أن تعيش يومكَ وأنتَ تشعرُ في لحظةٍ بارقة منه بنبض الحياة المشرقة يختالُ في أعماقكَ حلماً شهياً وعشقاً مضيئاً، فذلك ربما يعني أنكَ على قيد اللذةِ، مستغرقاً في انهماراتها النشوى، ومستمتعاً بتدفقاتها الخلاقة، ومتنعماً بلحظاتها الأشهى..
اللذة صانعة الحياة البهيجة، هي روحها وعنوانها وأساسها وجوانبها الوميضة وانعكاساتها المشعّة، إنها اللذة التي تشرع أمام حياتكَ نافذة من غيمةٍ ماطرة وتلويحة من نجمة ساطعة وأفقاً من زرقةٍ طافحة، إنها اللذة التي تدعوكَ أن تكونَ عاشقاً تتنرجسُ ألقاً بالعشق الناصع في حضرتها، لا تملُّ من نشوتها الهاطلة، تستزيد بها حضوراً فاتناً في تلاوينها الفارهة، إنها اللذة التي تجعلكَ في بياض الضوء، وفي تخلقات الذاكرة البِكر، وفي ارتعاشات الدهشة الخلابة، تستشعر بها عمق ذاتكَ، وتفتحات قلبكَ، واشتعالات حبكَ، وروعة الجمال في داخلك..
اللذة نقترفها بالرغبة الحالمة، وبالدهشة الجامحة، وبالإحساس المفعم، وبالحلم المتوهج، وبالإثارة اللاهبة، وبالإصرار الشهي، ونستطعمُ بها مذاق الأشياء في حضورها الباهر، إنها اللذة التي تجعلنا نشعرُ باللحظة أكبر من الزمن، اللحظة الباذخة بترف حضورها الفاتن، تلك اللحظة الأشهى للذة، وقد تصبح هي اللحظة التي ننتصرُ بها على الفراغ والتشظي والعدم..
لكلِّ واحد منا لذته الخاصة به، ينصهرُ فيها رغبةً وابتهاجاً وشوقاً وولهاً وتألهاً وافتتاناً، ويجترحُ معها ألواناً في ممارستها ومعايشتها بالطريقة التي يشتهي ويحب ويريد ويتمنى، فالكاتب مثلاً لذته القصوى ربما في استحواذه على فكرةٍ ملهمة، يقضي برفقتها وقتاً لذيذاً في هندسة الكتابة، وقد تمنحه هذه اللذة مزاجاً شفيفاً يجعلهُ ممتلئاًَ بزهو الحياة الوامضة، والشاعر لذته اللامتناهية ربما في استيلاده لقصيدةٍ يبقى يعاقرها بشغفٍ لذيذ، وقد تمنحه هذه اللذة خيالاً عظيماً يُبقيه مدفوعاً بعنفوان الحياة الملهمة، والعاشق هو الآخر له لذته الخاصة به، تلك اللذة التي ربما تعرجُ به سماءً مستحيلة، حينما يتحد بحبيبتهِ جسداً وروحاً، ليمارسا لذة العشق البهي، وهما يدوزنان روحيهما باشتهاء ملتهب على إيقاع جسديهما، وقد تمنحهما هذه اللذة، ثمالة الانتشاء العميق برحيق الحياة المبهجة، والفنان قد تكمن لذته التي لا تضاهى، في قدرتهِ المبدعة على التواصل الخلاق والحميمي مع أفكاره وتجلياته التي ينقطع إليها تودداً وشغفاً ويتفرد بها ألقاً وإبداعاً حين يجدها ماثلةً بتوهج في منحوتةٍ أو في لوحة أو في صورة أو في مقطوعة موسيقية، وهكذا يبقى الإنسان مسكوناً بهاجس البحث عن اللذة واللذة العليا..
