قد يكون السبب الذي دفع الروائي جبور الدويهي لاختيار حي الأميركان كمكان لسكن عائلة إساعيل محسن، أحد الشخصيتين الرئيسيتين في روايته، هو شهرة المخابرات السورية التي استعملت في المدرسة الإنجيلية (الأميركان) فنونا في التعذيب، باتت حاليا أكثر شهرة بعد أن انكشف المشهد السوري عن فظاعات في سجون النظام الإستبدادي الفئوي المجرم. فالروائي يختلف عن الراوي حيث أنه حر في اختيار وتبديل الأمكنة والأزمنة والشخصيات والأسماء بما يتلاءم مع عالم الرواية الخاص، وهو ما فعله كثر ممن غاص في سوسيوجيا المدينة الممتدة بقلق دائم على الجانب الشرقي للمتوسط الأزرق.
لاشك بأن جبور يبدأ بنسج خيال روايته قبل كتابتها خصوصاً أن فكرتها تكون قد تشكلت عملياً في ذهنه. فقد كان لنا سويا جولة طويلة في قبة طرابلس والأدراج الموصلة إلى البرانية والسيدة والسويقة والتبانة وكل ما له علاقة بعالم مجتمع النهر الذي كان متشكلاً في القرن الماضي، قبل أن تجرف هذا المجتمع حداثة منقوصة وملتوية، مشوهة المدينة التاريخية المتماسكة حول الضفاف والمرتفعات كما حول الجوامع والكنائس والطواحين والمتاجر والمقاهي والجسور والحارات والمروج، ودافعة القسم الأكبر من هذه المناطق نحو الإنعزال والبؤس، خصوصاً بعد اشتداد عوامل الإنقسامات الطائفية والمذهبية والمناطقية في أعقاب الحوادث والحروب الأهلية والتي لم تنته فصولها الباردة بعد، علما أنها تأخذ أبعاداً جديدة في المرحلة الراهنة.
لم أكن دليلاً جغرافياً لجبور فقط، بل غصنا سويا في بنيان وسوسيولوجيا هذه المناطق، ذلك أنني أبن هذه الحارات التي كتبت عنها مقالا بعنوان، “في نسيج حارة من حارات طرابلس”. وحي الأميركان في القبة سمي كذلك نسبة للمدرسة الإنجلية للبنين”الأميركان” في الحي(كانت القبة مركزا لمدارس وإرساليات البنين في وقت كانت الزاهرية والنجمة مركز مثيلاتها للبنات) والقبة عموما كانت مثالاً نموذجياً لتعايش فئات وأطياف وطبقات متنوعة، وربما شكلت هذه المدارس، فضلاً عن المناخ المعتدل، عامل جذب لهذه المنوعات كما لبعض الفئات الشمالية الريفية ومن مناطق الساحل السوري، ومع أن الغالبية كانت تنتمي لشرائح من الطبقة الوسطى إلا أن الحي كما بقية الأحياء، تزنر بالمهاجرين الفقراء والمنتشرين في الحارات بطريقة عشوائية، ما ادى إلى نشوء الشارع الجديد والحارة الجديدة امتداداً إلى بعل محسن، فضلا عن الأبنية المتكدسة في عشوائيات منطقة التبانه امتدادا إلى البداوي والمنكوبين. وسرعان ما بدأ وجه هذه المناطق امتدادا لمنطقة النهر والأسواق يتغير، خصوصاً مع موجات نزوح شرائح الطبقة الوسطى في أعقاب أحداث 58 والحرب الأهلية في 75، وقد تصاعد الفرز الديمغرافي الطبقي ورافقه بعض الفرز الطائفي الخجول والمتحول إلى فرز مذهبي نتيجة التدخل السوري المتحول إلى احتلال ووصاية، حيث عوملت طرابلس بقسوة استثنائية، علماً أن الفرز المذهبي