في قلعة كركوك الشاهدة على تقلبات تاريخ عمره خمسة آلاف سنة، تشير سجلات الألواح الطينية المكتوبة بالخط المسماري إلى أن المدينة في الأساس كانت تدعى «الأرض الحارة»، لكن ذلك لم يمنع منحها تسميات مختلفة من الكرد والعرب والأتراك، وأن يلقبها أكراد العراق بـ«قدس كردستان». وهذا التجاذب لم ينحصر في الهوية والتسمية، بل تحول نزاعا متقطعا منذ السبعينات في القرن الماضي، وكانت له أبعاده الداخلية والخارجية في منطقة غنية جدا بأنهار النفط والغاز.
في شهر يونيو 2014 عادت كركوك إلى الواجهة بعد انهيار الجيش العراقي في الموصل وكركوك، وما تلاه من تكريس لسيطرة «البيشمركة» على المدينة وكامل المنطقة المتنازع عليها ملئا للفراغ الحاصل ودرءا لتمدد داعش، وهذا التطور الموازي لإعلان «الخلافة» والتغييرات على الأرض، يقود إلى انقلاب جيو سياسي يخص إعادة تركيب العراق والجوار بما في ذلك احتمال تحقق اللحظة التاريخية الكردية، على ضوء تفاقم الصراع داخل المكونات العراقية وبين أطراف إقليمية لطالما تعأونت على حساب الكرد لحسابات جيوسياسية.
لكن مسعود البارزاني المندفع لطلب استفتاء حق المصير وتكريس ضم كركوك، والذي استفاد من صراع نوري المالكي وخصومه، ومن تفاهم غير معلن مع رجب طيب أردوغان، ربما يجد في باراك أوباما المعرقل الأول لأنه يخشى إذا أدى الكيان الكردي إلى إثارة غضب إيران أن يمنع ذلك بالتالي تحقيق حلمه هو بإنجاز الصفقة التاريخية مع طهران، بالرغم من إمكانية عدم إنجاز الاتفاق حول الملف النووي قبل العشرين من الشهر الحالي.
وهذه ليست المرة الأولى التي تدور فيها اللعبة الدولية والإقليمية لغير صالح الكرد. بعد انهيار السلطنة العثمانية اندثرت الأحلام التركية في شمال العراق وولاية الموصل، وحينها سقطت أيضا الرهانات على قيام كيان كردي. إذ دفع الأكراد ثمن الأجندة السياسية الدولية، وخلال ثلاث سنوات بين معاهدة سيفر (1920) ومعاهدة لوزان (1923) سقط حلم الوطن القومي الكردي، ووعد حق تقرير المصير تحت وطأة صعود أتاتورك، وعدم وجود بيئة داخلية أو إقليمية ملائمة، ناهيك عن عدم وجود مصلحة مباشرة عند المنتصرين الدوليين.
لكن تقطيع الأوصال بين مناطق سكن الأكراد أو داخل كردستان، لم يؤثر على تجذر الانتماء الكردي، وبرز ذلك بمقاومة للأمر الواقع لم تنقطع منذ 1920 في تركيا وإيران والعراق وسوريا.
داخل العراق الحديث أصبحت كركوك كناية عن عراق مصغر يقطنها الأكراد والتركمان والعرب من سنة وشيعة، بالإضافة إلى المسيحيين الكلدانيين والآشوريين والأرمن، وكذلك الصابئة والأيزيدية.
في بداية السبعينات احتدم النزاع بين السلطة المركزية بقيادة حزب البعث، والأكراد بقيادة زعيمهم التاريخي الملا مصطفى البارزاني، وكانت اتفاقية مارس 1970 التي منحت الأكراد الحكم الذاتي الإطار القانوني الوحيد في الإقليم الذي اعترف بالقومية الكردية، وهذا يعني أنه بالرغم من سجل النظام العراقي السابق وخاصة استخدام السلاح الكيميائي في حلبجة، يبقى الرهان على الأخوة العربية- الكردية رهانا ممكنا ضمن الاعتراف المتبادل، بينما تبدو المسألة أصعب بكثير في كل من تركيا وإيران، نظرا إلى الحجم الديمغرافي والانتشار الجغرافي للكرد هناك.
