في شرحه للميزات التي يتصف بها العلم التجريبي، يؤكد المفكر الإيراني عبدالكريم سروش أن تحليل التجربة العلمية عادة ما يستند إلى وجود “فرضية” في ذهن الإنسان.
فنحن لا نتواجه مع العالم بذهن فارغ، بل عادة ما نستند إلى القيم والأفكار القبلية. ومن أجل الحصول على حلول للأسئلة التي في أذهاننا، فإننا نلجأ إلى التجربة. وكما يقول هايزنبرغ (فرنر كارل هايزنبرغ، فيزيائي ألماني وحائز على جائزة نوبل عام 1932، مكتشف أحد أهم مبادئ الفيزياء الحديثة وهو مبدأ “عدم التأكد”) فإن هناك الآلاف من التجارب كان يمكن تنفيذها في السابق، لكن لم ينفذها أي عالم، لماذا؟ لأن الأفكار التي أوجدتها تلك التجارب في أذهاننا، لم تكن موجودة في ذهن أي عالم، ولهذا لم يتعقب العلماء تلك التجارب. فلماذا – مثلا – اتجه باستير (لوي باستير، عالم أحياء دقيقة وكيميائي فرنسي. معروف لدي العامة بتجاربه التي أثبتت أن الكائنات الدقيقة هي المسؤلة عن الأمراض وعن اللقاحات، وبصفة خاصة اللقاح ضد داء الكلب) إلى تجاربه حول الكائنات الدقيقة؟ هل كان ذلك مجرد نزوة؟ أم كان يمتلك أفكارا قبلية عميقة وتوقعات معينة في ذهنه، هي التي جعلته يقدم على تجاربه؟ لماذا نيوتن (إسحاق نيوتن، وينادى بالسير إسحاق نيوتن، من رجال الجمعية الملكية، كان فيزيائيا انجليزيا وعالم رياضيات وعالم فلك وفيلسوفا بعلم الطبيعة وكيميائيا وعالما باللاهوت وواحدا من أعظم الرجال تأثيرا في تاريخ البشرية) لجأ إلى نظرية الجاذبية؟ هل سقوط التفاحة على الأرض، دون أي مقدمات أخرى، كانت تكفيه للجوء إلى نظريته والقيام بالتجارب التي لحقت ذلك؟ إن العلم لا يمكن أن يكون مجموعة من الاستقراءات والتعميمات العمياء، بل هو عبارة عن تجارب واستقراءات مستمرة من أجل اختبار النظريات الموجودة في الذهن.
إن تاريخ العلم، حسب سروش، ليس تاريخ الصدف العلمية، بل هو تاريخ الفرضيات والألغاز مما يستتبع كشفها وحلها من خلال اللجوء إلى التجارب العلمية. من يقرأ التاريخ ليعرف ماذا يجرى في العالم، فقد مارس عملا “عبثيا وغير علمي”. فلا نستطيع أن نطلق عبارة البحث العلمي على مثل تلك القراءة. ولابد أن يكون جليا بالنسبة إلينا السؤال التالي: عمّ نبحث؟ وأن يتم الرجوع الى الفرضيات الموجودة في أذهاننا، وبعدها سوف نكتشف بأننا أمام عبارات متغيرة المعنى واحدة تلو الأخرى. فالفرضيات تشكل الأرضية العلمية لاكتشاف العالم في مختلف الأزمنة، وهي تمثل للمحللين العلميين مدخلا للرؤية الدقيقة وإطارا للتحقق وتوجيها للتحليل العلمي.
نحن ننظر اليوم إلى الأرض إنطلاقا من نظرية كوبرنيكوس التي مرت أربعة قرون على ظهورها. قبل كوبرنيكوس كانت البشرية تنظر إلى الأرض نظرة مختلفة، على الرغم من أن الأرض هي نفسها لم تتغير، فما تغير هو نظرتنا إليها. فشخصان قد ينظران إلى مجتمع واحد وفق نظرتين مختلفتين، أي أن الشيء الواحد (وهو المجتمع) يصبح في ظل النظرة والفهم والتفسير شيئين. أحد الأشخاص قد يراه آيلا للتشرذم والسقوط، والآخر قد يراه في أوج التطور. العلم يبدأ انطلاقا من وجود “قضية”، ولحل تلك القضية لابد من اللجوء إلى بعض الفرضيات التي تساهم في تطور العلم.
