تتبلور اليوم معالم معركة في تكريت – العاصمة القبلية القديمة للرئيس العراقي السابق صدام حسين. ولم يكن وارداً في الحسبان منذ عقدٍ فقط من الزمن هو أن تتشكل القوات الحكومية الرئيسية التي تسير في طليعة المعركة من «وحدات الحشد الشعبي» العاملة بإمرة زعماء الميليشيات. وأهم شركاء هذه القوات هما إيران و «حزب الله» اللبناني. وقد وصف رئيس هيئة الأركان المشتركة الأمريكية الجنرال مارتن ديمبسي هذا الوضع بأنه “أفضح مظاهر الدعم الإيراني” منذ بداية الحرب على تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» («داعش»)/«الدولة الإسلامية». ولكنه ألمح إلى أن هذا الأمر ليس بالضرورة سيئاً طالما تمتنع هذه القوات عن تأجيج التوترات الطائفية.
وفي الواقع أن تعليقات الجنرال ديمبسي تمثل جوهر الجدال القائم حول الدور الإيراني في العراق وعن التقسيم المناسب للعمل بين كلّ من طهران والتحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة في المعركة ضد «داعش». ويبدو أن البيت الأبيض يعتبر الانخراط الإيراني المتزايد في الحرب أمرٍاً واقعاً لا يمكن التخلص منه بمجرد التمني – وهذا ربما صحيح – ولكنه يراه أيضاً كخطوة إلى الأمام في العلاقات الأمريكية – الإيرانية، وهذا أمر يمكن اعتباره ساذجاً.
و تعطي الأحداث التي تجري على الأرض في شرق العراق منظاراً مختلفاً لهذه المسألة. وعلى كل حال، ما يحصل فعلياً هو أن معركة تكريت أظهرت جانباً كاملاً من الحرب تم عمداً إقصاء المجتمع الدولي عنه. فإيران ووكلاءها العراقيين يعملون على إرساء منطقة نفوذ في شرق العراق منذ أكثر من عقد وهذه المنطقة آخذة في التوسع، كما أشار ديمبسي.
وباختصار، يمكن القول إن العراق ربما يختبر ما مر به لبنان منذ عدة عقود حين استولى مقاتلو «حزب الله» على وادي البقاع. ولكن في هذه الحالة، الأرض موضع البحث هي بلاد “ما بين النهرين” والقوات المعنية هي «وحدات الحشد الشعبي»، ولكن النتيجة واحدة وهي، أن هناك رقعة من الأرض تنسحب منها الحكومة تدريجياً لصالح الفصائل القوية شبه العسكرية التي تملك صلات وثيقة بالإرهاب.
الأراضي الوعرة
هناك ظاهرة اختلاط طبيعية بين العراق وإيران في المحافظات الحدودية المشتركة بين البلدين. إذ تمتد مجموعات كبيرة من السكان الشيعة من شمال شرق بغداد إلى إيران على طول وادي نهر ديالى. وفي الجنوب الشرقي تقع محافظتا واسط وميسان الحدوديتان ذات الغالبية الشيعية حيث تنتهي الحدود مع إيران في مستنقعات يصعب السيطرة عليها. وتترابط تلك المناطق فيما بينها بشكل دائم عن طريق التجارة والتهريب ورحلات الحج الدينية على طول نقاط العبور والأنهار القديمة. ولكن منذ عام 2003 تخطت إيران حدود الروابط التقليدية حين شبكت هذه المحافظات الحدودية ببعضها البعض من خلال تقديم الدعم المتمثل بشبكات الكهرباء المشتركة والخدمات الطبية والمنتجات النفطية المكررة.
كما شكّل شرق العراق ساحة معارك حرفياً ومجازياً بين المقاتلين العراقيين المدعومين من إيران والدولة العراقية. وبما أن المناطق الحدودية كانت منكوبة جراء الحرب بين العراق وإيران، سرعان ما أصبحت بعد وقف إطلاق النار موقعاً لتبادل الغارات الانتقامية عند الحدود. وقد أرسلت بغداد منظمة “مجاهدي خلق” الشيعية المعارضة للنظام الديني الإيراني، والمدرجة على لائحة الولايات المتحدة للمنظمات الإرهابية، بينما أرسلت طهران “منظمة بدر”، وهي قوة عراقية شيعية جنّدتها إيران. وفي تسعينات القرن الماضي، عمدت إيران إلى إرسال قواتها الجوية بشكلٍ متكرر إلى العراق لضرب منظمة “مجاهدي خلق”، حتى أنها استهدفت محافظة ديالى بإطلاقها وابل من الصواريخ الشبيهة بصواريخ سكود لفترة طويلة وصلت إلى عام 2001.
