبيه إلى حد ما برجوع المتطرف لنفس التاريخ لتبرير عنفه.
الأزمة تكمن في أن المثقف الكوسموبولوتي و المثقف الديني، كلاهما لم يحسم معركتهما بوسائلهما و أدواتهما الخاصة، لأنها مستوردة في حالة الأول و بالية في حالة الثاني. مما فسح المجال أمام المتطرف السوسيوديني للعبث . و يبقى المستفيد الوحيد من هذه الحال هو السياسي الذي يستطيع عقد الصفقات مع الخارج و الداخل.