منصورة عز الدين- “أخبار الأدب”
فى روايته “مطر حزيران” لا يتخذ الروائى اللبنانى جبور الدويهى من الحرب الأهلية اللبنانية منطلقاً لعمله، على غرار كثير من الروايات التى يكتبها كتاب لبنانيون، إنما يخطو خطوة أبعد فى الزمن، ليعود إلى معركة “مزيارة” التى وقعت فى شمال لبنان عام 1957، محاولاً تشريح بذور الكراهية والعنف الذى برز ظاهرا فيما بعد من خلال الحرب الأهلية.
الرواية بهذا المعنى، هى محاولة لفهم العنف الكامن فى النفوس، وتعرية تجلياته المختلفة سواء البسيط منها أم المركب.
ورغم أن المؤلف ينطلق فى روايته-الصادرة مؤخرا فى طبعة مصرية عن دار الشروق- من حادثة واقعية، إلا أنه ينجو بها من أن تتحول إلى مجرد سرد بارد لواقعة تاريخية. وفى سبيل ذلك لجأ إلى تقنيات روائية عدة للتقليل من طغيان التاريخي والواقعي علي الفني. ولعل أهم هذه التقنيات تقنية تعدد الرواة التى اعتمدها الدويهى ليهرب من السرد المتصل لأحداث قد يحوّل الرواية أقرب الى التأريخ. “الأدب الروائي في نظري هو الحدث من خلال النفوس والأطباع، فنوّعتها من الصغار الى السذّج الى النساء والرجال والهامشيين ليشارك الجميع في صياغة ما تشاركوا في تلقّيه ومعاناته أو صناعته”.
تنويع الرواة هذه مكّنه كما يقول من “تنويع مستويات اللغة فهناك لغة تأريخية تقليدية تسرد تاريخ البلدة وعائلتها، لغة انتروبولوجية توسّع دائرة الإضاءة على المجتمع من خلال ظواهر جانبية كالسينما والأحزاب والسيارة، ولغة صحافية تنقل رؤية من العاصمة لأحداث العنف الريفية وهي مشبعة بنوع من الميتولوجيا الأدبية وصولاً الى قاموس من الألفاظ والعبارات المحكية تفكك الكثير من المفاهيم السائدة و”الرديفة” للعنف الأهلي”.
***
غير أن فكرة الاتكاء على حادثة واقعية لم تكن بالمهمة السهلة، بل على العكس من ذلك. فالحادثة التي تدور الرواية حولها وحول ذيولها من تفلّت للعنف الأهلي الدموي في النصف الثاني من خمسينات القرن الماضي، رمت بثقل حقيقتها على كاهله. فوقع بين حدّين: “من جهة رغبتي في نقل واقعي الى أعلى درجة لوقائع وتفاصيل تجليات هذا العنف دون اللجوء الى إضافات وتحويرات كبيرة في مساراته خصوصاً وأن هذه الأحداث مشحونة بما يكفي من الحيثيات لتبطين أكثر من رواية وذلك من حرصي على الأمانة للسوسيولوجيا المحلية، مقتنعاً بأن خصوصيتها خير تجسيد لأشكال العنف الشرقي”. من جهة مقابلة، كان إزاء عملية تحويل هذه الأحداث التي ما تزال ماثلة في أذهان الكثيرين الى رواية أي اضطراره –وفقا لكلماته- الى طمس معالم التعرّف على الأشخاص والعائلات وحتى الأحداث بما جرت فيه وبمن شارك فيها. “هكذا لم أسع تحديداً الى مجريات القتل والقتال بعينها بقدر ما حاولت تظهير تجسّد العنف الأهلي في النفوس والأفراد وتعبيراته وانعكاساته على النساء والصغار والأسر والجماعة ككل. ولعل أفضل وسيلة للهرب من التأريخ كان كما هو متوقع ابتداعي لحبكة وشخصيات رئيسية يصعب ردّها الى نماذج معروفة ولو بدت مألوفة”.
