كيف يمكن أن يجمع المسلمون، وفي آن واحد، بين السلوك الإنساني وكذلك غير الإنساني؟ كيف يمكن أن يدعوا إلى احترام حقوق الإنسان وأن يمارسوه على نطاق ضيق من حياتهم، وفي نفس الوقت يدعون إلى عدم احترام تلك الحقوق ويمارسونه على نطاق واسع؟ كيف يمكنهم أن يدعوا للاثنين وأن يمارسوا الاثنين؟ كيف يزعمون احترام حقوق المرأة ويصيغون بعض القوانين في هذ الجانب، وفي نفس الوقت – نسبةً إلى تكاليف دينية وتقاليد اجتماعية – يرفضون مساواتها في الحقوق مع الرجل ويعتبرونها تابعة، مطيعة له، وخاضعة لقوامته؟ كيف يمكن أن يرفعوا شعار احترام حقوق الضعفاء وهم يعاملون فئة الخدم بصورة يُشتمُّ منها رائحة “العبودية”؟ كيف يدعون إلى المساواة ويسعون إلى ممارستها، وفي نفس الوقت يدعون إلى التمييز ويمارسونه أيضا؟
ما نستنتجه من تلك الأسئلة، هو أن المسلمين يعيشون “تضادّا” معرفيا. يميلون إلى مرحلتين ثقافيتين. فهُم مابرحوا يزعمون احترام حقوق الإنسان، وهو زعم يغلب عليه الشعار وتنتفي منه الممارسة، في حين غالبية سلوكهم تشير إلى انتمائهم لعاداتهم وتقاليدهم الاجتماعية ولتكاليفهم الدينية التي لا ترتبط بصلة ثقافية ومعرفية بتلك الحقوق. والأسئلة التي قد تُطرح هنا هي: لماذا ظلت تلك المزاعم مجرّد مزاعم؟ لماذا باتت شعارا أكثر من كونها ممارسة؟ لماذا لم تترسخ كثقافة في حياة المسلمين، تؤثر في سلوكهم، وتهيمن على ممارساتهم؟
يبدو أن هناك إجابات متفرقة على تلك الأسئلة. وأجد أن أحدها يرتبط بدور النخب الفكرية والثقافية الإصلاحية في المجتمع، ومسؤوليتها في كشف هذا التناقض المعرفي، ما يحتّم توجيه سؤال مباشر إلى مختلف فئات المجتمع، بهدف الحصول على إجابة واضحة تعمل على معالجة هذا التناقض وتساهم في اختيار الثقافة التي تعزّز جانب حقوق الإنسان. والسؤال هو: إذا كنت تؤمن بحقوق الإنسان الحديثة وتدعو إلى احترامها بصورة عملية، فكيف في الوقت نفسه تدافع عن السلوك المناهض لتلك الحقوق وتمارس بعضها؟
يُعتبر الزعيم الأمريكي الأسود الذي تولى الدفاع عن الحقوق المدنية في أمريكا، مارتن لوثر كينغ، والذي كان واعظا بروتستانتيا، نموذجا للشخصية التي استطاعت أن تتغلب، معرفيا وعمليا، على العادات والتقاليد العنصرية وعلى التكاليف الدينية العنصرية التي تنتصر للجنس الأبيض. لذلك، استخدم أعداء كينغ ومنافسوه تهمة الإلحاد ضده واعتبروه شيوعيا معاديا لأمريكا. وحين تبحث في حياة كينغ، خاصة حياته الفكرية، ستجد بأنه تبنى مصدرين في نضاله الحقوقي: بيان الاستقلال المرتبط بحقوق الشعب الأمريكي، والإنجيل أو الكتاب المقدس. وعليه فمن غير المنطقي وصفه بالملحد، أو بأنه عدو لأمريكا. بل من المنطقي وصفه بعدو الأفكار التمييزية العنصرية الدينية، وبأنه انتصر لأمريكا الحقوقية.
ان اعتماد كينغ على هذين المصدرين أدى به إلى تحدّي الدعاة التمييزيين، فدعاهم إلى مناظرته. واستطاع من خلال خطبه وكتبه ودعوات المناظرة تلك أن يجعل الكثير من الأمريكيين البيض والسود يلتفون حوله ويدعمون مطالبه، خاصة وأنه اعتمد في تحرّكه على ذكر مواقف رؤساء أمريكيين مناهضين للعنصرية، كجورج واشنطن وابراهام لينكولن. ورغم أنه أفدى نفسه في سبيل هذا النضال، إلاّ أنه استطاع أن يعايش الفترة الزمنية التي أعلن خلالها الرئيس الأمريكي ليندون جونسون إلغاء القوانين العنصرية. لكن، يجب الإشارة هنا إلى أن نضال كينغ لم يكن هو الدافع الوحيد لإلغاء تلك القوانين، بل سبقه الكثير من الجهود الفكرية والثقافية التي هيّأت أجواء هذا التغيير وسهّلت تحقيقه.
