اذا كنت من العاملين في مهنة المتاعب، فان اول ما ستواجهه لدى التصدي لاي خبر من اي نوع كان في سوريا هو غياب المتحدث الرسمي السوري اولا، وغياب الصورة غير المراقبة والخاضعة لمقصات عدة ثانيا، وثالثا الاعتماد على مصادر اخرى غير سورية في الغالب، لسبر اغوار الخبر وتقديمه لمشاهديك او مستمعيك وحتى القراء. ولذلك تكثر في اخبار سوريا المصادر التي يظهر اصحابها تحت مسميات ومصطلحات من مثل مصدر مسؤول او مسؤول طلب عدم كشف هويته (كذا). واذا صادفك مسؤول او اكثر ورفع سماعة الهاتف عن طريق الخطأ وكان على خلق مع الاحترام الشديد رفض التحدث اليك بأدب، او طلب مهلة للاطلاع على الخبر الذي انت بصدد السؤال عنه، ثم يغيب عن السمع. او اذا تملكك اليأس فعليك بالمرخص لهم بالتصريح وفق الكليشيهات المتعارف عليها في سوريا، حيث ترتفع النبرة وتنطلق الاتهامات يمينا وشمالا، وجميعها تصب طبعا في مصطلحات من نوع مؤامرة استهداف سوريا من قبل الامبريالية الاميركية والصهيونية العالمية وجيش العملاء الذين يعملون ليل نهار على زعزعة استقرار سوريا، من دون ان ننسى ربيبة كل ما سبق، اسرائيل، وعملاء اسرائيل الذين يبدو انهم اصبحوا كثر بحسب المسؤولين السوريين المرخص لهم بالتصريح. فهم معظم اللبنانيين والسعوديين وبعض الاردنيين وسواهم ممن يخالفون النظام السوري طموحاته وتطلعاته التي تندرج في توصيف سوريا على انها قلب العروبة النابض وقلعة الصمود والتصدي، والفاخوري الذي يستطيع ان يضع اذن الجرة حيما يريد.
وهذا طبعا يمكن تلمسه لدى وقوع اي حادث امني في سوريا. فحين قتل عماد مغنية في انفجار سيارة ملغومة في قلب دمشق كانت وكالة الانباء السورية على جري العادة ما زالت اخبارها غير محدثة، ويعود تاريخ احدثها الى ما لا يقل عن ستة وثلاثين ساعة. ولدى الاتصال بالمسؤولين، المصرح لهم وغر المصرح، كانت اجوبة معظمهم لافتة بتجاهل معرفتهم بحدوث التفجير مع ان وكالات الانباء كانت تبث الخبر بتواتر سريع ولكن من دون ان تستطيع تحديثه او ادخال اي اضافات عليه او معلومات جديدة. حتى ان احد المصرح لهم بالتحدث الى وسائل الاعلام كان في حال من الارتباك الشديد وقال للمتصل به: “هذا انفجار قارورة غاز”!ّ ولولا تتبع الوكالات لانطلت علينا سذاجته وخوفه ولكننا بصدق الباحث عن الحقيقة قلنا ، نقلا عن هذا المسؤول، ما هذا الهراء فعماد مغنية وبعد ان اصبح جثمانه في لبنان ووري الثرى، ما زال بصحة جيدة، كيف لا ومغنية افلت طويلا من ملاحقة من يتربص به شرا ، وان الخبر في مجمله عار عن الصحة ولا يخرج عن اطار استهداف سوريا وامنها وزعزعة استقرارها، وانه حلقة في سلسلة المؤامرات التي لا تهدأ لضرب سوريا. وبعد شيوع الخبر، واعلان اصحاب العلاقة، وهم هنا حزب الله، لم يعد في الامكان إخفاء الخبر الجلل، خصوصا ان امين عام حزب الله ومسؤولين ايرانيين شاركوا في تشييع مغنية. عندها، اذيع الخبر في مصدره، وخرج علينا احد الوزراء السوريين ليبشر باعلان نتائج التحقيق وكشف المستور في اغتيال مغنية خلال ايام، يبدو انها لم تنته بعد. اذ ان لا شيء معلن للآن في مقتل مغنية ولا كيف استطاع عملاء اسرائيل الولوج الى قلب العاصمة السورية وزرع عبوة في منطقة امنية محصنة وقتل عماد مغنية شخصيا.