وإذا ما سألنا أي شخص عن لذته في الحياة، تلك التي يجد فيها سعادته ومتعته ونشوته وذاته ولحظته الباهرة وحتى تخلقاته الإبداعية، وبالتالي تجعله على قيد الحياة الرائعة يتحسس جوانبها المضيئة في أعماقه، لوجدنا أن هناك إجابات كثيرة تعكس كل واحدة منها طريقة جميلة ومحببة لديهم في فهم اللذة والاستمتاع بها والتواصل معها والتلذذ بجماليتها في أعماقهم، فأحد الأصدقاء حينما سألته عن لذته في الحياة، أجابني بانشراح بالغ : أنه أصبحَ يجد لذته التي لا توصف في جلوسه مع أصدقائه وأحبابه القريبين إلى نبضه، ومصاحبتهم بالأحاديث والحوارات الممتعة، ولعله هنا يتفق مع نظرة الفيلسوف اليوناني أبيقور في مقولته ( اللذة هي الصداقة الفاضلة )، بينما هناكَ مَن يجد في الاحتفاء الناعم بعزلتهِ الفارهة لذةً كبيرة تمنحه كما يريد الصفاء الذهني والهدوء النفسي والاتزان الداخلي، ويرى أن الحياة تصبح هكذا بالنسبة له أجمل وأصفى وألذ، وهناكَ مَن يجد اللذة في فلسفة الحب، حينما يستطيع أن يمنح الآخرين حباً كبيراً ويبادلهم جمال الحياة وروعتها بعيداً عن تعقيدات الهوية والانتماء واللون والمعتقد والدين واللغة..
وعند البعض الآخر فإن منتهى اللذة تكمن في استلذاذهِ بجمالية العطاء بجميع أشكالهِ، أو ربما كما يراها الروائي اليوناني كازنتزاكسي على لسان الحكيم زوربا بطله في روايته المشهورة ( زوربا ) هكذا : ( إن المرأة الحقة تتمتع باللذة التي تقدمها للرجل، أكثر من مما تتمتع باللذة التي تأخذها منه )، وهناكَ مَن يرى أن اللذة هي أن يكون منسجماً دائماً مع قناعاته الذاتية ومتواصلاً معها في الوقت ذاته بهدوء وارتياح ذهني وشعوري ونفسي، والبعض أخذ يرى أن الحياة تصبح ممتعة حينما يقترفها مسكوناً أبداً بدهشة الغوايات المُلهمة، وهناك مَن يرى أن اللذةَ لا تتحقق له إلا حينما يجد نفسه في مواجهة مصاعب الحياة، يخوض غمارها باصرار وثقةٍ وتصلب واندفاع، متغلباً عليها، وربما يشعر لحظتها أن الحياة قد استقامت له وانساقت إليه طائعة وأصبحت في متناول يديه وتحت سيطرته وهنا ربما تكمنُ أصل اللذة لديه، وهناكَ مَن يتمتعُ غارقاً في لذةٍ لا متناهية حين يمارس فعل القراءة، حيث يجدها جالبةً للدهشة والغواية والبحث والسعادة والمتعة، لأنها تُبقيه على قيد التلذذ المعرفي مشرقاً بالتواصل الخلاق والشهي مع القراءات والنصوص منفتحاً بها على جوانب الحياة عموماً، وربما الالتذاذ بالقراءة وتداعياته هو ما عبّر عنه بـ ( لذة النص ) الناقد الفرنسي رولان بارت، أما إحدى الصديقات الرائعات فترى أن اللذة تكمن في أن تبقى تمارس حياتها حرةً من القيود التي من شأنها أن تسلب شخصيتها أو حريتها أو قرارها أو اختيارها أو كرامتها..