وبالفعل فإن إحدى أقل الحقائق المعروفة عن سقوط حكومة صدام حسين في عام 2003 هي وقوع غزوين: الأول من الجنوب، ونفّذته قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة، والثاني من إيران بمحاذاة وادي نهر ديالى، ونفذته قوافل “منظمة بدر” المدعومة من إيران. وخلال الحرب بين إيران والعراق، انخرطت “منظمة بدر” في القتال بفيلق بلغ عدده 10 آلاف مقاتل إلى جانب الجيش الإيراني ضد حكومة صدام، وفعلت ذلك مرة أخرى في عام 2003.
والجدير بالذكر هو أن محافظة ديالى المتعددة الطوائف تحظى بمكانة خاصة في قلوب قادة الميليشيات العراقية المدعومة من إيران. فالقيادي في “فيلق بدر”، هادي العامري، هو من مواليد ديالى، ومسقط رأسه مدينة الخالص حيث يلتقي وادي نهر ديالى مع طريق بغداد – كركوك في جنوب المحافظة. وقد عمل العامرى مع قوات الاحتلال التي ترأستها الولايات المتحدة بعد سقوط نظام صدام، وحرص على حشد مجموعة كبيرة من ضباط “بدر” في الفرقة الخامسة في الجيش العراقي التي يقع مقرها في ديالى ويتم تجنيد عناصرها هناك.
كذلك حرص “فيلق بدر” على الثأر من خصمه اللدود، منظمة “مجاهدي خلق”. فقد كان “معسكر أشرف” التابع لـ “مجاهدي خلق” يقع على مسافة 25 ميلاً فقط إلى الشمال من الخالص على طريق بغداد – كركوك. وبعد أن سلّمت الولايات المتحدة المنطقة إلى الفرقة الخامسة في عام 2009، بدأ “معسكر أشرف” يتعرض لهجمات مميتة ومتكررة، بحيث كان مسلّحو الميليشيات الشيعية يجتاحون المعسكر باستمرار؛ وقد أودت إحدى الهجمات التي وقعت في نيسان/أبريل 2011 بحياة 36 مقاتلاً وتسببت بجرح 320 منهم. وفي النهاية تم إخراج “مجاهدي خلق” وعائلاتهم من بغداد، ويتزعم العامري حالياً “معسكر أشرف” ويستعمله كمقره الأمني.
وبينما غاص العراق في المعارك خلال الصيف الماضي، وسّع “فيلق بدر” نفوذه وبسط سيطرته شمالاً إلى كركوك، وشرقاً إلى بحيرة حمرين، وغرباً إلى تكريت. وتتمتع «وحدات الحشد الشعبي» في ديالى بروابط وثيقة مع التنظيم، إمّا لأن عناصر “بدر” استجابت مباشرةً لدعوة الحشد الشعبي التي أطلقتها الحكومة في أوائل صيف 2014 وإما لأن فروع «وحدات الحشد الشعبي» مثل «كتائب حزب الله» تعمل تحت إمرة قيادات من “منظمة بدر” أمثال أبو مهدي المهندس.
وفي حزيران/يونيو 2014، فتحت إيران و”فيلق بدر” خط إمداد مباشر بين مستودعات الأسلحة الإيرانية وقواعد “بدر” العسكرية، مستخدمين معبر برويزخان الحدودي في شمال ديالى. وحتى في يومنا هذا تتلقى تلك القواعد شحنات يومية من الذخائر الصاروخية الإيرانية المخصصة لفرق المدفعية التابعة لـ «وحدات الحشد الشعبي». وقد أصبحت الطائرات الإيرانية بدون طيار وما شابهها من آليات الدعم الجوي، مشهداً معتاداً فوق ديالى. كما أن مقرات «وحدات الحشد الشعبي» مجهزة بفرق استخبارات خاصة وخلايا دعم جوي قوامها من عناصر «فيلق الحرس الثوري الإسلامي» الإيراني أو «حزب الله» اللبناني – وهذان هما بالتحديد الدوران اللذين لعبهما الأمريكيون قبل عام 2011.
