بداية أريد أن أضع وردة في مزهرية جميلة، وأشكر سهير الأتاسي لتكرّمها بتقبّل ورقتي هذه في منتدى الأتاسي للحوار الوطني الديموقراطي، وأهمس في أذنها بأن العطر لا يعود ملك الأزهار حين تفتح أكمامها للريح، وكذا هو منتدى الأتاسي، نافذة مفتوحة على الحرية، من يريد إغلاقها فليفعل إن كان يريد أن ينتحر اختناقاً.
أصدقائي الأعزاء..
هذه مبادرة صغيرة لقراءة تجربة المجتمع المدني في سورية، ربما تنزع إلى الجانب الاجتماعي، ربما لأنه الجانب الذي يملك الهامش الأكبر من الحرية، نظرياً على الأقل، ولأنها من جهة أخرى تجارب عايشتها عن قرب، ووددت في استخلاص أسباب نجاحها معكم، كما ما يعترض سبيلها من صعوبات، بهدف صقل العمل المدني في سورية، الذي يجمعنا كلنا.
مقدمة
شكّلت تصريحات السيدة الأولى أسماء الأسد في كلمتها التي ألقتها هذا العام في معرض مشاركتها في مؤتمر التنمية الذي أقيم مؤخراً في دمشق علامة هامة في تاريخ المجتمع المدني في سورية، فللمرة الأولى يتمّ استخدام مصطلح “المجتمع المدني” بكل وضوح من قبل شخصية سورية هامة، في سياق تأكيدها على “أهمية دور المجتمع المدني في سورية”، في الوقت الذي ما زال فيه خطاب العديد من الناشطين، أفراداً ومنظمات وجمعيات، مصرّاً على استخدام مصطلح “المجتمع الأهلي”!
وبالطبع فإن ذلك يعود إلى ظروف سورية الخاصة وتجربتها في ظروفها السياسية مع المجتمع المدني، فكثير من الآراء تذهب باتجاه أن لا مجتمع مدني في سورية، بسبب الصعوبات التي تعترض أي عمل في الحقل العام في سورية، وينطبق ذلك على الجمعيات والأفراد وصولاً إلى الدور الذي تلعبه وسائل الإعلام في هذا الإطار.
فيما يصرّ آخرون على أن دور المجتمع المدني بارز في سورية، رغم المضايقات التي عايشها ويعيشها أكثر فأكثر، ودليلهم على ذلك الحراك الذي شهدته سورية في بداية القرن الحالي، أو العهد الحالي، مع انتشار المنتديات والجمعيات والمنظمات والمواقع الإلكترونية ذات الطابع السياسي والحقوقي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي.
فهل يوجد مجتمع مدني في سورية؟
بالعودة إلى مصطلح “المجتمع المدني” فربما يكون التعريف الأبسط له من وجهة نظري هو “كل نشاط يقوم به أفراد أو منظمات أو جمعيات غير حكومية في إطار اهتمامهم بقضايا مجتمعهم السياسية والحقوقية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية”.
وفي هذا الإطار فإن الشكل الأقدم من أشكال المجتمع المدني في بلادنا هو “العمل الخيري”، والذي ساهم عبر تاريخ سورية وحتى اليوم بدور هام في مساعدة المجتمع في سورية ودعمه. فمن منا لا يعرف جمعيات مثل “نقطة الحليب” التي تعمل في دمشق منذ ما يزيد على ستين عاماً وما زالت تسهم في تغطية الاحتياجات الأساسية لكثير من العائلات في محيط عملها الخيري.
وإذا كان العمل الخيري يشكل جزءاً أساسياً من العمل المدني، فإن العمل المدني يتجاوز الخيري إلى ميادين وأشكال أخرى من العمل تبعاً لتطور المجتمع قوانينه وأشكال العلاقات الاجتماعية فيه، وبشكل خاص إلى تطور وسائل الاتصال فيه.