ازداد وتيرة بعد انتهاء الوصاية السورية في أعقاب اغتيال الحريري وثورة الأرز وتحديداً بعد أحداث 7 أيار2008 وتداعياتها المستمرة فصولاً، والتي ازدادت بعد قيام الإنتفاضة السورية وتحولها إلى ثورة مسلحة بكل التباساتها. وقد أدى تصاعد الصراع السني الشيعي في المنطقة ودخول إيران عبر حزب الله والحرس الثوري والميليشات الشيعية العراقية ساحة الصراع الدموي في سوريا إلى تصاعد الشعور المذهبي وتأجيج جذوة التطرف وتوسيع دائرته وصولا لطرابلس القلقة والواقفة على صوص ونقطة منذ نشوء لبنان الكبير، والباحثة باستمرار عن الهوية والدور في الكيان المضطرب منذ أن بدأت تخسر مكانتها المميزة تاريخياً وإقتصادياً لصالح بيروت الناهضة على الرافعة المصرية الأوروبية العثمانية، والأكثر استيعابا، والأكيد حظا، للتحولات الممتدة نحو المشرق منذ غزو نابليون وحتى منذ عودة فخر الدين وبداية تشكل قلب لبنان المختلف والمتواصل مع الغرب المسيحي الكاثوليكي، ومع الشرق المسلم وصولا لشبه الجزيرة العربية ومع الشمال الأرثوذكسي الذي لا يمكن التواصل معه إلا مروراً بسوريا وتشكيلاتها وتعقيداتها، خصوصا بعد سيطرة فئة سياسية ومذهبية نالت رضا الشرق الأرثوذكسي والاشتراكي وسكوت وتواطؤ الغرب الرأسمالي والكاثوليكي، فضلا عن تكيف خليجي ومصري وعربي وإسلامي استمر حتى ما بعد نهاية الحرب الباردة وتراجع الأفكار الإشتراكية وولوج مرحلة جديدة، تصاعد فيها الأثر الإسلامي بكل تنوعاته الإخوانية والسلفية والجهادية وقبلها و خلالها ومعها الصعود الشيعي مع الثورة الإيرانية وولاية الفقيه.
على هكذا خلفية أراد الدويهي أن يتابع سبر أغوار المدينة الشمالية المحببة على قلبه والذي بدأ حياته فيها طالباً في مدرسة الفرير ومن ثم مدرساً في ثانوياتها و أستاذا في جامعاتها وفي كل الحالات والمراحل متسكعاً في شوارعها ولاجئاً في مقاهيها ومكتباتها ومناضلاً على طريقته في منظماتها اليسارية ومجتمعها المدني المتنوع والمتعدد، رغم التدهور الفظيع في واقعها المديني والحياتي على ضوء الهجمة المعاكسة عليها منذ تصدرها في الحركة الإستقلالية الثانية تحت شعار لبنان اولا.
ففي “شريد المنازل” اختار لشريده “نظام” أبا طرابلسيا وأما حمصية، ومع أن رواية شريد المنازل شكلت إعلانا لعبثية الحرب الأهلية ولضعف الدولة وعجز وتفكك الأحزاب اليسارية والعلمانية بمواجهة الطوائف، ما جعل جثة نظام تتابع شرودها، إلا أن اختياره لعائلة طرابلسية شكل تمهيداً للغوص في سوسيولوجيا المدينة التي ما فتئت تتأرجح بين ماضي رومانسي ذهب جزؤه الأكبر في ثنايا ومفارق التحولات الكبرى، وحاضرقاتم يئن تحت وطأة الشلل الإقتصادي و التفكك الإجتماعي والتسرب المدرسي والتوتر الأمني والفوضى التي تصل حدود الاستباحة، دون أن ننسى تصاعد موجات التشدد والتطرف بموازاة انسداد آفاق العمل وتراجع الثقافة وتدهور السياسة في البلد ككل.
