في بحثه حول معنى “العلم”، يطرح المفكر الإيراني عبدالكريم سروش معنيين. الأول هو “المعرفة في مقابل عدم المعرفة”. فيقال لكل المعارف “علوم” بغض النظر عن نوعها، ويقال “عالم” للشخص غير الجاهل. وفق ذلك تعتبر الأخلاق والرياضيات والفقه واللغة والفلك “علوم”، ومن يتعلم أحدها أو بعضها يقال له “عالم”. إزاء هذا التعريف، ما يحتويه القرآن هو مجموعة من العلوم، أو بعبارة أخرى مجموعة من المعارف، ومن يتعرف على تلك المعارف يقال له “عالم” بالقرآن. فالفقيه، على سبيل المثال، “عالم” بمعارف القرآن. فـ”العلم” يقف في مقابل الجهل. ويتطابق معنى “العلم” هنا مع كلمة knowledge.
المعنى الثاني للعلم يطلق على المعارف التي تتحقق من خلال “التجربة الحسية”. “العلم” هنا لا يوضع في مقابل الجهل بل في مقابل جميع المعارف غير الخاضعة للتجربة الحسية، وبالتالي لا يعتبر الفقه والعرفان والأخلاق والميتافيزيقيا والمنطق والبلاغة “علوما”. ويتطابق المعنى هنا مع كلمة science.
المعنى الثاني من “العلم” بدأ مع بداية عهد التنوير، فيما “العلم” بالمعنى الأول نشأ منذ نشأة البشرية.
جميع الإشارات الإيجابية والسلبية الواردة في المعارف الإسلامية تجاه “العلم” و”العالم”، وكل ما أشير إلى المعنى والصفة والفضائل والرذائل، جميعها تتعلق بمعنى “العلم” في مقابل الجهل، أي العلم بالمعنى الأول لا العلم في إطار خضوعه للتجربة.
يطلق سروش على القرن التاسع عشر بأنه قرن “الغرور” العلمي، نسبة إلى ما حققته العلوم التجريبية من مكاسب عظيمة، حتى أصبح الشيء العلمي يعادل الأمر الصحيح والحقيقي، والشيء غير العلمي يعادل الأمر الخرافي وغير الصحيح. وقد جرى كل ذلك في ظل سيطرة “الفلسفة الواقعية” على الحياة. وبات الأمر العلمي صاحب هيبة عظيمة مصونة من أي نقد أو اعتراض. وأصبح “العلم” بمثابة “صنم” وسمي بـ”عبادة العلم” مقارنة بعبادة الأصنام.
يشدد سروش على ضرورة عدم الرضوخ “للواقعيين”، وعدم شراء بضاعتهم تلك، ويرفض الإذعان للمعادلة التالية: الشيء العلمي = الشيء الصحيح. كما يؤكد على عدم تركيب تلك المعادلة في أذهاننا، وألاّ نعتقد بأن العلم في مقابل الجهل هو بمعنى العلم في مقابل المعلومات غير التجريبية. فدائرة الصحيح وغير الصحيح، بالنسبة إليه، أوسع من دائرة العلمي وغير العلمي. فليس كل صحيح هو بالضرورة علمي (تجريبي)، وليس كل ما هو غير علمي هو بالضرورة غير صحيح. ويطرح سروش الفكر الماركسي كمثال هنا، فيقول استنادا إلى ادعاءات أصحابه بأنه فكر علمي وبالتالي هو الفكر الصحيح، فالمدارس الفكرية الأخرى في نظر الماركسيين هي مدارس غير علمية، لأنها في نظرهم تقوم على أسس فكرية غير صحيحة.
لذا، السؤال الذي يطرح هنا هو: ما هو دليل إثبات الادّعاء القائل بأن “التجربة هي الطريقة الوحيدة التي تكشف لنا الحقيقة”؟. يجيب سروش على ذلك بالقول بأنه لإثبات صحة هذا الإدعاء، لا نستطيع أن نلجأ إلى التجربة، لأنه، أولا، السؤال والجواب لا يمكن أن يصبحا أمرا تجريبيا، وثانيا، إذا افترضنا إمكانية أن يكونا أمرا تجريبيا، لكن هل نستطيع أن ندلّل على صحة أمر مشكوك في ذات صحته؟ بالتالي، فإن صحة تجربة ما، وواقعيتها، ليست أمرا تجريبيا. بمعنى أن الصحيح وغير الصحيح لا يعادلان التجريبي وغير التجريبي.
لا يسعى سروش إلى التقليل من العلم التجريبي، بل يسعى إلى توضيح حدود هذا العلم، لذلك يعتقد بأن له ميزات عدة، منها أن أسلوبه يقوم على التجربة والمشاهدة، لا التجربة الشخصية الداخلية، بل التجربة التي يجب أن تكون مهيأة للجميع. فالعرفان، على سبيل المثال، من التجارب الداخلية للشخص، لا يشترك فيها ولا يمارسها إلا الشخص نفسه، بالتالي لا ترقى إلى “الفهم” العلمي التجريبي، ولا تخضع إلا “للتذوق” الشخصي. لذلك، لا يمكن أن تكون تلك التجربة “علمية”. بعبارة أخرى، التجربة التي لا تستطيع أن تكون مهيأة للجميع، ستخرج عن الإطار “العلمي”.
إن الموضوعية في “العلم” تعني هذا المعنى، أي إمكانية أن تكون التجربة مهيأة للجميع. لذلك، لأن مجال التنقيب والتحليل مسدود أمام الآخرين بشأن – مثلا – الإلهامات التي تحدث للأنبياء والصالحين، فإن تلك الإلهامات لا يمكن أن تخضع للتحليل العلمي التجريبي. لهذا يقال بأن التجربة هي “عمود” العلم، لكن ليس كل تجربة هي عمود. وبجملة ثانية، فإن التجربة الحسية المباشرة الجمعية الخاضعة للتكرار هي عمود العلم، لا التجربة الشخصية الداخلية المتعلقة بالفرد.
على هذا الأساس، لا يمكن علمياً نفي أو إثبات وجود كائنات في ما وراء الطبيعة. إن علماء الفيزياء والكيمياء الذين يدّعون امتلاكهم قرائن بشأن وجود الروح، لا يستطيعون أن يربطوا وجهات نظرهم بالعلم والفلسفة. وفي المسائل المتعلقة بإثبات وجود الإله لا يمكن اللجوء إلى التجربة العلمية. وعليه، يتساءل سروش: كيف يمكن إلغاء الإله من العالم لكي نرى أثر ذلك؟ كيف يمكن أن نخرج الروح من الجسم من أجل التعرف على نتيجة ذلك؟.
كاتب كويتي
ssultann@hotmail.com