“الكونتينر”، (أو “المستوعب”) هو أهم إضافة لطرق النقل البحرية والبرّية والجوية إضافة في النصف الثاني من القرن العشرين. و”الكونتينر”، حتماً، عنصر أساسي في ما بات يُسمّى “العولمة”، وكذلك في صعود صناعات الصين وكوريا وبلدان آخرى وانتشار سلعها لتدخل كل بيت في أنحاء العالم.
كما حدث دائماً عبر التاريخ، لعبت الحرب دوراً أساسياً في تطوير “الكونتينر”. الفكرة كانت موجودة ومستخدمة بصورة بدائية منذ القرن الثامن عشر، ولكنها دخلت مرحلة تطوّر حاسمة في نهاية الحرب العالمية الثانية، حينما شرع الجيش الأميركي (في 1948) باستخدام “الكونتينر” لنقل الإمدادات إلى الجبهات. وكان الدافع لذلك هو التأخيرات الناجمة عن تحميل السفن وتفريغها، والخسائر الناجمة عن السرقات والتلف أثناء النقل. أثناء حرب كوريا، في مطلع الخمسينات، نقل الجيش الأميركي بواسطة “الكونتينر” 5،31 مليون طن من المواد من الولايات المتحدة إلى كوريا، أي ضعف ما تم نقله من الولايات المتحدة إلى أوروبا خلال الحرب العالمية الثانية كلها. ومهم أيضاً أن هذه “الكونتينرات” العسكرية سمحت بخفض مدة النقل من 55 إلى 27 يوماً.
بعد الحرب الكورية، جاءت حرب فيتنام في السبعينات. وخلال هذه الحرب، تم تطوير “الكونتينرات المشتركة”، أي “الكونتينر” القابلة للإستخدام في السفن والطائرات ووسائل النقل البرية. كما أن حرب فيتنام شهدت، ولأول مرة، بناء “السفن الكونتينر”، أي السفن المتخصصة بنقل “الكونتينر” التي يقوم عليها اليوم معظم الإقتصاد العالمي.
*
المقابلة التالية (التي نشرتها “الفيغارو الفرنسية) مع جاك سعادة، رئيس مجموعة CMA CGM التي تحتل المرتبة 3 في نقل “الكونتينر” على مستوى العالم.
ورغم الأزمة التي تعصف بكل بلدان العالم، فإن سفن المجموعة قامت بنقل كميات من البضائع زادت في العام 2008 عنها في العام 2007. ويقول رئيس المجموعة، اللبناني الفرنسي جاك سعادة، أن قطاع النقل البحري، الذي كان أول القطاعات التي تأثّرت بالأزمة في العام الماضي، بدأ يشعر ببوادر نهوضٍ قريب.
الفيغارو- كيف عاشت مجموعة “سي إم أ سي جي إم” العام 2008؟
جاك سعادة: سيظلّ العام 2008 مطبوعاً بالتحوّل المفاجئ جداً الذي شهده نصفه الثاني على صعيد النقل البحري. ففي البداية، تعرّضنا لآثار الصدمة النفطية. فقد ارتفعت الأسعار إلى مستويات عالية جداً في مطلع 2008. وهذه الأسعار المرتفعة فاقمت المصاعب بالنسبة لزبائننا بحكم الفواتير التي بات عليهم أن يدفعوها، وبالنسبة لشركات النقل التي تضاءلت معدّلات أرباحها. ثم تغيّر الوضع مع عودة سعر برميل النفط إلى حوالي 50 دولاراً. هذا السعر المنخفض جداً يسمح لنا، اليوم، بتحقيق وِفرٍ مضاعف. فبرميل النفط الأرخص يعني، بالطبع، فاتورة نفطية أقل إرتفاعاً ولكنه، في الوقت نفسه، يسمح لنا أن نرسل بواخرنا عبر “رأس الرجاء الصالح” بدلاً من عبور “قناة السويس”. إن كلفة اجتياز قناة السويس لواحدة من سفننا الكبيرة جداً تبلغ 600 ألف دولار. لسنة كاملة، فاتورة عبور قناة السويس لمجموعة “سي إم أ سي جي إم” تعادل ميزانية من 400 مليون دولار.