يشير سروش إلى ميزات أخرى يتصف بها العلم التجريبي، من ذلك أن التفسير العلمي لا يمكن أن يتشكّل إلا في ظل القانون العلمي والنظرية العلمية. فمن دون وجود النظرية العلمية لا يمكن الحصول على تفسير حول موضوع معين. فالتفسير العلمي يستند إلى النظريات العلمية والقوانين العلمية. ولكي تصبح النظريات العلمية علمية لابد أن تكون قابلة للتجربة، ولكي تكون التجربة مهيأة للتجربة لابد أن تكون قابلة للتكرار. من هذا المنطلق نقول بأن كل قانون علمي يعكس قضية كليّة قادرة على وصف نظم الظاهرة الطبيعية بصورة متكررة. على هذا الأساس فإن الأحداث الفردية غير القابلة للتكرار لايمكن أن تخضع للتفسير للعلمي، لأنها غير قابلة للتجربة، وبالتالي لا يمكن أن نضع لها قانونا.
يطرح سروش ثلاث صفات يعتقد من خلالها أن كل نظرية علمية أو قانون علمي لابد أن يتمتع بها، وأن عدم وجود إحداها من شأنه أن يخرج تلك النظرية أو ذلك القانون من علميّته: 1- أن النظرية أو القانون يوضّح انضباطا مستمرا ودائما، ويعكس منطقيّا صورة أمر كلّي، مثل قانون الماء. 2- النظريات العلمية لديها قدرة للحصول على توقعات محددة، ومن خلالها وبمساعدتها يمكن توضيح مستقبل المسألة. فجميعنا يعلم بأمر السفن الفضائية وبوجود الأقمار الاصطناعية وباستخدام السيارات في تنقلاتنا وبزوال الأمراض بعد الاستعانة بالأدوية، كل ذلك منوط بثقتنا بالتوقعات العلمية المحددة. وحينما تقول لنا قوانين الحركة بأن الأجسام التي تسير في سرعة معينة وفي زاوية معينة وبارتفاع معين، في أي مسير سوف تكون، فإننا نستطيع أن نحدد مسير القمر الصناعي في الفضاء وأن نسيطر على حركته.
الكلام غير العلمي، وفق سروش، غير قادر على تحديد التوقعات، ولا يمكن التعويل عليه للاقتراب من المعرفة المستقبلية. إذا قلنا – على سبيل المثال – إن اقتراب القمر من المشتري قد يؤدي إلى السعادة في الحياة، فيبدو واضحا أنه لا يمكن التعويل على مثل هذا الكلام لتحقيق تلك السعادة. فالكلام هنا، حسب سروش، لا يرتبط بما هو صحيح أو غير صحيح، بل بما هو علمي أو غير علمي. قد يكون الكلام صحيحا حينما نقول بأن العلماء يستطيعون اكتشاف دواء لجميع أنواع مرض السرطان، لكن ذلك القول لا يمكن أن يكون علميا، لأنه سيصطدم بمسألة “التوقعات المستقبلية” لمعالجة كل مرض من الأمراض ومعالجة كل مريض، وسيساهم في عرقلة أي توقعات مرتبطة بالتجارب التي من المقرر أن يجريها العلماء للوصول إلى نتائج محددة. لذا، مهما أصبح الكلام غير علمي، إلا أن احتمالات تحققه قد تكون واردة في المستقبل. فأي كلام صحيح ليس بالضرورة هو كلام علمي، وأي كلام علمي ليس بالضرورة هو كلام صحيح. في المحصلة، القول بأن مرض السرطان سيرتبط بـ”دليل” خاص أو بـ”علة” معينة، هو كلام صحيح، لكنه لا يزال كلاما غير علمي.
كاتب كويتي
ssultann@hotmail.com