كلام الدويهي يقودنا إلى شخصيات الرواية التى تعد –بالإضافة إلى الحبكة المحكمة- الإنجاز الأهم فيها. فالشخصيات هنا – لن أقول كأنها من لحم ودم – لكنها مركبة وتحمل التعقيدات الموجودة في النفس البشرية بكل ثرائها وتركيبها، والأهم من ذلك أنها شخصيات متباينة يحمل كل منها خطابه الخاص ورؤيته المختلفة للعالم. فمن “كاملة” التى ترى وجودها وتحققها فى تهريب ابنها بعيدا عن آتون الحرب والعنف، والتى لم تعد ترى أن فى هذا العالم ما يستحق أن يدفعها لمقاومة العمى الزاحف على عيونها، إلى “فريد السمعاني” النزق المتعصب لعائلته، ومن “سميح الفران” الذى لم يحمه حياده ولواذه بفرنه من القتل إلى محسن المحارب الصموت، نجد أنفسنا أمام مجموعة من الشخصيات التى يصعب نسيانها.
لكن كيف يرسم صاحب “اعتدال الخرف” شخصية معينة ويجمع تفاصيلها جنبا إلي جنب؟ حين سألته عن هذا ردنى فورا إلى دوستويفسكي الذى يقال أنه احتاج الى أكثر من سبعين نموذجاً من الحياة الحقيقية لرسم شخصية الأمير ميشكين، بطل “الأبله”. قبل أن يضيف أن الشخصية الروائية خصوصاً الرئيسية منها يستحيل نقلها من الواقع كما هي “فالإغناء ضرورة بديهية لتكوّنها. وما لا يمكن إنكاره هي القرابة التي لكل شخصية مع كاتبها. ننهل من ذاتنا في الأساس لتأمين تماسك الشخصيات وتحديداً المركّبة منها، فاللحظة القصوى في الكتابة الروائية هي عندما ينجح الكاتب في إرساء دينامية لشخصياته يمكنه أن يمتحنها في ذاته وماضيه وهواجسه”.
***
بعض الكتّاب تبدأ شرارة رواية ما لديهم بشخصية معينة، والبعض الآخر يحركه مكان أو حدث معين. أما الدويهى فكان يبدأ -فيما كتبه قبل “مطر حزيران”- من صورة أو سيناريو صغير يشعر بروائيته “لأنه على الأرجح يتطابق كما يقول علماء النفس مع تهويمات عميقة وايضاً مع جمالية خاصة لأروح أنسج حول هذه “اللحظة”، قبلها وخلالها وبعدها فتتسع دائرة السرد وربما أحياناً وهذا ما حدث لي مراراً. تصبح الصورة التأسيسية هامشية في محصّلة الرواية عند اكتمالها لكن كان لها الفضل في إطلاق شرارة الكتابة ورغبتها”.
وكان يقفز باستمرار فوق “الصورة” الأولى في ذاكرته ويؤجّل “مواجهتها” وهي الصورة التى نبعت منها “مطر حزيران”، وتعود إلى فترة طفولته حينما كان في الثامنة من عمره “أي العمر الذي تحفر فيه الأمكنة والأحداث بامتياز، عندما وضع في ساحة الكنيسة على شكل دائرة عشرة أسرّة فوقها عشر شبّان قتلى من عائلتنا ألبسوا ربما للمرة الأولى بزات وربطات عنق ووضعت لهم محارم بيضاء في جيوب ستراتهم الى جانب القلب، وامرأة لم أرها من قبل تتمدد الى جانب كل منهم ثم تنهض وترتب ربطة العنق وخصلة الشعر ولا تبكي… هكذا بدأت “مطر حزيران””.
