جبران تويني… معه اغتيلت الصحافة اللبنانية

0

بعد احد عشر عاما على اغتيال جبران غسّان تويني في مثل هذه الايّام من العام 2005، لا حاجة الى طرح أي أسئلة من ايّ نوع كان. من يقف وراء الجريمة اكثر من معروف. انّها الجهة نفسها التي كانت وراء تفجير موكب رفيق الحريري ورفاقه في الرابع عشر من شباط ـ فبراير من تلك السنة. انّها الجهة نفسها التي نفّذت الاغتيالات الأخرى، كما نفّذت سلسلة من التفجيرات في مرحلة ما بعد اغتيال رفيق الحريري للايقاع بين المسلمين والمسيحيين. من يتذكّر انّ تفجيرات عدة وقعت في مرحلة ما بعد اغتيال “أبو بهاء” في أماكن عدّة تقع كلّها في مناطق ذات أكثرية مسيحية وذلك من اجل التغطية على الجريمة والعودة الى أجواء حرب السنتين ( 1975 و 1976) بغية اقناع المسيحيين بفكرة الامن الذاتي مجددا، وهي فكرة لم تجلب لهم سوى الكوارث.

لا وجود لاسرار في لبنان وخارجه بالنسبة الى الجهة التي تقف وراء الاغتيالات والتفجيرات. المطلوب كان دائما وفي كلّ وقت التخلص من شخصيات لبنانية معيّنة بهدف الانتهاء من المؤسسات اللبنانية كلّها. يقوملبنان على مجموعة من المؤسسات العامة والخاصة لا بدّ من القضاء عليهابغية ابقائه تحت الوصاية ومنع بروز أي شخصية قادرة على لعب دور في مجال تأكيد وحدة البلد واثبات قدرته على الصمود في وجه العواصف.

معروف من اغتال جبران. معروف اكثر لماذا اغتيل جبران. من لديه ادنى شكّ في ذلك، يستطيع القاء نظرة على جريدة “النهار” في وضعها الراهن، بعد كلّ هذا العزّ والتألّق الذي كانت ترمز اليه لبنانيا وعربيا. اغتيل جبران من اجل وصول “النهار” الى ما وصلت اليه ومن اجل اغتيال الصحافة اللبنانية.كلّ ما يمكن قوله حاليا، في مناسبة مرور احد عشر عاما على تفجير سيارة جبران تويني في اثناء انتقاله من منزله في بيت مري الى مقر “النهار” في بيروت، انّ ازمة الصحافة اللبنانية لم تعد تقتصر على “النهار” التي حلّ بها ما حلّ بها. هناك اعلان صريح صدر عن جريدة “السفير” يتحدّث عن اغلاقها مع حلول نهاية السنة الحالية، أي بعد ثلاثة اسابع تقريبا.

على الرغم من انّه لا يمكن المقارنة بين ازمة “النهار” وأزمة “السفير”، الّا انّ ما لا يمكن تجاهله انّ الحملة على الصحافة اللبنانية تستهدف في نهاية المطاف اسكات بيروت. فبغض النظر عن الخطّ السياسي لـ”السفير”، الذي يمكن ان تكون هناك اعتراضات كثيرة عليه، لا مفرّ من الاعتراف انّ الصحيفة كانت مشغولة بطريقة جيدة تنمّ عن حرفية متقدّمة.

في النهاية، يظلّ لبنان الهدف. بيروت هي الهدف تحديدا. بيروت بكلّ ما تمثّله، خصوصا في مجال حريّة الصحافة وتخريج صحافيين يستطيعون العمل في ايّ مكان في العالم العربي وحتّى خارجه.

مثّلت “السفير” خطّا سياسيا معيّنا وخرجّت صحافيين كثيرين افترقوا في معظمهم عن الخط الذي اتبعه صاحبها طلال سلمان. صحيح ان هناك من يعتقد انّ الصحيفة رفضت مراعاة الصيغة اللبنانية والاعتراف باهمّيتها وقدرتها على المقاومة، والمقاومة هنا تأتي بمعناها الحقيقي المرتبط بثقافة الحياة وليس بالمتاجرة بفلسطين، لكنّ الصحيح أيضا انّها كانت مصدر غنى لهذه الصيغة. هذه الصيغة التي مكّنت “السفير” من إيجاد مكان لها وثقل كبير داخل لبنان وخارجه.