ويتعلق الكثيرون بلذاتهم الخاصة في الحياة حد القداسة العاشقة لها، حينما تستطيع أن تستزرع فيهم شهية التواصل المثير والممتع مع جوهر الأشياء وأبعادها الجمالية في ذواتهم، لتغدو الحياة هي الأخرى في نظرهم وشعورهم ووجدانهم وتخلقاتهم مقدسة أيضاً، لأنهم في هذه الحالة يجدون أن لذتهم قادرةٌ على أن تمنحهم مبرر وجودهم، وتمنحهم تالياً البهجة الفاتنة والسعادة الدافقة والإحساس المرهف والخيال الخصب والذاكرة الخلابة والمذاق الأشهى، إنها اللذة العليا، اللذة التي تجعلهم متصالحينَ مع ذاتهم، ومبتهجينَ بممارستها، يتحسسون بها جمال الحياة في أعماقهم، وتجعلهم منسجمينَ مع قناعاتهم وأمنياتهم وتصوراتهم، ومتواصلينَ مع ألقهم وإبداعهم، وهي اللذة التي لا تكف أبداً عن اختراع الدهشة والفرح والمتعة والشغب اللذيذ..
وأليسَ ممارسة الأشياء التي نحبها ونعشقها ومن ثمَّ نستطعم بمزاجية عالية مذاقها الرائع في اندفاعاتنا واشتهاءاتنا وتخلقاتنا واشتعالاتنا الداخلية، تعني إننا بالممارسة ذاتها نستشعر تدفقات اللذة في أعماقنا، فالأشياء بحد ذاتها ليست هي اللذة ربما، إنما قدرتها التكوينية الخلاقة على توليد اللذة، ومعايشتها بافتتان بالغ والتفنن بها هي اللذة العليا، لأنها في هذه الحالة تمنحنا لذة مضاعفة، وهي لذة الشعور بلحظتها المترعة بين جنباتنا، ولذة الشعور بقدرتنا الانسيابية على الالتذاذ بفن ممارستها، فاللذة لا تتجلى فقط بالرغبة في الأشياء، إنما تتجلى بالممارسة العميقة، لأن الممارسة تضعنا في حقيقة اللذة، وفي جوهرها الأعلى، وتضعنا حتى في مكنوناتها الغامضة، وتعني ممارستها إننا من خلالها قد عثرنا على ما كان مفقوداً في ذواتنا وفي إنسانيتنا..
وعندما يجد الإنسان نفسه مدفوعاً بشوق وابتهاج كبيرين للحياة، فإن ذلك يدفعه للبحث عن سعادة هنا أو هناك، يقتنيها مستطعماً بها رونق الحياة وبهجتها، وقد يعني ذلك أن اللذةَ تعني للكثيرين، أن يبقوا على قيد الشوق المفعم بالحياة، باحثينَ عن سعادةٍ يجدون فيها شروطهم الخاصة وتطلعاتهم الذاتية ويستوفون ربما من خلالها متطلباتهم المرجوة، وقد تصبح اللذة هنا بالنسبة لهم هي لذة البحث والانشغال بهندسة السعادة وتصميمها وفقاً لرغباتهم الذاتية، يدفعهم إلى ذلك شوق عظيم لصناعة الحياة الجميلة..
وليسَ أجمل من أن يكون الإنسان في حضرة لذته العليا، عاشقاً متفانياً، وخاشعاً، ومعطاءً، ومتلهفاً، ومنصتاً، وهامساً، وأيضاً مشاغباً مُحباً، يبادلها روعة اللحظات المنعشة، ويرافقها ببهجةٍ وولهٍ وانسجام، ينهلُ من إشراقاتها ومن ومضاتها جمال الحياة وفتنتها، حينها سيجد في اللذةِ استحضاراً بهياً وعميقاً لأكثر التفاصيل حميميةً وقرباً إلى قلبه وروحه وشعوره وعقله وذاته، وأليسَ جميلاً أن اللذةَ أنثى، تلك التي تتخلقُ في بوح المساءات العاطرة، وتجيءُ من عبق السفوح المشعّة، وتنضحُ بثمار الألوان الناصعة، وتتدفقُ بخفقات الدهشة الطافحة، وتشرق تورداً بالصباحات الشهيّة..
tloo1@hotmail.com
كاتب كويتي