إن الشعب الكردي (أكثر من 40 مليون نسمة) هو أكبر شعب في العالم من دون دولة، ويوجد حوالي 20 مليونا في تركيا وحدها، وأحد عشر مليونا في إيران. وهذا يعني أن أي تقدم في وضع أكراد العراق وإقليمهم لا يعني حل المسألة الكردية. بالرغم من أهمية البارزاني الرمزية (خاصة بعدما أجبر المرض طالباني على الابتعاد) يتوجب التنبه إلى الشخصية الكردية الأبرز وهي عبدالله أوجلان المحكوم بالسجن المؤبد في جزيرة أميرالي.
هكذا بين كركوك وجبل قنديل (موقع تمركز حزب العمال الكردستاني في المثلث الحدودي الاستراتيجي بين تركيا والعراق وإيران) وأميرالي سيتحدد مستقبل الواقع الكردي في إطار لعبة الأمم التي ستقود لاحقا إلى إبدال منظومة سايكس بيكو، وهذه المرة لا يمكن تغييب العامل الكردي عن أي منظومة بديلة.
منذ أكثر من إحدى عشرة سنة، كانت كركوك بمثابة القنبلة الموقوتة بين بغداد وأربيل نظرا إلى الخلاف الواسع حول تفسير وتطبيق المادة 140 من الدستور. وتنص هذه المادة على تطبيع الأوضاع في محافظة كركوك والمناطق المتنازع عليها في المحافظات الأخرى مثل نينوى وديإلى، وحددت مدة زمنية انتهت في 31 ديسمبر 2007، لتنفيذ كل ما تتضمنه المادة المذكورة من إجراءات، فيما أعطت لأبناء تلك المناطق حرية تقرير مصيرها سواء ببقائها وحدة إدارية مستقلة أو إلحاقها بإقليم كردستان عبر تنظيم استفتاء.
اليوم يعتبر البارزاني أن الوضع الجديد في كركوك لا عودة عنه، وفي المقابل يصر نوري المالكي على عدم قبول ذلك، فيما يسود الصمت عند القيادات العربية السنية. ومع طرح الأكراد لاستفتاء حق تقرير المصير، لفت النظر إلى رفض إيران القاطع لذلك، لأن الوضع الجديد على الأرض يمنع التواصل الجغرافي للمحور الامبراطوري من طهران إلى المتوسط، مرورا بحمص أو الرمادي كما كان الوضع قبل تطورات الشهر الماضي.
من الناحية العملية هناك مصلحة مشتركة لأنقرة وأربيل في العمل سويا، وهذا هو المعطى الجديد الذي سيمنع تطويع إقليم كردستان، أما تحقيق حلم الدولة الكردية داخل حدود العراق فسينتظر إعادة التركيب الشاملة وهذا مخاض سيستمر لسنوات.
بيد أن تفاهم أردوغان- البارزاني، ومنح تركيا ترخيصا لحزب مقرب من البارزاني تحت عنوان «الحزب الديمقراطي الكردستاني التركي» (لعب على حبل التنافس بين بارزاني وأوجلان، والتجرؤ على ذكر كردستان بعد انغلاق قومي مديد) لن يكفي رئيس الوزراء التركي لضمان انتخابه رئيسا للجمهورية التركية.
ويقول أحد المقربين من أردوغان إن اختبار القوة حول الورقة الكردية يعني طهران في المقام الأول، نظرا إلى نفوذها في جبل قنديل. هكذا من أجل بلورة إرهاصات تسوية تاريخية مع الأكراد، أسرع «السلطان أردوغان» إلى المبادرة وأرسل رئيس مخابراته إلى سجن آميرالي للتفاوض مع أوجلان.
سيكون هذا المسار التركي- الكردي محفوفا بالألغام من عدة نواح، ولا مصلحة لعدة أطراف بوصوله إلى النتيجة المتوخاة. لكن هذا الجهد سيستمر لأن الأكراد (خاصة حزب السلام والديمقراطية) لهم مصلحة في المصالحة والمزيد من الاندماج والفعالية في دولة تعددية، وأنقرة التي تتمتع الآن بعلاقات مميزة مع كردستان العراق، لها كل المصلحة في التسوية مع الأكراد في سياق الحفاظ على نفوذ إقليمي.
مع سيطرتهم على النفط في كركوك، وزيادة نفوذهم في تركيا وسوريا، ودورهم في عدم التمدد «الجهادي»، لا يمكن بعد اليوم طي صفحة الحلم الكردي.
khattarwahid@yahoo.fr
أستاذ العلوم السياسية المركز الدولي للجيوبوليتيك- باريس