حين “أرسل” جبور اسماعيل ابن انتصار وبلال محسن لينفجر في العراق، لم تكن التفجيرات الإرهابية والعمليات الإنتحارية قد استوطنت لبنان بعد، رغم أن التوتر الشيعي السني كان قد استفحل، خصوصا بعد اتهام حزب الله بتفجير الحريري ورفاقه واحتلاله لبيروت وإسقاطه لرئيس الحكومة السني وفرض رئيس وحكومة “بالقوة الناعمة”، ليبلغ مداه مع إعلان الحزب دخول الحرب إلى جانب النظام السوري في مواجهة الثائرين الذين جرهم قمع النظام العاري وتواطؤ البعض وعجز البعض الآخر في المجتمعين الدولي والعربي إلى تحويل الثورة الفريدة إلى عمل مسلح، خبرنا في لبنان آلامه وخطورته، خصوصا حين تخترقه الإلتباسات الطائفية والمذهبية والعشائرية والعرقية وحين يترافق مع واقع جيوسياسي شديد الخصوبة. فلا غرابة بعد ذلك في ان تتحول الساحة السورية إلى مختبر لشتى أنواع التفاعلات، مصحوبة باستعمال النظام لشتى أنواع الآسلحة المدمرة والفتاكة، بما فيها الأسلحة الكيماوية والبراميل المتفجرة والصواريخ العابرة والحصارات الجائرة. وطبيعي أن يشكل هذا المختبر عامل جذب للمتطرفين والجهاديين من كل الملل والمذاهب والضفاف.
وإسماعيل الذي رعته جدته وخاله في البداية لضيق حال الوالد والوالدة، تدرج منذ صغره من المدرسة إلى المهنية إلى مجتمع فتيان وقبضايات الحارات إلى مستخدم عند بائع منقوش شديد التدين وشبه معطوب من التعذيب في السجون السورية، إلى متدين سرعان ما يتحول تدينه تطرفا في آدائه، فيلبس والدته لباساً شديد الإحتشام و”يمنع” الوالد المتسكع من السكر في المنزل وينضم إلى مجموعة إسلامية متشددة.
وفي موازاة هذا التحول يستكمل الدويهي وصفه للتحولات الاجتماعية، قارئا في تاريخ عائلة انتصار الريفية التي سكنت الحي في مرحلة التحولات الكبيرة في ديمغرافية المدينة وبنيانها، وقارئا في سيرة بلال محسن الطرابلسي البائس والناجي من مجزرة مروعة في مرحلة إحكام سيطرة النظام السوري على المدينة والتي أدت إلى تفكك وتطفيش بعض قواها السياسية وإضعاف واستتباع القوى الأخرى، خصوصاً استتباع”أمراء التوحيد” الذين فرضوا في المدينة نمط حياة لم تعتده من قبل، ما شكل مفصلا أساسيا من مفاصل قهر المدينة المتنوعة، والذي استعمل واستكمل في الإطباق السوري البشع على المدينة.
يرسل جبور انتصار إلى العمل عند عبد الكريم ابن عبد الله عزام، مستعيدة سيرة والدتها أم محمود ووالدها أيضا مع آل عزام، وكأنه يلخص علاقات السيطرة المستمرة فصولا داخل المدينة وبين المدينة وريفها من خلال هاتين العائلتين. وقد ورث آل عزام الجاه والسلطة والثروة في مرحلة التحول من الامبراطورية العثمانية إلى لبنان الكبير إلى الإنتداب وصولاً للإستقلال مع ما استتبع هذا التحول من تحولات إجتماعية وسياسية واقتصادية في طرابلس، عاكساً وإن بطريقة غير مباشرة أزمة الانتماء التي عانت منها الفيحاء خصوصاً بعد تراجع دورها الإقتصادي وصعود بيروت الأسطوري منذ القرن التاسع عشر بعد طول سبات على ما يبين بدقة سمير قصير في “تاريخ بيروت”.