نماذج من تجارب مدنية سورية
بالنسبة للأفراد الناشطين، فإن العمل المدني يأخذ غالباً شكل مبادرات يطلقونها بهدف لفت الانتباه إلى قضية عامة، وعلى سبيل المثال أطلق الفنان عباس النوري السنة الفائتة مبادرة تدعو إلى اعتبار القدس عاصمة أبدية للثقافة العربية وقد نشر مبادرته على صفحات جريدة الوطن السورية لتتداعى الشخصيات الفنية والثقافية في البلاد إلى الانضمام إليه في دعوته تلك، وتطور الأمر لتنشر الدعوة على صفحات العديد من المواقع الالكترونية وتتسع دائرة المبادرة.
كما أن المجتمع المدني السوري يزخر بالعديد من المبادرات التي أطلقها أفراد شكلوا مجموعة وبدؤوا العمل، وهذا ما حصل مع الفنان عصام حسن (الذي كان لسنوات من مدرّسي مادة التربية البدنية)، وهو فنان تشكيلي ساخر أقام العديد من المعارض الفنية داخل البلاد وخارجها، وقد شكّل مع زوجته وأصدقائه نواة “نادي الرسم المجاني في اللاذقية” منذ ما يقارب الأربع سنوات، وانطلق من شارعه ليحوّله مرسماً للأطفال الذين راحوا يعلقون لوحاتهم على شبكة عُلّقت على الجدار، ولقيت الفكرة إقبال الناس في حي بسنادا في ضواحي اللاذقية، وبدأ الأهالي يصطحبون أطفالهم إليه من كل أرجاء محافظة اللاذقية.
لقي النادي في بداياته الكثير من المضايقات من قبل الجهات الأمنية، لكن الجميع كان مصراً على المضي قدماً من أجل نشاط مدني يهتمّ بقضايا الطفولة، وكان لا بدّ من الصبر لاجتياز المرحلة الصعبة.
أثبت النادي جدارته بفضل مثابرة القائمين عليه، واستقطابه الكثير من الشباب السوري المتطوّع في محافظة اللاذقية، الذين شكّلوا كادراً خلاقاً استطاع المضي بالتجربة أكثر فأكثر نحو النجاح.
وشكّلت زيارة السيد الرئيس للنادي اعترافاً رسمياً بجدارة هذا المشروع وحسن أدائه، ليتمّ فيما بعد تخصيص غرفة للمعدات وأدوات الرسم التي كانت تعتمد في البداية على تبرعات المتطوعين، وقد بدأت منذ سنتين جمعية قوس قزح لرعاية الطفولة بالمساهمة في تغطية هذه النفقات.
تجربة مدنية أخرى جماعية، هي تجربة “رابطة النساء السوريات” الخارجة من عباءة الحزب الشيوعي السوري، ومن تنظيمه النسوي بشكل خاص، لتشكّل محاولة للاستقلال عن سلطة الحزب “الذكورية” ككل السلطات المسيطرة في بلادنا حتى الآن، ويشكّل العمود الفقري للرابطة مجموعة من الناشطات النسويات، المهتمات بقضايا المرأة بشكل خاص، واللواتي قمن بالعديد من المبادرات كان أهمّها الحملة التي قامت بها الرابطة بشأن منح الأم السورية جنسيتها السورية لأطفالها، والتي بدأتها منذ ما يقارب أربع سنوات ووسعت دائرة المشاركة فيها لتشمل جمعيات ومنظمات حقوقية وإعلامية.
التقت الناشطات خلال الحملة العديد من أعضاء مجلس الشعب مثلما توجهت للناس البسطاء لدعم الحملة، وحق المرأة السورية بمنح جنسيتها لأطفالها، وهو حق إن أعطي للمرأة السورية من شأنه انتشال الكثير من المواطنات السوريات بشكل خاص، والأسر السورية بشكل عام، من معاناة يومية لا حدود لفظاعتها، تلاحق الأطفال في جميع مراحل عمرهم.
وإن كانت حملة الجنسية لم تحقّق غايتها حتى الآن، فإن الناشطات في رابطة النساء السوريات أبدين عزمهن على دفع عجلة مشروع القانون باتجاه مجلس الشعب لمناقشته تمهيداً لإقراره.
وهن أيضاً اليوم يسهمن في حملات أخرى لا تقلّ أهمية، وتسهم في تحقيق هذا الهدف، وآخرها الحملة التي شاركن بها مؤخراً لإسقاط مسودتي مشروع قانون الأحوال الشخصية والدفع باتجاه قانون مدني للأحوال الشخصية في سورية.