وقد ارتبط اسم «وحدات الحشد الشعبي» في ديالى ببعض من أكبر الفظائع التي ارتكبتها القوات الموالية للحكومة، من بينها: مجزرة 22 آب/أغسطس 2014 التي وقع ضحيتها 34 مدني سني في مسجد مصعب بن عمير في قرية إمام ويس، ومقتل 72 رجلاً وصبياً سنياً على الأقل في بروانة يوم 26 كانون الثاني/يناير 2015. وفي مناطق التركمان الشيعة بمحاذاة طريق بغداد – كركوك عملت «وحدات الحشد الشعبي» بشكلٍ فعال على منع عودة المدنيين السنة إلى المناطق التي كانت مختلطة سابقاً.
قوة “بدر”
إنّ «وحدات الحشد الشعبي» الموالية لـ “فيلق بدر” والفرقة الخامسة في الجيش العراقي التي تترأسها “بدر” تشكلان اليوم القوات المسلحة المهيمنة على جميع أنحاء وادي نهر ديالى وعلى طول الطريق من مشارف كركوك الجنوبية وصولاً إلى شمال بغداد، وهذه منطقة تناهز مساحتها 5000 ميل مربع. وتشمل معظم الأراضي التي تمت استعادتها من تنظيم «الدولة الإسلامية»، وتتوسع بسرعة باتجاه الغرب نحو نهر دجلة.
من المرجح أن تسعى «وحدات الحشد الشعبي» في النهاية إلى لعب دور في كافة معارك العراق الرئيسية، بما فيها معركة الموصل. ويبقى أن نرى ما إذا كانت هذه الوحدات مستعدة للعمل إلى جانب التحالف الذي تتزعمه الولايات المتحدة أو ما إذا كانت ستسعى للحلول محل الدعم الغربي في العمليات المستقبلية كما حدث في تكريت.
وبالإضافة إلى إزاحة الولايات المتحدة من الصورة، أصبحت «وحدات الحشد الشعبي» المرتبطة بـ “منظمة بدر” تحل محل قوات الأمن العراقية النظامية في وسط العراق. ولطالما سعت إيران إلى الهيمنة على التجارة عبر الحدود والاستفادة من قطاع الحج الذي يدرّ مليارات الدولارات: ففي تشرين الثاني/نوفمبر 2014، مضت «وحدات الحشد الشعبي» قدماً في مساعيها حين لعبت دوراً رائداً في حماية رحلات الحج في عاشوراء، كما أنها خاضت المعارك لتدخل إلى معقل «داعش» في بلدة جرف الصخر التي تقع على الطريق بين بغداد ومدينة كربلاء الغنية بالمقامات الدينية.
وفي الوقت نفسه تزحف «وحدات الحشد الشعبي» عند حدود كردستان العراق متسببةً بالعديد من الاشتباكات المسلحة، وقد أصبحت هي القوة الأمنية السائدة في العاصمة بعد أن أدّت المعركة ضد تنظيم «الدولة الإسلامية» إلى سحب وحدات الجيش العراقي إلى الشمال وغرباً إلى الأنبار. أما في المراكز الاقتصادية الهامة مثل البصرة، فكان هناك غياب شبه كامل لقوات الجيش العراقي لمدة عام تقريباً. وتواجه الوحدات البديلة مقاومة من الميليشيات الشيعية القوية التي طافت المناطق السنية في البصرة في جولة ثأر للهجمات التي نفذها تنظيم «داعش» في مناطق أبعد إلى الشمال.
احذر مما تتمناه
ستبقى مسألة «وحدات الحشد الشعبي» في العراق محط جدل كبير. فالشيعة يجدون في الحشد الشعبي إلهاماً لهم – كونه ردّاً على الانهيار المهين الذي مني به الجيش العراقي وإشارة إلى أن العراقيين كأفراد يتمتعون باستعداد وقدرة أكبر على الدفاع عن أنفسهم مما كان باستطاعة الحكومة القيام به.