أما في الخريف، فقد واجهنا وضعاً مختلفاً: هذا الوضع تمثّل في الإنخفاض الحاد للمبادلات العالمية. ومن الواضح أن هذا الإنخفاض قد أثّر في نشاطنا. فقد انخفض سعر النقل بين آسيا وأوروبا من 1500 دولار للكونتينر في العام الماضي إلى 400 دولار في مطلع 2009. وينبغي أن يعود هذا السعر للإرتفاع إلى 700 دولار في شهر ابريل الحالي وحتى إلى 900 دولار للكونتينر في شهر يونيو، وفي هذه الحالة سننتقل من الخسارة إلى الربح.
الفيغارو- هل يعني ذلك أن سفنكم تخسر الآن وهي تجتاز البحار؟
جاك سعادة: أجل، نحن نخسر الآن على خطوط آسيا-أوروبا. وبالمقابل، فنحن نحقق أرباحاً على خطوط إفريقيا والكاريبي. كما أننا ننقل أحجاماً كبيرة من البضائع إلى العراق. وبسبب هذا الوضع، فقد شرعت محموعتنا بتنفيذ خطة توفيرات كبيرة تبلغ 600 مليون دولار خلال العام الحالي. مثلاً: فتحنا باب إعادة التفاوض حول أكلاف الرسو والتشوين وتخزين الكونتينرات الفارغة في أنحاء العالم. إن تخزين “كونتينر” فارغ يكلّف، عموماً، 3 دولار في اليوم، ولكنه يصل إلى 70 دولار في اليوم في بعض بلدان إفريقيا (لواندا، أنغولا). إن نقل “كونتينر” سيظل معطّلاً لمدة شهر على الأرض لا يحقّق لنا أي ربح.
الفيغارو- هل يعني ذلك أنكم ستخفّضون أسطولكم البحري؟
جاك سعادة: في السنة الحالية، لدينا 180 باخرة مستأجرة يمكننا إعادتها إلى أصحابها. إن قيمة إيجارات هذه السفن، إستناداً إلى التعرفات التي كان معمولاً بها في 2003 و2005 تبلغ 5،2 ضعف السعر الذي سندفعه لو قمنا باستئجارها خلال العام الحالي. بناءً عليه، سنعيد كل سفينة إلى مالكيها حينما ينتهي عقد إيجارها، وسندرس لاحقاً ما إذا كنا سنقوم بإعادة إستئجارها أم لا. بالمقابل، سنتمسّك بالطلبيات التي أبرمناها من قبل، مع أننا قمنا بتأجيل بعض من هذه الطلبيات. لقد قدّمت مجموعة “سي إم أ سي جي إم” طلبيات لشراء 52 سفينة للفترة 2009- 2012. إن السعة الكبيرة جداً لهذه السفن، التي تسمح بتحميل 9000 إلى 13000 كوتينر في السفينة الواحدة مقابل 4000 كونتينر كمعدّل حالي لمعظم أسطول النقل العالمي، سيسمح بخفض نفقاتنا. بالإجمال، بحلول العام 2012 سيكون لدينا عدد أقل من السفن مقابل قدرات نقل أكبر.
الفيغارو- كيف تفسّر إستمرار نمو مجموعة “سي إم أ سي جي إم” في العام 2008 رغم الظرف العالمي الصعب؟
جاك سعادة: بلغ رقم أعمالنا 15،1 مليار دولار في العام 2008. وهذا يعني زيادة 28 بالمئة عن العام 2007. فقد استفدنا من النمو العالمي في نصف السنة الأول، وحقّقت مجموعتنا نموّاً كان ضعف معدّل نمو السوق. وهذا يعود لعدة أسباب. فقد افتتحنا خطوطاً محدّدة بدقة. وقامت مجموعة “سي إم أ سي جي إم” كذلك بتطوير إتفاقات شراكة مع مجموعات نقل آخر تعادلنا من حيث الحجم. وهذا ما أتاح لنا تشغيل سفن أكبر مع خفض أكلافنا، وبذلك استطعنا الحدّ من آثار مرحلة إنخفاض الطلب العالمي.
