تصاعدت الضغوط على السلطات الليبية الجديدة لحملها على الإستجابة لمطالب الثوار بينما كان المتوقع أن تتولى هي ضبط الجماعات المسلحة وتُعيد الأمن والاستقرار إلى كافة المناطق، وخاصة العاصمة طرابلس.
واضطرت حكومة عبد الرحيم الكيب إلى حل اللجنة الأمنية العليا، وقررت إعادة جميع موجوداتها وأموالها وأصولها إلى وزارة الداخلية، بالإضافة إلى حل مجلس التخطيط الوطني وإقرار تبعيته إلى وزارة التخطيط.
جماعات الثوار التي يُقدر عدد أفرادها بــ 125 ألف مسلح، تنتشر في جميع المدن وفي أحياء العاصمة، وهي صاحبة النفوذ الــفعلي فيها إذ تعوض الدولة وتدير الشأن العام. وتعتبر الكميات الضخمة من السلاح التي تمتلكها مصدر نفوذها الحقيقي.
ويُقدر عدد مجموعات الثوار بنحو مائة مجموعة متنافسة في ما بينها، وكثيرا ما تحدث احتكاكات مسلحة بين عناصرها، مثلما كان الشأن في أحياء مختلفة من العاصمة طرابلس. وطالت شظايا الاشتباكات قائد الأركان اللواء خليفة حفتر الذي أصيب نجلاه في اشتباكات مع مجموعة من الثوار. بهذا المعنى، تشكل مهمة جمع السلاح وإعادة تنظيم المؤسسات الأمنية والعسكرية المهمة المركزية لحكومة الكيب التي تم تكوينها بشق الأنفس.
وتحاول وزارة الدفاع بقيادة أسامة الجويلي ضم آلاف الثوار إلى الجيش النظامي، وقد حددت الشهر المقبل موعدا أخيرا لاستكمال هذه العملية من أجل أخذ الوقت الكافي لتسجيل المرشحين للإنضمام، فيما سيستغرق تدريبهم على حراسة الحدود والمنشآت العامة مثل مصافي وحقول النفط. ولا يستبعد مسؤولون ليبيون أن يتم تدريب المنضمين الجدد إلى الجيش النظامي في كليات في الخارج. ولكن في غياب جيش منظم وجهاز شرطة قوي، مازالت بعض الميليشيات تسيطر على منشآت ونقاط تفتيش في عدة أحياء بطرابلس. والجدير بالذكر أن الجويلي نفسه هو قائد ثوار الزنتان الذين ألقوا القبض على سيف الاسلام معمر القذافي.
بحثا عن معايير النزاهة
قاد الثوار في الأيام الماضية سلسلة اعتصامات في مدن مختلفة وخاصة بنغازي التي انطلقت منها الثورة في 17 فبراير 2011، من أجل الاستجابة لمطالبهم، وفي مقدمتها إقرار معايير النزاهة والوطنية لتولي المناصب الهامة. ولتهدئة الخواطر، أصدر المجلس الوطني الانتقالي قرارا باعتماد معايير النزاهة لدى تسمية مسؤولين في الدولة الليبية.
وأعلن نائب رئيس المجلس، عبد الحفيظ غوقة، أن هناك هيئة وطنية سيُشكلها المجلس الوطني الانتقالي من أشخاص مشهود لهم بالنزاهة والكفاءة ليتولوا تطبيق هذه المعايير على جميع من تولى أي منصب من المناصب القيادية والمواقع العليا في الدولة منذ بداية ثورة 17 فبراير. وبدا أن أعضاء مجموعات الثوار في بنغازي غير راضين عن أداء المجلس الوطني، وانتقدوا في اعتصام أقاموه في المدينة من وصفوهم بالمتسلّقين، وشدّدوا على ضرورة عزلهم، وإدخال تغييرات على تركيبة المجلس لإقالة أي شخص ارتبط بحكم النظام السابق. وكان لافتا تعهد الوزراء بنشر جميع ممتلكاتهم والامتناع عن ترشيح أنفسهم للمجلس الوطني وللحكومة المقبلة.
وتجاوبا مع موجة الاحتجاجات غير المسبوقة، تحول رئيس المجلس مصطفى عبد الجليل إلى بنغازي، وأعلن أن المتمردين السابقين الذين قاتلوا القوات الموالية لنظام معمر القذافي سيتم تمثيلهم في المجلس.
ولم تقتصر متاعب المجلس على بنغازي، إذ ثارت احتجاجات مماثلة في طرابلس أيضا حيث عقد الثوار مؤتمرا هاجموا فيه المجلس الانتقالي والحكومة، ما حمل عبد الجليل على أن يطلب منهم إعداد لائحة ليختار منها “سبعة أو ثمانية أو تسعة أشخاص كي يصبحوا أعضاء في المجلس الوطني”.
الشرط الكفيل بتحقيق البرامج
التحدي الثاني الذي تواجهه السلطات الجديدة هو فقدان الإمكانات المالية بسبب تعثر إنتاج المحروقات واضطراب الإحتياطات المصرفية التي عبث بها القذافي وبطانته. واتجهت حكومة عبد الرحيم الكيب فور تشكيلها إلى السعي للإفراج عن الأموال الليبية المجمدة في الخارج كي تتمكن من تنشيط دواليب الإقتصاد المحلي المدمّر. إلا أن حكومات البلدان التي تحتفظ بودائع ليبية تلكأت في التجاوب مع ذلك المسعى، إلى أن قرر مجلس الأمن رفع الحظر على مصرف ليبيا المركزي والمصرف الليبي الخارجي، ما شكل خطوة نحو الإفراج عن الودائع.