ورغم أن بعض مظاهر الاستكبار والغطرسة قد طبعت الطبقة السياسية الطرابلسية، إلا أن علاقات الاستتباع والسيطرة شابها بعض الإلتباس حتى التماهي وكأن الدويهي يطرح قضية التواصل والعلاقة مع الآخر ببعدها الإنساني وليس الطبقي فقط، ربما نتيجة القلق المشترك على الهوية وما رافقه من تحولات عقائدية وثقافية وإجتماعية وبيئية. فبموازة القلق والتوترالذي رافق عائلة انتصار بما فيها زوجها المتطفل (ولكن المحتفظ بحد أدنى من الكرامة نتيجة مشاركته بعملية الانتقام لاغتيال زعيم الحي والمنطقة الثائرة والمتمردة على الدوام، وقد تقلب هذا الشهيد من اليسار والشيوعية والمقاومة الشعبية والفلسطينية، إلى الانضواء بجبهة اسلامية جمعت بين التطرف والانتهازية، علما أنه احتفظ لنفسه بهامش كبير من المرونة تتناسب مع تاريخه وتاريخ عائلته السياسي من جهة وطابع الحي والمنطقة والمدينة المنفتحة والمتنوعة من جهة أخرى)يصور لنا الدويهي الوجه الآخرلقلق التحول والإنتماء عند عائلة عزام، وإن بدا أكثر سطوعاً عند الإبن عبد الكريم والذي شكلت مسيرته منذ طفولته المنعزلة، سواء في المنزل أو في مدرسة الفرير، مستوى آخر من التوتر، سيؤزمه زواجه المرتب والفاشل ولن تعالجه رحلته الطويلة إلى باريس وتعرفه على راقصة الأوبرا فاليريا، التي شكلت خشبة خلاصه وحافة هاويته في آن، وإذ تركته حاملة مع توترها طفله في أحشائها راجعة إلى مسقط رأسها صربيا، فإنه قفل عائدا إلى أشجانه وآلامه ومتكئه في منزل العائلة في مدينته المملوكية التي لا يحضنه بدفئ سواها تخدمه فاليريا عذرية(إنتصار)، وإن كانت أكثر قلقاً وارتباكاً، خصوصاً مع إختفاء إبنها ورجلها الجديد اسماعيل.
لن يفجر اسماعيل حزامه في المحمودية التي وصلها بعد أن تفرق الجهاديون الأربعة وأحزمتهم الناسفة في العراق، وقد وصف الدويهي رحلة الذهاب بشاحنة الخضرة وكأنه محلل نفسي، كما أبدع في وصف عدول اسماعيل عن التفجير في داخل الباص الذي حمله إلى المحمودية بطريقة تذكرنا بعدول أحمد عن تفجير شاحنته في نفق لنكولن في رواية الإرهابي لجان ابدايك، وحين يعود اسماعيل إلى لبنان مع عائلة مسيحية عراقية هاربة، سيلجأ إلى منزل عبد الكريم عزام الذي يجمعه معه القلق على الهوية والحاجة لانتصار، رغم انتمائهما لطرفي السلسلة الطبقية، وكأن الدويهي أراد القول أن الأزمة التي تأخذ مظهر التفكك والتطرف عند العالم السفلي (واصفا البؤس والقمع والقتل الذي تعرض له أهل الأحياء الشعبية) تاخذ مظهرالإنكفاء والإنعزال وصولا للكآبة عند النخب المتراجعة. هي إذا أزمة إنتماء وهوية ودور ومصير، تتموضع في كل مكان وتتغير كصندوق فرجة. ومع أن الأزمة تطال البلد والمنطقة بكاملها، إلا أنها تأخذ أبعادا خاصة في طرابلس المتراجعة ادوراها في التحولات الكبرى والأكثر تجاورا لمركز الأزمات والتشققات والفوالق،خصوصا فالق الساحل السوري وامتداده الجبلي وصولا حتى لحمص ودمشق، ربما منذ حملة بربر آغا لتأديب المنطقة المتمنعة عن دفع ضريبة حملة الحاج التي كانت تجمعها طرابلس للوالي الدمشقي، وحتى الآن مرورا بحملات القمع والتنكيل من جيوش وشبيحة ومخابرات الوصاية وغيرها دون أن ننسى الشعور بالحرمان والظلم والتهميش منذ لبنان الكبير والإستقلال.
لقد اختفت تقريبا الطبقة الوسطى الطرابلسية في رواية جبور وتناثرت في ثنايا الأحداث السياسية وتداعياتها الإقتصادية والإجتماعية، خصوصا أن البؤساء ووارثي احياء مجتمع النهر والأدراج والقبة بات يغلب عليهم الأصل الريفي السوري واللبناني، ولطالما اعتنق الأفكار النهضوية والإشتراكية والإسلامية المتنورة فئات طبقية متعددة قبل ان تتعثر بمواجهة تظلمات متنوعة، تاركة المجال لتغلغل نمط آخر من العقائد يقوده الملالي المدججون في مكان ومشايخ غاضبون في مكان آخر.
