بين سياسة الأعراب وسياسة الأغراب

0
لعلّ في اقتفاء أثر دلالات الأصول اللغوية التي اشتقّت منها المصطلحات المتداولة في الحديث عن الشأن العام ما يلقي بعض الأضواء على مجريات الأمور في العالم العربي، ومنذ قرون طويلة. ولعلّ فيه ما يفسّر ما آلت إليها الأحوال كما يراها القاصي والداني.
فلو اقتفينا على سبيل المثال، أثر المصطلح ”پوليتيكا“ – أي: سياسة – في اللغات الأوروبية لوجدنا أنه يعود إلى أصل إغريقي. لقد اشتقّ المصطلح من الكلمة اليونانية ”پوليس“، أي المدينة-الدولة، وهي الكيان السياسي المستقلّ بإدارته والذي كان معمولاً به في العصور الإغريقية القديمة. والدلالة الأصلية للمصطلح تتطرّق إلى المجالات المعرفية التي تُعنى بالقضايا العامّة التي تخصّ الـ”جمهور“ من البشر.وفي الحالة العربية، فمن أيّ الأصول اشتقّ المصطلح ”سياسية“؟ بالعودة إلى المعاجم العربية القديمة، يتّضح لنا أنّ السياسة لها علاقة بالدواب، كما يدوّن لنا الخليل بن أحمد: ”والسِّياسة فعل السائس الذي يسوس الدوابَّ سياسةً يقوم عليها ويروضها والوالي يَسُوس الرَّعيّة…“ (أنظر: كتاب العين للخليل بن أحمد؛ أساس البلاغة للزمخشري؛  لسان العرب لابن منظور).فماذا يعني هذا؟ هذا يعني أنّ السياسة العربية هي عملية ترويض، وبكلمات أخرى هي عملية كبح جماح، اضطهاد واستبداد بالدوابّ الذين هم جمهور الرعيّة بغية السيطرة عليهم. ليس هذا فحسب، بل إنّ مصطلح ”رعيّة“ ذاته يعود إلى ذات الحقل الدلالي. فالرعيّة هي ”الماشية الراعية“، أي هي الدوابّ مرّة أخرى.

وهكذا نرى الفرق الشاسع بين مفاهيم الأصول اللغوية للمصطلحات المتداولة في الشأن العام. فإذا كانت هذه هي المفاهيم العربية للمصطلحات، يصبح من السهل على من يملك ذرة من بصر أو بصيرة أن يفهم ما يجري في هذا العالم العربي من حوله. فالحاكم العربيّ، هو السائس الوالي والراعي والمروّض لهذه التشكيلة البشرية التي تُسمّى ”الشعوب العربية“، والتي اشتُقّ التعامُل معها والعمل على إدارة شؤونها من مفهوم الأصل اللغوي الذي يحيل إلى ”الدوابّ“، أو إلى ”الماشية الراعية“، ليس إلاّ.

ولمّا كانت هذه الرعيّة العربية لا تنتمي إلى فصيلة واحدة، دينيًّا، طائفيًّا وإثنيًّا، وفوق كلّ ذلك فهي تنقسم فيما بينها إلى بطون وأفخاذ قبليّة قد تجذّرت فيها هذه النّعرة، يُضحي الأمر أكثر عواصة لدى الحديث عن قيام هويّة جامعة.  وإذا مضينا في الحديث مجازًا عن هذه الحال، فإنّه من الصعب إن لم يكن من المحال، وضع هذه التشكيلة في حظيرة سياسية واحدة تدعى ”دولة“ بالمفهوم العصري للمصطلح.

لهذا السبب، فقد انبنت الكيانات العربية على أسس ”الترويض“ الذي يسلكه ”الراعي“ في التعامل مع ”الرعيّة“. وبكلمات أخرى، نشأت الكيانات العربية على مرّ العصور على هذه الخلفية الاستبدادية لفصيل قبلي يستبدّ بسائر الفصائل.  وذلك، إلى أن تدور الدائرة عليه، فيظهر فصيل آخر يأخذ بزمام الأمور ويستلم عصا الراعي، الذي سرعان ما يكرّر الترويض فيتناسل الاستبداد جيلاً بعد جيل.

هذه هي الحلقة المفرغة التي تعيش فيها أقوام هذا المشرق العربيّ. وهذا أيضًا ما نراه بارزًا وواضحًا وضوح الشمس أمام أعيننا في الأعوام الأخيرة. لا يمكن الخروج من هذه الحلقة المفرغة بتكرار الترويض والاستبداد لأنّ ذلك لن يدوم طويلاً، وعاجلاً أو آجلاً ستدور الدائرة القبلية والطائفية مجدّدًا وسيتكرّر زهق الأرواح واستعباد العباد.

فقط بإعلان القطيعة مع هذا الإرث الدموي الاستبدادي يمكن الشروع ببناء الأوطان وإنشاء الدول الحديثة. ولا يمكن أن يتأتّى ذلك إلاّ باستئصال هذه الجذور التي نخرتها النّعرات الطائفية والقبلية. وفقط بمعرفة سوس البلاء الذي نخر المجتمعات العربية يمكن الحديث عن البدء بسلوك طريق الشفاء من هذه الآفات المزمنة.

المجتمعات العربية بحاجة إلى تطوير لغة سياسية جديدة تجاري العصر ومستجدّاته. إنّها مهمّة الأجيال العربية الناشئة، فهل تأخذ هذه الأجيال على عاتقها مهمّة التغيير هذه؟ فقط عندما نبدأ بسماع نبرة جديدة ولغة جديدة لدى هذه الأجيال يسعنا القول إنّنا سلكنا طريق الخلاص. وما لم نبدأ بسماع هذه اللغة السياسية الجديدة، فلن تقوم لنا ولمجتمعاتنا قائمة.

*
نشر: “الحياة“، 15 أغسطس 2015
Subscribe
نبّهني عن
guest

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
Share.