الفيغارو- قطاعكم هو أحد أول القطاعات التي شعرت ببدء الأزمة الإقتصادية العالمية. متى تتوقّع أن تنتهي هذه المرحلة؟
جاك سعادة: مجموعتنا قادرة على مواجهة المرحلة الحالية. فقد نفّذت سلسلة إجراءات شملت عقلنة الخدمات في الأسواق المتباطئة، وتحسين إدارة الأسطول إلى أفضل درجة ممكنة، علاوة على سياسة لخض النفقات. إن النقطة الأكثر إنخفاضاً باتت، الآن، وراءنا. هذا يعني أن المبادلات العالمية لن تنكمش إلى ما دون مستواها الحالي. ودليلي على ذلك هو البوادر الأولى على نهوض قطاع النقل البحري: فقد بدأنا السنة بمعدلات إمتلاء (سفن) تتراوح بين 70 و75 بالمئة بين أوروبا وآسيا. ووصلنا الآن إلى معدل 80 بالمئة. إن سنة 2009 ينبغي أن تشهد تحسّناً مطّرداً للمبادلات العالمية، ولكن بنسب صغيرة.
الفيغارو: هل ستحققون أرباحاً خلال العام الحالي؟
جاك سعادة: رقم أعمالنا سيرتفع إلى حوالي 16 مليار دولار ولكن ظروف السوق قد لا تسمح لنا بتحقيق أرباح. بالمقابل، فقد شرعنا بإعادة شراء إلتزاماتنا التي انخفضت قيمتها حاليا، الأمر الذي سيسمح لنا بتحقيق أرباح. في نهاية المطاف، ينبغي أن تصل مجموعة “سي إم أ سي جي إم” إلى وضعية توازن في العام 2009.
الفيغارو: أين وصلت علاقات الشراكة بينكم ومختلف مجموعات النقل بسكة الحديد؟
جاك سعادة: في فبراير، قرّرنا بالتراضي أن نضع حداً لاتفاقية مجموعتنا مع مجموعة Veolia Transports. وقرّرنا الإنتقال إلى علاقة إستئجار تقليدي للمقطورات من “فيوليا”، وذلك مع إستمرار علاقاتنا التجارية. وتظل مجموعتنا منفتحة على فكرة عقد إتفاقات شراكة جديدة. إن شركة سكة الحديد الحكومية الألمانية “دويتش بان” تبدي إستعدادات لمثل هذه الإتفاقات، وكذلك شركة سكة الحديد الحكومية الفرنسية “إس إن سي إف” التي تبدو متحمسة جداً وقادرة على اتخاذ قرارات سريعة.
الفيغارو: أي نوع من إتفاقات الشراكة يمكن، مثلاً، التوصّل إليه مع شركة سكة الحديد الفرنسية؟
جاك سعادة: يمكننا مثلاً أن نبرم إتفاقية شراكة لتفريغ سفننا في مرفأ “الهافر” ثم نقل البضائع بسكة الحديد إلى كل أنحاء أوروبا، كما يمكن لنا عقد إتفاقات مماثلة في آسيا.
(نقلاً عن جريدة “الفيغارو” الفرنسية)
ترجمة وتقديم: بيار عقل
جاك سعادة: التجارة العالمية عادت للإرتفاع والنفط الرخيص جعل قناة السويس أغلى من الدوران حول إفريقيا
يبدو أن لبنانوية بيار عقل دفعته للإعتقاد بأن جاك سعادة هو عبقري لبناني آخر يضاف إلى قائمة سعيد عقل العظامية
ما فاته هو أن جاك سعادة هو مسيحي أرثودوكسي مشرقي من مدينة اللاذقية.