وفي هذا السياق، أكد نائب رئيس المجلس الانتقالي عبد الحفيظ غوقة أن تأمين تلك الودائع أو قسم منها على الأقل هو الشرط الكفيل بتحقيق برامج الحكومة، بما فيها المهمات العاجلة المتعلقة باستيعاب الثوار ومعالجة الجرحى ورعاية أسر الشهداء والمفقودين أثناء الحرب الأخيرة. وفي هذا الإطار، أكد وزير النفط عبد الرحمان بن يزّة أن إنتاج بلاده سيصل إلى 1.3 مليون برميل يوميا بحلول الربع الأول من 2012، ما سيمكن من تغذية خزائن الدولة وحل أزمة فقد السيولة. كما صرح رئيس شركة النفط الليبية نوري البروين بأن إنتاج بلاده من النفط، الذي يصل حاليا إلى أكثر بقليل من مليون برميل يوميا، سيعود إلى 1.6 مليون برميل يوميا في منتصف العام المقبل، مشيراً إلى أن إنتاج ليبيا النفطي توقف خلال ثورة فبراير التي أطاحت بالعقيد معمر القذافي.
العد التنازلي للانتخابات
أما التحدي الثالث فهو الإعداد للانتخابات المقبلة، فالدوران الحالي في حلقة مفرغة يقتطع يوميا من الوقت المخصص للتحضير للإنتخابات المقررة في غضون ثمانية أشهر، خاصة في ظل تثاقل حركة تأسيس الأحزاب الجديدة.
وفي أوساط التشكيلات القديمة مثل الإخوان المسلمين والجبهة الوطنية لانقاذ ليبيا، جددت جماعة الإخوان مؤخرا الدعوة لفعاليات المجتمع المدني للمشاركة في تأسيس حزب سياسي “يكون جامعا للقوى الوطنية من أجل إقامة دولة ذات مرجعية إسلامية”. وكانت الجماعة عقدت مؤتمرها التاسع في بنغازي في نوفمبر الماضي لأول مرة علنيا في ليبيا منذ أكثر من ثلاثين عاما. وجرى في هذا المؤتمر انتخاب مسؤول عام جديد هو بشير الكبتي وانتخاب مجلس شورى جديد. إلا أن الأحزاب القليلة التي تأسست في الفترة الماضية مازالت تفتقر إلى الإمتداد الشعبي، فضلا عن نقل بعض الخلافات التي تعرفها ساحات عربية أخرى إلى ليبيا مثل صراع الإسلاميين والعلمانيين.
في المقابل، تبدو شخصيات أخرى على غرار رئيس المكتب التنفيذي السابق الدكتور محمود جبريل واثقة من أن ليبيا “مقبلة على مرحلة تحول نحو الديمقراطية والدولة المدنية إن هي تجاوزت الخلافات والصراعات الأيديولوجية المفتعلة”، مشيرا إلى أن الاستحقاق القادم هو الذي سيحدد شكل الدولة المقبلة من خلال المؤتمر الوطني القائم على الانتخاب، ومتوقعا أن يكون المخاض عسيرا مستدلا بأن المفوضية العليا للانتخابات “لم تصدر قانون الأحزاب إلى الآن ولا قانونا ينظم العملية الحزبية”. وعلى هذا الأساس، رأى جبريل أن يتم توسيع أعضاء المجلس الانتقالي كمّا ونوعا وذلك بزيادة أعضائه من الوطنيين عبر المجالس المحلية وضم رؤساء المجالس العسكرية على مستوى المدن لتشكيل المؤتمر الوطني الذي بدوره سيحدد مراحل الشكل السياسي وملامح ليبيا الجديدة .
لكن بحكم أن الانتفاضة الليبية اتسمت باللامركزية، تعددت الجماعات المسلحة وارتبطت بالبنية العشائرية والمناطقية لكل مدينة أو جهة، ما جعل المنافسات وحتى الاحتكاكات تتمحور حول أبعاد غير جامعة، على رغم أن البلد يتسم بوحدة عقائدية وعرقية ولغوية، عدا الأمازيغ المتشبثين بخصوصيتهم الثقافية. والملاحظ أن تلك الجماعات المسلحة تقبل بالمجلس الوطني إطارا سياسيا عاما، لكنها لا تثق فيه وترتاب من بعض أعضائه. وهنا يبرز خط آخر للتباين وهو المتصل بالانقسام التقليدي في النخب العربية بين اليسار واليمين أو الأصوليين والديمقراطيين.
غير أن الكاتب الليبي عبد السلام ضو يعتبر أن إثارة السجال الإسلامي – العلماني في حالة ليبيا تحديداً “ليست سوى نوع من الترف النخبوي”، إذ يرى أنه “لا يوجد ما يحايثها في بيئة ومجتمع كامل أعضائه من المسلمين ويتبعون لمذهب واحد”. وحض النخب على أن تعي جيداً حساسية المرحلة، داعيا إياها إلى تشكيل أحزاب ذات برامج سياسية واجتماعية انطلاقاً من حقيقة أن الدين يمثل ما هو مطلق وثابت بينما تمثل السياسة ما هو نسبي ومتغير.