يتبيّن بوضوح، ليس بعده وضوح، بعد احد عشر عاما على اغتيال جبران تويني انّ الهدف من التخلص منه يتجاوز “النهار”. كان الهدف كلّ صحيفة في لبنان. لا شيء يحدث بالصدفة في البلد. كل اغتيال مدروس ويصب في مخطط لم يعد خافيا على احد. يتلخص هذا المخطط بعبارة نشر البؤس في لبنان. من مطار بيروت الى آخر مؤسسة ناجحة فيه، اكانت هذه المؤسسة مصرفية او تجارية او شركة طيران او على علاقة بالسياحة والفن والادب.

قبل جبران تويني، اغتيل سمير قصير الذي تجرأ على النظام الأمني ولعب دورا محوريا في إنجاح “ثورة الأرز” التي قادت الى اخراج القوات السورية من لبنان. لم يكن سمير قصير شخصا عاديا. كان احد الاعمدة الحقيقية في “النهار” التي كانت اول من طرح، عبر جبران تويني، مسألة بدء رفع الوصاية السورية عن لبنان. قبل ذلك أيضا، لم تكن محاولة اغتيال مروان حماده في الاول من تشرين الاوّل ـ أكتوبر 2004 حدثا عابرا. كانت إنذارا ثلاثيّ الابعاد الى “النهار” والى رفيق الحريري والى الزعيم الدرزي وليد جنبلاط الذي بدأ يعبّر عن تضايقه من تصرّفات النظام السوري بقيادة بشّار الأسد، خصوصا في مجال الإصرار على التدخّل في التفاصيل اللبنانية عبر ضابط من مستوى رستم غزالة!

لكلّ شهيد من شهداء “ثورة الأرز” قصة. يجمع بين كلّ الذين اغتيلوا انّهم كانوا في خدمة لبنان المطلوب التخلّص منه وتغيير طبيعته وتغييب بيروت. لم يكن مستغربا ان تلي حملة الاغتيالات والتفجيرات حروب من نوع حرب صيف 2006 وحرب مخيّم نهر البارد واعتصامات في وسط بيروت من اجل تعطيل الحياة فيه وتهجير اكبر عدد من الشباب اللبناني الى الخارج. لم يكن مستغربا ان تحصل غزوة بيروت والجبل في أيار ـ مايو 2008 من اجل بث الرعب في صفوف السنّة والدروز. هناك حلقات مترابطة تستهدف الوصول الى إزالة لبنان من خريطة الشرق الاوسط والعالم بعدما اعادها اليه رفيق الحريري ولا احد آخر غير رفيق الحريري.

بفضل رفيق الحريري صمدت “النهار”، التي اجبر بشّار الأسد رفيق الحريري على التخلي عن أسهمه فيها. بفضل رفيق الحريري، صار لـ”النهار” مبنى شامخ في وسط بيروت. وبفضل رفيق الحريري، عاد العرب الى لبنان، خصوصا اهل الخليج وذلك للتمتع بامور كثيرة من بينها قراءة “النهار”. وبفضل رفيق الحريري اعدّت بيروت نفسها لتكون لؤلؤة البحر المتوسّط.

تندرج الأزمة التي تعاني منها الصحف اللبنانية كلّها في أيامنا هذه، في سياق السلسلة المترابطة من الجرائم التي تستهدف لبنان. بين هذه الجرائم تأخير انتخاب رئيس للجمهورية مدة سنتين ونصف سنة بغية العبور الى “المؤتمر التأسيسي”. لم ينجح الفريق الذي يقف وراء تلك الجريمة هذه المرّة. قد ينجح في المرّة الأخرى. من يدري؟ قد ينجح مثلما نجح في إزالة الحدود الدولية بين لبنان وسوريا من منطلق مذهبي ليس الّا وذلك من اجل إزالة السيادة اللبنانية، او ما بقي منها، من الوجود.

في السنة 2016، تعدّت الازمة “النهار” وما تمثّله وما بلغته من هبوط في أيامنا هذه. فمن خلال جبران تويني، اغتيل جزء من لبنان. نعم، مع جبران صاحب القسم المشهور، سقط جزء من لبنان. هذا الجزء هو الصحافة اللبنانية التي تقف حاليا عند مفترق طرق. لم يكن جبران يمثّل “النهار” وما تمثّله بيروتيا ولبنانيا. كان جبران كلّ الصحافة اللبنانية. كان “النهار” وكان الذين ينافسون “النهار” في الوقت ذاته. ..

Subscribe
نبّهني عن
guest

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
Share.