ماذا حصل لليسار العربي؟ مع أن قصة اليسار العربي لم تروَ بالشكل المناسب، إلاَ أن الفرضية السائدة تفيد أن اليسار القديم، ذلك الذي يذكرنا بالشيوعية والاتحاد السوفياتي السابق، انهار تحت وطأة الحكومات المتسلطة التي ظهرت في الخمسينات والستينات من القرن الماضي. غير أن هذه الحكومات نفسها استحوذت على بعض بنود برنامجه الشعبوي لا سيما في ما يتعلق بتوسيع نطاق القطاع العام فضلاً عن السياسات الهادفة إلى إحلال العدالة الاجتماعية، كالتعليم للجميع وإصلاح نظام ملكية الأراضي. كذلك تقول الفرضية إن الجماعات اليسارية الصغيرة التي تلت الشيوعية في الستينات وبداية السبعينات سرعان ما تلاشت أمام قوى إسلامية وأخرى حكومية أتت لتفرض هيمنتها تخوفاً من العلاقات التي كانت تربط بين هذه الجماعات اليسارية والفلسطينيين وجماعات علمانية أخرى في لبنان وغيره من البلدان.
هؤلاء الذين يسعون اليوم إلى إعادة إحياء الحركة اليسارية في مناطق مختلفة من العالم العربي هم أمام مهمة صعبة، لا شك. ويبقى السؤال: هل عليهم محاولة الارتباط مجدداً ببعض الجماعات التي لا تزال تنبض فيها الحياة في التيار التقدمي التقليدي الذي بات يناهز الموت؟ وإن لم يتحقق ذلك، كيف سيتمكنون من العمل على تطوير استراتيجية جديدة تتماشى أكثر من سابقاتها مع المشاكل التي تواجه مجتمعاتهم اليوم؟
انطلقت غالبية الجماعات اليسارية الجديدة في مسيرتها هذه لا سيما في مصر من خطوة بديهية تمثلت في الإقرار بأهمية المسائل ذات الصلة بحقوق الإنسان والمساءلة والديموقراطية، وهي أمور مال اليسار إلى تجاهلها في الماضي. إلا أن هذه المواضيع لا تزال تشكل أهمية محورية بالنسبة إلى الطبقات الاجتماعية التي تسعى الجماعات اليسارية إلى استقطابها والتأثير عليها.
كذلك، أجد أنه من الضروري على الجماعات اليسارية الاعتراف بالتغيّرات الجذرية التي شهدتها اقتصادياتها ومجتمعاتها منذ آخر مرة بحث فيها اليسار العربي في هذه المسائل بالتفصيل أي منذ اكثر ما يزيد عن أربعين عاماً. وكانت مصر قد تطرقت إلى مواضيع عدة في هذا السياق لا سيما حركة التمدن السريعة والإقرار بضرورة الحدّ من المكانة التي تحتلها الصناعة كحافز للتنمية على حساب الخدمات لا سيما المصرفية منها والمالية، واكتشاف مصادر جديدة للطاقة كالنفط والغاز الطبيعي، والأهمية المتزايدة للزراعة في الصحارى كبديل للزراعات المنتشرة في وادي النيل، والتغيّرات التي فرضها الاقتصاد العالمي، وهي عوامل من شأنها تحسين، وبصورة هائلة، إدارة الاقتصاد ورفاهية أفراد المجتمع.
وفي حين أن من المؤكد أن معظم هذه المسائل معلومة لدى الجميع، غير أنه لا يزال هناك الكثير من الدراسات التحليلية السياسية والاجتماعية الجدية التي ينبغي إجراؤها، ليس فقط لتقويم التأثيرات التي قد تنتج عن مثل هذه التغييرات بل أيضاً لفهم ديناميكيتها والطرق التي ستساهم فيها هذه التطورات في تغيير الاقتصاد السياسي للبلدان المعنية في العقود القادمة.
ويبدو لي مستحيلاً – إن تطرقنا إلى واحدة من رزمة المسائل المطروحة – الإبقاء على التصنيف الذي يفيد أن الطبقات الاجتماعية الدنيا في مصر تتألف فقط من فئتي العمال والفلاحين القديمتين. وعلى الأرجح أن نسبة عمال المصانع من القوى العاملة الصناعية باتت اليوم أقل بكثير من تلك التي كانت قائمة منذ خمسين عاماً. كذلك، لم تعد فئة «الفلاحين» تنطبق على معظم العاملين في المجال الزراعي أكانوا الفلاحين الصغار المنتشرين في وادي النيل أو العمال الأجراء الموكلين بزراعة الفاكهة والخضر وقطفها في منطقة كانت في السابق مجرد صحراء تحيط بالعاصمة المصرية.
بيد أن المشاكل التي تنطوي عليها مثل هذه الدراسات التحليلية هي بالطبع جمّة، ليس فقط بفعل الطابع غير الدقيق للإحصاءات كافة التي تمتلكها الحكومة، بل أيضاً لأن الأبحاث الماضية تجاهلت مساحات كبيرة من البلاد خارج القاهرة. لذا يبدو لي أن نجاح أي مشروع يساري مشروط بمعالجة هذه المشاكل مباشرة، ربما عن طريق تأليف مجموعات بحث منظمة، أو إنشاء معاهد بحث لمساندة الحكومة في عملها كمجموعة «بريتيش فابيان سوسايتي» التي تم إنشاؤها في أوائل القرن العشرين.