ويبدو ان السطات السورية لم تكن يومها تحسب اي حساب للاصوليات الاسلامية السنية السلفية، خصوصا تلك التي تتواجد في طرابلس شمال لبنان، وإلا لكانت التهمة الصقت بهؤلاء، وهي سهلة. فهؤلاء من السنة ومغنية شيعي، وهو مستهدف من غير جهة عربية ودولية ويسعى اكثر من جهاز استخبارات في العالم لاصطياده، حسب ما ظهر لاحقا وعقب مقتله.
اما قتل العميد محمد سليمان فلم يكشف النقاب عنه الا بعد انقضاء اسبوع على مقتله. فكان السيناريو الذي رسم يشير الى قناص استطاع قتل العميد سليمان من البحر. وطبعا، فالزورق الذي حمل القناص والقناص نفسه مصدرهما اسرائئيل او عملاء اسرائيل لا فرق، ليتبين لاحقا، وعلى لسان مدير عام الوكالة الدولية للطاقة الذرية محمد البرادعي، ان مقتل سليمان أخّر صدور التقرير الذي كانت تعده الوكالة بشأن منشأة نووية مزعومة كانت قيد الانشاء في سوريا، مما ينفي طبعا اي مصلحة لاسرائيل في قتل العميد سليمان لانه، وحسب ما تزعم تل ابيب كان ربما سيؤكد الاتصالات السورية الكوريةالشمالية بشأن الاسلحة النووية او بناء مفاعل نووي في غفلة عن العالم في سوريا.
ولكن مع التفجير الاخير الذي ضرب منطقة مفرق مقام السيدة زينب على الطريق السريع جنوب دمشق كان مفاجئا ان التلفزيون السوري كان يسابق وكالات الانباء، على غير عادة، في نشر الاخبار، وفي نشر اعداد القتلى والجرحى. لاول وهلة اعتقدنا ان هناك قرارا سوريا بتغيير وجهة الاعلام في سوريا لاعتماد الشفافية الاعلامية، الامر الذي شجعنا على المسارعة الى الاتصال بالمسؤولين السوريين، مصرح لهم وغير مصرح لهم، لاستيضاح حقيقة الامر، انطلاقا من ان التلفزيون السوري الرسمي ينافس وكالات الانباء في نشر الاخبار، وتاليا رفع المحظور عن النشر. ولكن مرة جديدة اصبنا بخيبة امل، اذ رفض غير مسؤول الاجابة على اسئلتنا، للاسباب السالفة الذكر. وحظينا بعد جهد بأحد “المصرح لهم”، فبادر الى اتهام اسرائيل بالوقوف وراء التفجير، على جري العادة، لزعزعة استقرار سوريا وترويع الآمنين المدنيين. ولكن رضينا باجوبته لانها وان لم تكن مقنعة لم تخرج عن ادبيات السياسة السورية.
الا ان المفاجيء ايضا وايضا كان النقل المباشر للتلفزيون السوري من مكان التفجير ومن داخل الاستوديو ولكن ايضا مع الحديث عن عبوة ناسفة زنتها مئتي كيلوغرام. كانت توقعاتنا، بالقياس الى ما نشهده يوميا في العراق ولبنان وغيرهما، ان نرى حيا مدمرا بالكامل، وان نرى مواطنين ينتحبون ويهرولون شمالا ويمينا، واشلاء مدنيين ابرياء متناثرة في مكان التفجير فضلا عن حرائق وحطام وركام. الا ان ما عرضه التلفزيون السوري كان يضع سيارات غير محطمة كليا وعدداً من واجهات المنازل التي لا يبدو انها تصدعت بفعل التفجير بل هي مصابة باضرار، وباص لا يبدو عليه ايضا انه تهشم بالكامل. لكأن العبوة اقل بكثير من مئتي كيلوغرام. ثم بث التلفزيون السوري صورة لما قيل انها حفرة احدثها الانفجار، ولكن لم نر حفرة بل عمالاً يعملون على سحب المياه من الشارع المستهدف والمذيعة تشدد على ان هذه حفرة احدثها التفجير. وعملنا جاهدين على إقناع انفسنا ان هناك شيئاً ما تغير في التعاطي الاعلامي السوري مع الاحداث، ولكن ما كان لافتا ايضا هو ما كان يحصل داخل الاستوديو في التلفزيون حيث ظهر ، بعد حديث مقتضب لوزير الداخلية السوري بسام عبد المجيد قال فيه جملتين هما “لا نعرف هوية الفاعل” ، وعلى غير العادة لم يتهم اسرائيل مباشرة ، و”ان التفجير استهدف مدنيين ابرياء”. وكان لافتا ايضا وجود وزير لبناني سابق، هو عبد الرحيم مراد، في داخل الاستوديو في التلفزيون السوري. وطبعا طغى التفجير على طبيعة المقابلة ، لتتوالى سبحة المسؤولين اللبنانيين الذين تمت اسضافتهم على الشاشة السورية. لكأن التفجير وقع في لبنان وليس في سوريا. وليتم سؤال عدد من المسؤولين السوريين، وبينهم وزير السياحة ووزير الاوقاف طبقا للوقت الذي كنت لا ازال فيه اتابع التلفزيون السوري، وذلك عبر اتصالات هاتفية وليس بالصوت والصورة. وفي حين تحفظ المسوؤلون السوريين عن الاجابة على اسئلة المذيعة ولم يخرجوا عن اطار اطلاق موقف انساني، وهو حق، كان ضيوف الاستوديو من اللبنانيين مغالين في تعليقاتهم.