ومع أن الدويهي يحاول أن يكون حياديا في روايته، إلا أنه يفتح نافذة الأمل، ذلك أن التطرف المتغذي من التهميش والبؤس والإستبداد لا مستقبل له عموما، خصوصا في بلد التنوع وإن المأزوم لبنان، وفي مدينة كطرابلس يذهب أهلها بالمئات إلى حفل كلاسيك يقوده مايسترو من فيينا في نفس الوقت الذي تندلع فيه الجولة التاسعة عشر، وكأنهم بذلك يصرون على معاكسة الصورة النمطية للمدينة المأزومة.
ربما لهذه الأسباب أخرج الدويهي اسماعيل من محنته، ومع أنه أبقاه مختفياً و تائهاً إلا أنه سيرجعه يوما إلى زعرورته عند عبد الكريم العزام المنفرجة أساريره من جديد وإلى والدته انتصار التي يفوح منها رائحة زهر الليمون والتي تعيش على امل لا شفاء منه. حتى أن الدويهي ترك لبلال البائس هامش الكرامة حين يسرد بطولاته وبطولات إبنه بمواجهة القهر والإستكبار والغطرسة، أما عبد الرحمن المشنوق الذي يشاطرهم الدار فسيظل يقلب في محطات الموضة مكتفياً خارجها بمراقبة قوام وأرداف انتصار التي باتت أكثر وضوحاً مع الجينز الذي عادت ترتديه فرحة بخروج اسماعيل من القبر.
جبور ليس حيادياً فمدرسة الأميركان كانت مركزاً لمنظمته اليسارية في الحرب الأهلية قبل أن تقتحمها المخابرات السورية بعد أن هرب معظم كوادر هذه المنظمة كما كوادر غيرها من المدينة التي ستلج حينها مرحلة جديدة من القهر مخرجة من جوفها التقرحات المذهبية والفئوية بمستوى لم تعهده من قبل بإشراف المايسترو السوري، وهذا ما يبدو أنه شكل جانبا من الخلفية الأساسية لبنوراما جبور الدويهي الطرابلسية، حيث أن كثيراً من الأحداث والشخصيات الثانوية كانت تعني الكاتب بطريقة مباشرة أو غير مباشرة.
رب متسائل، عن أي أمل نتكلم بينما تزداد الصورة قتامة في طرابلس ولبنان والمنطقة، خصوصاً في سوريا حيث يسمع فحيح الأفاعي من بين الخراب وتتحول مدنها لأبوكاليبس دائم، وحيث أدى استيراد أزمتها للبنان إلى مرحلة من الإرهاب الإنتحاري لم نعهده حتى في جحيم الحرب الأهلية، مع ما يرافق ذلك من مفردات كتحول لبنان من أرض نصرة إلى أرض جهاد، وإن بوجه جهاد آخر يقوم على تشكيل رأس حربة للاعبين دمويين مستحضرين كل ما هو بشع ومرعب، كتفجير المسجدين في طرابلس بالذات ورعاية ردود فعل بشعة تزيد المشهد المأساوي ظلامية.
ورغم مشروعية هذا التساؤل، أظن أن النافذة ستبقى مفتوحة ليتدفق منها هواء الربيع العربي النقي، رغم وحشية الإستبداد وعبثية الإرهاب وظلامية التطرف بكل أنواعه، ورغم ألاعيب و أكاذيب وبرودة المجتمع الدولي بأجنحته المختلفة، المؤتلفة والمتصادمة، أمام مأساة إنسانية مروعة، ولطالما راوغ هذا المجتمع وما زال بالنسبة لقضية فلسطين الأقدم والأعدل في التاريخ الحديث، وكانه لم يخرج من ثنائية الشرق والغرب وصراع الحضارت، رغم العولمة والثورة الرقمية التي تطبع حضارته المتطورة فعلا، ولكن المستغلة دائما من أجل التسلط والهيمنة وتأمين المصالح الباردة، بالرغم من علك عبارات ككرامة وحقوق الإنسان والحريات العامة والفردية وغيرها من الحقوق والتي شكلت المحفز الرئيس للثورات العربية التغييرية وفي مقدمها الثورة السورية المدماة.
وربما كان الدويهي يتذكر، وهو يضمر الأمل المدمى أيضا في الربيع، ما قاله أنطونيو غرامشي في بدايات القرن الماضي:
“العالم القديم ينهار والعالم الجديد يتأخر في البزوغ وفي هذه الأثناء تكثر الوحوش الكاسرة”.