وأعلل طرحي هذا بثلاثة أسباب. أولاً، إنه من الضروري للغاية الابتعاد عن النهج القائم على انتقاد سياسة الحكومة لمجرد الاعتقاد أنها تمثل نسخة سيئة من التوافق مع واشنطن. وبغض النظر عن صحة أو عدم صحة هذا الزعم، إلا أنه يؤدي إلى ردود الفعل التقليدية والمتسرعة والمواقف التي تعود الى الحقبة الناصرية، والتي قامت على اساس تدخل الرأسمالية الدولية التي ليست لها في الواقع أي علاقة بكيفية عمل الاقتصاد العالمي اليوم ولا بالطريقة التي يؤثر فيها هذا الأخير على حياة معظم الفئات الاجتماعية المصرية.
وإن أردنا إعطاء مثل آخر، يبدو لي أن من الضروري أيضاً اليوم الكف عن تقديم الحجج للدفاع عن دعم الحكومة للحلول الاجتماعية «المسكنة» التي أطلقها البنك الدولي كـ «شبكة الأمان الاجتماعي» أو للدفاع عن الدعم الشعبوي للمعونات، وإيجاد سياسة من شأنها تحديد أفضل وسيلة لتوفير الخدمات الأساسية للفقراء.
وثانياً، لن يتمكن اليسار من دون فهم الظروف القائمة حالياً بصورة أشمل وأفضل، من التوصل إلى استنتاجات صلبة حول الحدود التي تفصل بين القطاعين العام والخاص استناداً إلى دراسة تحدد المجالات، حيث يكون دور القطاع العام أكثر فعالية، وماهية مصالح القطاع الخاص. وانطلاقاً من هنا، سيكون من الممكن التركيز على السبل التي من شأنها جعل دور القطاع العام أكثر فعالية مما هو عليه، لربما في مجالات كالتعليم والصحة، عن طريق إيجاد نوع من الشراكة التعاونية لا التنافسية مع شركات خاصة. وفي مسألة التعليم، كان من المستحسن مثلاً قبل عشرة أعوام الترحيب بإنشاء بعض مؤسسات التعليم العالي الخاصة بدلاً من التصدي لها، وذلك اذا امكن في حينه ضبطها من قبل وكالات حكومية بطريقة تخدم المصالح الوطنية، بدلاً من ترك هذه المؤسسات تسعى وراء جني الأرباح فحسب.
وأخيراً، ينبغي أن يكون في استطاعة أي حركة يسارية تقديم الضمانات لمناصريها حول نجاحاتها المستقبلية، انطلاقاً من فكرة أن تجارب التاريخ تسمح لها بذلك. وقد تبدو هذه المهمة صعبة للغاية نظراً للقوة التي تستمدها الأنظمة العربية اليوم من اقتصادياتها القوية ودورها كحليف للولايات المتحدة في الحرب على الإرهاب.
بيد أن إجراء دراسة واقعية للظروف القائمة حالياً من شأنه إعطاء الكثير من الأسباب الوجيهة للتفاؤل. فمن جهة، قد يؤدي الانفتاح والقدرة التنافسية المتزايدان للاقتصاد المصري إلى تصاعد حدة التوترات وتضاعف المصالح ليس فقط بين الرأسماليين أنفسهم بل أيضاً بينهم وبين مستخدميهم. ومن جهة أخرى، تبدو الحكومة غير قادرة على تغيير مفهومها للسياسة الذي يضع الأمن على رأس سلم الأولويات، مما يدفعها إلى الاعتقاد أن السيطرة على الفقراء هي أقل كلفةً من «رشوتهم» عن طريق إعطائهم خدمات اجتماعية أفضل، وأن حل الخلافات بين أفراد النخبة المصرية ينبغي أن يتم عن طريق التسويات الشخصية بدلاً من الاستعانة ببعض الأحزاب وغيرها من المؤسسات التي تمثل مصالحهم المختلفة.
وفي هذه الحالة، كما في العديد من المسائل المتعلقة بالتحليل السياسي، يبدو لي أن المفهوم الماركسي القديم المتمحور حول فكرة التناقضات لا يزال له الكثير من الفوائد. وعلى الرغم من أنه تم استخدام هذا المفهوم عامةً بطريقة عشوائية، إلا أنه يساعد على النظر في الخلل القائم في أنظمة الإدارة السياسية التي سيتعذر الاعتماد عليها على المدى المتوسط، لذا فإنها تتطلب تغييرات داخلية كبيرة إن أرادت مصر تفادي أزمة عارمة. إن التفاوت القائم بين منطق الأمن السائد في نظام حسني مبارك والمنطق الليبرالي لصندوق النقد الدولي الذي هو في محور سياسته الاقتصادية، هو في رأيي الخاص تناقض بحد ذاته. وعلى الأرجح أن مفهوم صندوق النقد سيتغلب على المنطق الآخر، الأمر الذي سيقود مصر إلى نظام جديد مبني على الرأسمالية التنافسية، أي بعبارة أخرى إلى مجموعة من التوترات الاقتصادية والاجتماعية التي لم تشهد لها مثيلاً من قبل.
* اكاديمي بريطاني متخصص في قضايا الشرق الاوسط – جامعة هارفارد.
الحياة