كيف نعرف أمريكا بعيداً عن سطوة الإعلام المهيمن، ومسبقاته؟
سنتقاطع مع تلك المسبقات عبر نافذة من أهم نوافذ الفكر البشري-الكوني.. نافذة التراث، الثقافة الإنسانية..
من يزور أمريكا ويتلمس ألوان التنوع والتعدد.. يجد حياة، وثقافة مغايرة عن كل ما رآه في زياراته لكثير من البلدان الأخرى.. هذا التغاير في الحياة أوجد تغايراً في الثقافة بكل مفرادتها.. أنه تراث التعدد والتنوع الأكثر والأشد اختلافاً. في غمرته تغيب الهويات المتصادمة والمتناحرة المبنية على الدم والعرق، ومسقط الرأس، وتظهر هويات متناثرة، مفتوحة على كل أجناس وأطياف الأرض.. هويات تتجلى في اختلافها، وثراء تنوعها.
المختلف مذاق آخر:
المواطنة سيدة ذلك المختلف الجميل الذي لا تحكمه إيديولوجية التجانس، والتماثل والتطابق، وهيمنة الواحد.
روح التعايش تلمسها متمثلة في سلوكيات الناس العاديين. في الشارع، المطعم، المطار، المسرح، والمراكز المختلفة.. الخ.
عندما يقال أن أمريكا بلاد المهاجرين. فهي حقاً كذلك، كرنفال متعدد الألوان، والأشكال، الرائحة المختلفة.. الطعم المختلف، المذاق الآخر..
ولعل أجمل وأعظم ثروة تمتلكها الولايات المتحدة الأمريكية، لا تتمثل بترساناتها، وقوتها.. الخ. فقوتها الفعلية آتية من ذلك التنوع الغزير الذي يجعلها الدولة الأولى في الكرة الأرضية اقتصادياً، وسياسياً، اجتماعياً وثقافياً.
اثنيات، ديانات، لغات، معتقدات، حضارات، وتاريخ ملون، تعايش المختلف، هي الولايات المتحدة الأمريكية..
وأنت تتجول في أرجاء الولايات والمدن الأمريكية، عبر الشارع، والمتحف، والمسرح، والفنون، لا ترى، أو تسمع، ما تشربته من مقولات كتب التربية والوطنيات،أنصبت على مر السنيين في تكريس : الذوبان، الانصهار، الواحدية، اللحمة، الثبات، اليقين، والمطلق..
وتبعاً لخلو الفكر الأمريكي من تلك المقولات، تشكلت فسيفساء الحياة والثقافة والتراث في أمريكا.. أعظم فسيفساء كونية.
المتحف الملون:
ما الذي يجعل 600 مليون سائح يزورون الولايات المتحدة الأمريكية سنوياً. يتنقلون بين متاحفها، ومراكزها الثقافية، ومراكز الفنون، وغاباتها الممتدة…
ليس لأن الله فقط حباها فقط بطبيعة ساحرة، أو حضارة.. الخ.. بل لازدهار صناعة الثقافة والسياحة، وإعادة صياغة الطبيعة. الصناعة كإبداع وفن إنساني.. عقولاً وأيدي، وحباً حد العبادة للعمل وتشغيل العقول والأيدي، ونفض الغبار المترسب داخل الروح وانهزاميتها داخل أقبية الثبات..
هنالك العمل التطوعي، أقوى اقتصاد بشري، وهو الوجه الآخر للولايات المتحدة الأمريكية.
نفس السؤال، ما الذي يجعل الزوار يتحملون الأمطار، والثلوج، والحرارة والمناخات المتقلبة، ويقطعون الآف الأميال، تحت المظلات، ويتنقلون في عز البرد في الجبال، والأنهار والبحار والغابات..؟
ما الذي يجعل هذه الأمم تتنقل في الولايات المترامية الأطراف، ويحملها على الادخار من قوتها لكي تتمكن من التحليق في سموات راقصة، أو عوالم سيمفونية، واللحاق بمهرجان أو حفلة مرتقبة؟
متاحف متناثرة هنا وهناك، جاذبة، يلقى الزائر بها ما يبتغيه، زاداً معرفياً قوامه تاريخ الشعوب المختلفة التي أوجدت متاحف خاصة بها، كمتاحف الهنود الأمريكيين، ومتاحف الفنون الأفريقية، والمتاحف الصينية، والمتاحف الأسيوية.. الخ.. والتعرف على ثقافة الأخر، هي لغة هذه المتاحف.
في المتاحف تجد خليطاً من الأجناس والإثنيات والفئات العمرية المتفاوتة من الأطفال الرضع بعرباتهم، والمعاقين، والشباب، والشيوخ والكهول، حتى المرضى ستراهم يتجولون بعرباتهم في أروقة المتاحف.
ولن أنسى مشهداً رايته في متحف التاريخ الطبيعي بمدينة سان فرانسيسكو: فتاة في كرسي المقعدين، وعلى جسدها تنغرز الحقن و”المغذيات” وقربة علاجية مركبة على جسمها الصغير المعاق، وخلفها أم تقودها، والفتاة مسرورة، تتأمل هنا وهناك، تشاهد الأسماك في هذا الطابق، وتشاهد الحيوانات والزواحف في الطابق الآخر.
شعوب حية تقطع الآف الأميال لزيارة متحف أو لزيارة جاليري فنون، أو مهرجان لرقص أو غناء أو.. الخ.