تجربة أخرى احتفلت بشمعتها الخامسة في الخامس من شهر كانون الثاني لهذا العام هي “مرصد نساء سورية” الذي تجاوز الواقع الافتراضي والعمل الإعلامي الالكتروني ليلامس قضايا المرأة خصوصاً، والمجتمع في سورية بشكل عام.
الحملة الأكثر نشاطاً واتساعاً في تاريخ الحملات الحقوقية في سورية كانت الحملة التي أطلقها المرصد بشأن جرائم الشرف في سورية، والهادفة إلى تعديل المادة 548 من قانون العقوبات التي تمنح العذر المخفف لمرتكبي هذه الجريمة بذريعة الشرف لتتيح قتل النساء دون عقاب.
لم تكن الحملة مجرّد عريضة الكترونية، بل استطاع المرصد وبفضل الشباب السوري الذي استطاع استقطابه، أن يصل بعيداً داخل المجتمع السوري لينشر ثقافة حقوقية مختلفة باتجاه مجتمع أفضل.
الشباب انتشروا في القرى والمناطق البعيدة كما في المدن في مهمة توعوية حققت أرقاماً هامة على لائحة الأرقام الموقعة على حملة تقول “لا لقتل النساء.. لا لجرائم الشرف”.
الحملة ما زالت مستمرة حتى الآن رغم ما يعترض المرصد من صعوبات تتعلق بإشكاليات العمل التطوعي في سورية ومتطلباته، والتي اضطرت إدارة المرصد ومشرفه بسام القاضي إلى وضع مساحات إعلانية على صفحة المرصد الذي طالما أفرد حيزاً واسعاً للإعلانات التي تتفق مع سياسة المرصد وأهدافه نحو مجتمع أفضل.
وإذا كنا نتحدث عن الصعوبات فلا بد من الحديث عن المعوق الأكبر أمام عمل مدني حر في سورية، ألا وهو قانون الجمعيات الحالي والذي يعتبر سيفاً مسلطاً على رقاب الجمعيات، وهنا لا بدّ من استحضار تجربة جمعية المبادرة الاجتماعية التي عملت على عريضة الكترونية بشأن قانون الحضانة سنة 2002، واستمرت اللقاءات بشأن الموضوع مع الجهات الداعمة والمناهضة لإقناعهم بأهمية رفع سن الحضانة، وذلك لتحقيق مصلحة الطفل الفضلى كما نصّت على ذلك اتفاقية حقوق الطفل التي صادقت عليها سورية.
نالت المبادرة ترخيص وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل سنة 2005، وفقاً لقانون جمعيات أجمعت الجهات الناشطة على ضرورة تغييره.
وكان أبرز ما قامت به المبادرة، وكان سبباً لحلّها، هو استبيان توجّهت به للرأي العام السوري بشأن رؤيته لمجموعة من القوانين التمييزية هي قانون العقوبات وقانون الأحوال الشخصية والجنسية، وكان هذا الاستبيان سبباً لحلّ جمعية المبادرة الاجتماعية، وذلك بعد تكفير رجال دين لأعضائها، ليضاف عبء آخر وحاجز آخر أمام العمل المدني في سورية هو قانون الجمعيات بعد العبء الأمني والاجتماعي والاقتصادي.
خاتمة
لا شك بأن ما استعرضته هنا لا يشكّل إلا جزءاً يسيراً من التجارب المدنية، وربما تكون فقط التجارب الأكثر شهرة، والأكثر علنية، وأرجو أن تعتبروها نواة للبحث ونبش جميع مدفونات هذا العمل المجتمعي الصعب.
راجية إسهامكم في المشاركة في ورقتي هذه عبر عرض التجارب التي تطلعون عليها من تجارب سورية ناجحة، أو على طريق النجاح، والتجربة الفاشلة في النهاية هي الخطوة الأولى نحو تجربة ناجحة.
شكري الجزيل لسعة صدركم..
مودتي
هنادي زحلوط: طالبة جامعية.. صحفية وتكتب القصة القصيرة..
“مداخلة” في “منتدى جمال الأتاسي” على “الفايس”، بعد حظر المنتدى في دمشق