سوف يستمر القادة العراقيون يجادلون بأن «وحدات الحشد الشعبي» ضرورية لشن الهجمات المضادة على تنظيم «الدولة الإسلامية» وأنه من السابق لأوانه في النزاع أن يحاولوا ضبطهم. وسيجادل العراقيون أيضاً بأن انتقاد قيادات تلك الوحدات على ضلوعها في الهجمات الإرهابية على الجنود الأمريكيين والبريطانيين والمدنيين هو ضربٌ من النفاق. ففي النهاية تبدو القوى الغربية في لهفة دائمة للعمل مع العشائر السنية التي هاجمت أيضاً هذه القوى منذ عام 2003 فصاعداً.
إن توجيه إصبع الاتهام إلى إيران سيزيد من جدل العراقيين بأنه ذلك كلاماً غير دقيق. فهم يدّعون بأن إيران هرعت للمساعدة بينما ترددت الولايات المتحدة في ذلك، وثمة بعض المبررات لادعائهم هذا، مع أنه يمكن التذكير بأن إيران لم تقُم بإزاحة رئيس الوزراء نوري المالكي من منصبه، كما لم تأتِ مساعدتها دون ثمن – إنما يصعب ببساطة ملاحظة التكاليف حالياً.
ويقرّ القادة العراقيون بصورة غير علنية بأن «وحدات الحشد الشعبي» تجسد توسعاً مقلقاً لنفوذ قادة الميليشيات المدعومة من إيران، ولكن احتواءها ممكن. ففي الأسابيع الأخيرة، بدأت القيادات الدينية الشيعية تلفت إلى الحاجة إلى انضواء «وحدات الحشد الشعبي» في هيكلية الدفاع الوطنية ووضع حد للفظائع الطائفية التي ترتكبها. وفي هذا السياق يقول القادة العراقيون: يمكننا التعامل مع «وحدات الحشد الشعبي»، ولكننا بحاجة إليها في الوقت الراهن.
إلا أن الإدعاء الأخير هو الأكثر عرضة للتساؤلات. فبعد تكريت، من الممكن ألا تحظى «وحدات الحشد الشعبي» بأي مجال للمناورة أو التحرك، ومن الممكن أن تترتب نتائج عكسية عن أي محاولة لاستدراجها الى المعاقل السنية في الموصل أو الأنبار. فضلاً عن ذلك، من الممكن أن تكون «وحدات الحشد الشعبي» خارجة عن السيطرة، مثلما لم يتخلَّ «حزب الله» اللبناني ببساطة عن سلاحه بعد انسحاب إسرائيل من لبنان، بل بلغ به الحد إلى السيطرة على البلاد وأصبح جنوده اليوم يقاتلون في سوريا والعراق.
من هنا، لا يجدر بالقادة الأمريكيين ولا العراقيين أن يتوهموا بشأن الخطر المحتمل الذي تطرحه «وحدات الحشد الشعبي». فهذه الجماعات تجسد المعضلة التقليدية بين الأمن المدني والأمن العسكري، حيث أن القوة المسلحة التي هي الأقدر على حماية البلاد من الأعداء الخارجيين – هي نفسها الخطر المحتمل الأكبر على القيادة المدنية.
ولعل أبرز أوجه الاختلاف بين المخاطر الناجمة عن نفوذ «حزب الله» في لبنان ونفوذ «وحدات الحشد الشعبي» في العراق هو النطاق، فلبنان يضم 4،5 مليون نسمة ولا يملك موارد مهمة تذكر، في حين أن العراق يضم 36 مليون نسمة ويفتخر على الأرجح بأنه يتمتع باحتياطيات من النفط والغاز تضاهي تلك التي تملكها المملكة العربية السعودية. لذلك فإن العالم لا يتحمل أن يكون مصير العراق كمصير لبنان.
مايكل نايتس، زميل ليفر في معهد واشنطن، عمل في جميع محافظات العراق، بما في ذلك فترات قضاها ملحقاً بقوات الأمن العراقية. وأحدث دراسة له هي التقرير الذي أصدره المعهد باللغة الإنكليزية، “الطريق الطويل: إعادة تفعيل التعاون الأمني الأمريكي في العراق”.
هذا المقال نُشر في الأصل على موقع “فورين آفيرز” تحت عنوان “بعد تكريت”.