***
تبدو الهوية وأحيانا الاسم نفسه كلعنة تطارد أبطال الرواية. هم محكومون بانتمائهم لعائلة دون غيرها.. لطائفة دون أخرى. “سميح” يُقتل لأنه من آل الرامي في حارة يسكنها آل السمعاني، و”حسني” تجبر علي مغادرة بيتها وأسرتها لأنها من أل السمعاني بين غالبية من آل الرامي. أما “إيليا” فتظل هويته في منطقة الاحتمال، لا يتأكد القارئ في نهاية المطاف هل هو إيليا يوسف الكفوري أم إيليا فؤاد الرامي. هذا الالتباس فى هوية البطل بل (وفى هوية الراوي وبالتالي المؤلف) وفقا للدويهي هو أساس روايته، فلولاه “لما أمكن سرد هذه الرواية. فالمسافة مع ما حدث، خصوصاً أن إعادة انتاج العلاقات العائلية والعنفية مستمر حتى اليوم، شرط ضروري للتمكن من قوله. فالانتماء الأولي لطرف من أطراف هذا الصراع يمنع على صاحبه البوح به وإشهاره لما فيه من “عيب” في الاقتتال والكراهية ومن ما زالوا في أهوائهم وعصبياتهم الضيقة اعتبروا روايتي “تشهيراً” وتحريكاً للسكين في الجرح وهم باعتقادي مقبلون على تجديد هذا العنف وهذه الجراح. أما إشارتي شبه الخفيّة الى احتمال أن تكون أبوّة “أيليا” غير مؤكدة فلقد خطر لي أن تكون ربما “هدية” فؤاد الرامي الى أرملة صديقه يوسف الكفوري، أو كما يقول أحد النقّاد خروجاً مني على رابطة الدم بتسفيهها في شكل من الأشكال”…
***
تبتعد “مطر حزيران” –شأن الروايات الجيدة- عن الأخلاقية بمعناها الضيق، إذ لا تنشغل بإدانة أبطالها وتحاول تقديمهم بنوع من الحياد والموضوعية كبشر بكل هفواتهم وحماقتهم، إلا أنه ثمة رؤية أخلاقية مستترة في ثنايا العمل، هي تلك التي تنبذ العنف والطائفية. حين أقول له ذلك يعترض الدويهى على على النقطة الأخيرة مؤكدا أنه لم يكتب لم يكتب لغاية الموعظة ولا الاصلاح. “كتبت أولاً لنفسي، للتحرر من صور ولحظات تبقى ضاغطة الى أمد طويل. من ثم، حاولت أن أكون أميناً لسوسيولوجيا بيئة محددة وأن لا استجدي لها تفاصيل من خارجها وهي غنية بها، لاعتقادي ان هذه “الأمانة” المحلية لا تعيق أبداً ايصالها الى قراء بعيدين. لكن لكل مروية معنى يصوغه القارئ إن تغاضى عن ذلك الراوي فلا مفرّ من قراءة سياسية وحتى ايديولوجية لهذا النوع من الروايات ولو أني سعيت جهدي لأتلبّس “الحياد” كما تقولين“.
***
ثمة سخرية مبطنة من بعض شخصيات العمل، لكنها لحسن الحظ، لا تصل لدرجة تحويلهم إلي كاريكاتير، هل كانت تلك السخرية المبطنة احدي وسائلك للابتعاد عن التورط في الغنائية؟ أسأله فى النهاية فيجيب:
“تحسنين الإجابة على السؤال وانت تطرحينه. فكيف لي أن أكون درامياً في اسلوبي وسط كل هذه الدراما في الأحداث. بعض الهواء، بعض الانعاش لهذه الخنقة. تعمدت أن لا أبالغ فسرت بين حديّ الوطأة والإفلات منها. آمل أن أكون قد وفّقت”.
نُشِرَت هذه المقابلة في مجلة “أخبار الأدب” القاهرية
سمير فرنجية: رواية “مطر حزيران” لجبور الدويهي رسالة في العنف من زغرتا إلى كل لبنان