وما كان لافتا ايضا، تبعا لما تعودنا عليه في غرف الاخبار، وفي ما يشبه العرف الذي يصبح بمثابة القانون، ان عدد الجرحى في تفجيرات مشابهة يتجاوز باضعاف مضاعفة عدد القتلى، الا في سوريا. هناك دائما الشواذ، الذي لا يبرر القاعدة، بل يؤكدها، وهو ان التفجير اسفر عن سقوط سبعة عشر قتيلا واربعة عشر جريحا لم يفارق اي منهم الحياة، والحمد لله متأثرا بجراحه!
ولكن ما يثير الاستغراب هو مسارعة الرئيس السوري الى الاعلان عن نتائج التحقيق الذي يبدو ان اجهزة الامن السورية استطاعت ان تكشف تفاصيله بسرعة فائقة، وهو ان السيارة الملغومة دخلت الى سوريا من بلد مجاور، وان كان لم يسمّه، فهو الحلقة الاضعف في الخاصرة السورية، لبنان، وان هذه الخاصرة عادت من جديد لتستهدف سوريا وامنها واستقرارها. وان الاصوليين الذي يملأون شوارع مدينة طرابلس في شمال لبنان والذين يتوجس منهم الاسد ونظامه وشعبه والابرياء المدنيين الذين استهدفهم التفجير، ليظهر لاحقا ، ان التفجير استهدف شخصية عسكرية او اكثر. وقيل ان احدى الصحف السورية الرسمية نعت ضابطا سوريا كبيرا مع ابنه دون ان تشير الى ملابسات وفاتهما. وما يقال عن مقتل احد العمداء في فرع فلسطين للاستخبارات السورية والذي يبدو ان خضع للتحقيق من قبل لجنة التحقيق الدولية التي تعمل على كشف ملابسات جريمة اغتيال رئيس الحكومة اللبنانية الاسبق رفيق الحريري.
وفي معزل عن التعاطي الاعلامي الرسمي السوري مع حادث التفجير، ويبدو ببساطة وسذاجة انه يرتبط بنشر قوات سورية على الحدود الشمالية اللبنانية السورية وتصاعد وتيرة التحذير السوري من الانتشار الاصولي في طرابلس شمال لبنان بدءا من المؤتمر الصحفي المشترك للروؤساء الثلاثة الاسد وساركوزي وسليمان حيث نبه الاسد نظيره اللبناني الى ما يجري من تغلغل سلفي اصولي في طرابلس مشيرا عليه بنشر اللواء العاشر في الجيش اللبناني تحديدا في مدينة طرابلس وصولا الى تجنب اتهام اسرائيل بالوقوف وراء تفجير دمشق والصاق التهمة بسيارة اتت من دولة مجاورة واصوليين يعملون على زعزعة استقرار سوريا، عندها فقط ومن خلال جمع هذه الوقائع يمكن فهم الآليات التي تحكم السياسة السورية والتي اصبحت مكشوفة وغير مقنعة ابدا لان نتائج التذاكي تظهر بسرعة غير متوقعة. فزمن استغباء ذكاء المواطنين ولى إلى غير رجعة. فالعالم اليوم قريةكونية وليس هناك من مستور الا وسيظهر.