ويجب الإشارة أيضا أن تلك الجهود، الثقافية/الحقوقية/المدنية/السياسية، التي توّجت بإلغاء القوانين العنصرية، نابعة من همّ تعاني منه البشرية جمعاء لا الشعب الأمريكي فحسب. وتتباين صور تلك المعاناة، لكن الشعوب تشترك في ضرورة معالجته. وهذا ما أدّى بمارتن لوثر كينغ أن يصبح أيقونة عالمية، وأن تصبح كتبه وخطبه وشعاراته ونضاله بمثابة ثقافة كونية. فرغم التباينات الثقافية بين الشعوب، إلا أنها تتفق في بعضها التي أصبحت مشتركة بين الجميع، مثل ثقافة الحقوق المدنية واحترام كرامة الإنسان. مع ذلك، فإن بعض الشعوب ترفع شعارا وتمارس شيئا آخر، ترفع شعار احترام حقوق الإنسان، وفي نفس الوقت ترفع شعارا آخر يحط من كرامة الإنسان ويهينها عمليا.
وتشير نتائج استطلاع أجري في 44 دولة كجزء من مشروع مركز “بيو” للبحوث العالمية أن الناس في الدول الإسلامية يضعون قيمة كبيرة للحريات الفردية، ولحرية الرأي والتعبير، ولتعددية الأحزاب، وللمساواة أمام القانون. لكن واقع الحال يشير إلى عكس ذلك تماما. فبعض المسائل والموضوعات التي تندرج تحت بند حرية الرأي شبه مخنوقة، بدءا من داخل الأسرة، مرورا بالمدرسة، وصولا إلى الساحة السياسية/الاجتماعية من خلال القوانين “المتناقضة” التي تنظمها. فإذا تمعنّا بوضع منطقة الخليج العربي فقط، وركّزنا على الكويت لأنها تنعم بحريات سياسية واجتماعية تفوق جاراتها، نجد بأن هناك توافقا شبه عام على تغليظ عقوبة المختلف بالرأي حتى الوصول إلى “الإعدام” في قضية الإساءة إلى الرموز الدينية. وحول المساواة أمام القانون فحدّث ولا حرج، بل لا يمكن الحديث في هذا الجانب بسبب حساسيته المفرطة. أما بشأن الحريات الفردية والمساواة، فالعادات والتقاليد الاجتماعية، والتكاليف الدينية، وهي بالمناسبة عادات وتكاليف شعبية، تقمع المتحدّث بشأنهما وتهدّده بعقوبات دنيوية اجتماعية وقانونية وترهبه بعقوبات أخروية.
المثير في استطلاع “بيو” هو في الجانب الآخر من النتائج، التي تشير إلى أن المسلمين يريدون تطبيق قوانين الشريعة الإسلامية بصورتها التاريخية، ويفضلون هيمنة الوجه الاجتماعي للدين التاريخي على حياتهم الراهنة… هل هناك تعارض بين التوجّهين أكثر مما “يفضحه” استطلاع “بيو”؟ ألا يجدر بمركز “بيو” أن يسأل المستطلعين كيف يمكنكم أن تجمعوا “الضدَّين” معا؟ أعتقد بأن مهمة “بيو” انتهت عن طريق كشفه هذا التّضاد، وأن مسؤولية المثقفين الإصلاحيين تبدأ من هنا، من معالجة هذا التضاد، وفي اعتبار أنه لا يمكن أن نرفع شعار احترام حقوق الإنسان، وفي نفس الوقت لا نجزع من انتهاك تلك الحقوق.
كاتب كويتي
fakher_alsultan@hotmail.com
يمكن مراجعة إستطلاع “بيو” المشار إليه في مقال فاخر السلطان على الرابط التالي:
[THE WORLD’S MUSLIMS: RELIGION, POLITICS AND SOCIETY
Executive Summary->
http://www.pewforum.org/2013/04/30/the-worlds-muslims-religion-politics-society-exec/]