في مهرجان البالونات في “سانت فيه” ولاية نيو مكسيكو، رأينا آلافاً من السيارات، والآلاف المؤلفة من البشر، يخرجون في رحلات فجرية، قبل ظهور الشمس، حيث يشرعون بإطلاق البالونات بتنظيم دقيق، يصل حد المسطرية.
صناعة السياحة:
صناعة الثقافة.. صناعة السياحة، استخدام أحدث التقنيات بعقلية علمية، يعد من أهم مرتكزات الاقتصاد القومي.
ما الذي جعل من”سانت فيه “، ومدناً أخرى كثيرة، فقيرة في ثرواتها، غنية من خلال صناعة السياحة، والتي تعد من أهم مواردها، حيث يقصدها الناس من مختلف أنحاء العالم؟
وأنت تدلف إلى أحد المتاحف، وخصوصاً متاحف واشنطن D C تبهرك تلك التقنيات، يصبح بناء المتحف لوحة جمالية ساحرة بحد ذاتها، ويصبح المتحف الآخر هو المقتنيات، حيث تتحول تلك التحفة الصغيرة إلى لوحة جمالية، الأضواء المسلطة عليها، تعريفاتها عبر الشاشات الكبيرة، البروشورات، البوست كارد… الخ مختلف أشكال الميديا التي تصنع السحر المضاف إلى سحر القطعة، ناهيكم عن الديكورات المذهلة، والاستغلال الفريد للمساحات، والأبعاد.. الخ من تقنيات العروض.
تخرج من هذا المتحف، أو ذاك، وأنت متشبع بسحر العرض، ودقته، ونظافته، وتنظيم الثروة الإدارية البشرية.
كانت حسرتنا إننا بسويعات قليلة نقضيها في متاحف زاخرة، متاحف لا تكفيها يوم أو يومان بل أيام وأشهر، كالمتحف العظيم: متحف “المتروبوليتان “، في نيويورك.. ومتاحف “السميثونيان” في واشنطن D C، وغيرها من الولايات.
نهضة المتاحف عبر التبرعات:
هناك متاحف كبيرة وضخمة تمتلكها الدولة، وفي مقابلها هناك مئات المتاحف الفردية المتخصصة، والخاصة بأفراد، أو عائلات، جمعيات، كالمتاحف التي تشرح لك طبيعة الحياة في القرن الثامن عشر. ستجد الأسّرة والأثاث، وأدوات المطبخ، والملابس، وتنويعات الموسيقى، وما إلى ذلك من أدوات المعيشة الخاصة بالمهاجرين الأول من الألمان أو الهولنديين، الأفارقة.. الخ
وتتحصل كل المتاحف على الدعم المالي والبشري عبر التبرعات من قبل معظم الزائرين، ورجال المال والإعمال، والشركات والمؤسسات الاقتصادية الضخمة، والصغيرة، والأهم من ذلك العمل التطوعي.. ستجد طفلاً صغيراً يرمي بدولار، بسنتات في صناديق التبرعات..
الإحساس بالواجب والمسئولية من أهم طبائع المجتمع الأمريكي.
متاحف كل ولاية، تزخر بثقافتها التي تعتز بها، وتروج لها داخل ولايتها، وداخل الولايات الأمريكية الأخرى.
عبر المتحف، وثقافة الطعام، الأزياء، الفنون، وثقافة الصورة، والفيلم والمقتنيات الأخرى، والمهرجانات عبر المسارح، وعبر الشارع.
مثلاً، رأينا عرضاً لأحدى الجماعات الهندية، بأزيائها الشعبية الجميلة، وهي وصلات من الرقص، والغناء في قلب الشارع، والناس مسرورين، يصفقون، ويصورون، وكل مار يتوقف، ليتعرف.
عالم يتسابق، حد اللهاث من أجل التعرف على ثقافة الآخر.
أظن أن الإنسان في أمريكا يكبر ويشيخ، من غير أن يكمل بعد زيارة بقية الولايات الأخرى، ومتاحفها، وجاليرهات الفنون التشكيلية،والمشغولات اليدوية،والمنحوتات، والمسارح، و دور السينما، والفعاليات التي لا يدركها المرء في حيّه، فما بالك، في مدينته أو في ولاية أخرى.
أخيراً:
يبقى لكل متحف المحل أو المتجر الذي يعرض فيه المشغولات اليدوية التي تصنعها الولاية، والألبسة، والفضيات، والكتب، والمنحوتات الخشبية والفخارية والجبسية، ومحل آخر، أو ما يسمى بالكافيه، لتناول المشروبات والسندويشات الخفيفة. أما المتاحف الكبيرة كالمتحف الهندي مثلاً فهي تحتوي على مطعم ضخم يقدم أنواع المأكولات التي تعكس الثقافة الهندية المكسيكية عبر ثقافة الطعام.
ويذهب ريع تلك المحلات الملحقة بالمتاحف أيا كان نوعها، لصالح المتحف وتطويره، وصيانته.. الخ.
مرة أخرى
الإحساس بالواجب، والإيمان بالعمل الطوعي، السلوك الثقافي للغة المتحف، ولغة الحياة في الولايات المتحدة الأمريكية، الذي يجعلك لا تقف مبهوراً وحسب، بل ومحيياً لهذا المجتمع الفسيفسائي الذي يتقدم عبر الاختلاف. عبر التنوع، انها الحياة التي لها طعم، ولون مختلف، مختلف، ومختلف، حد التآلف.
arwaothman@yahoo.com
صنعاء