لأنها أول عملية انتحارية يقوم بها واحد من ابناء صيدا هو معين ابو ظهر، فالمدينة مصابة بالدوار بعدما تم التعرف على هوية الانتحاريين اللذين فجرا نفسيهما قرب السفارة الايرانية في بيروت. وان كان الاول ينتسب الى عائلة صيداوية معروفة، فإن الثاني هو من المدينة بالمعنى الاجتماعي هذا رغم كونه فلسطينيا ولد في مجمع تسكنه غالبية فلسطينية قرب بلدة البيسارية القريبة من صيدا. فالانتحاريان يجتمعان، الى جانب الانتحار، في انهما شابان اتما العقد الثاني من العمر، واجتمعا على تأييد الشيخ احمد الاسير، كما اظهرت التحقيقات حتى الآن.
العملية الانتحارية المزدوجة كانت عملاً محتملاً لدى البعض، وكان يتسرب مثل هذا الاحتمال في بعض التحليلات، ويتوقع البعض ان ياتي من سورية او من ارض “القاعدة” الواسعة. وربما غامر البعض وظنَ ان خطر الانتحاري يمكن ان يأتي من الشمال.. من عكار، اي في المناطق ذات الحضور الفاعل لبعض المجموعات السنية المتشددة. لكن ان يأتي من صيدا فهذا ما لم يخطر على بال الا من خطط ونفذ هذه الجريمة الارهابية.
جاء الانتحاريان من بيئة سنية في محيط شيعي اكثري وبعد معركة عبرا الشهيرة في حزيران، التي ولدت احباطاً وردة فعل يائسة جعلتهما صيداً سهلا لمن جندهما، ربما من خارج الحدود. وما يعزز من هذه الفرضية كلام الانتحاري ابو ظهر على صفحته على الفيسبوك عن خذلان الشيخ الاسير.
الاسئلة التي تطرح نفسها اليوم: هل فقدت صيدا سمة الاعتدال التي ميزتها؟ وهل صارت خصبة لمثل هذه الخيارات التي تغرر ببعض شبابها؟ وهل في المدينة مزاج مجتمعي بات يتقبل مثل هذا السلوك ويحتضنه ويحفزه تحت عنوان الاحباط؟
ربما يجب الانتباه، وانطلاقا من محاولة رصد الفئة الشابة التي خرج منها الانتحاريان، الى ان هذه الفئة العمرية لدى الشيعة والسنة نشأت على الفرز المذهبي، ولم تتعرف على الاختلاط ولم تلامسه. لم تختبر العيش الواحد ولا المشترك. فمنذ العام 2005، اي منذ اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، وهي المدة التي شكلت الوعي السياسي والاجتماعي لفئة كبيرة من هؤلاء، لم يسمع هذا الجيل الا ما يصور الآخر على انه العدو والمتآمر. كما نشأ هذا الجيل ولا يزال على هذا الفرز والشرخ اللذين يزدادان عمقاً.
يجب الاقرار ان من نفذ عملية السفارة الايرانية كان يشعر بأنه يقوم بعمل جليل للدين ولله. ويجب الاقرار ان السلوك التحريضي والالغائي والمذهبي طيلة هذه السنوات وعلى جبهتي الصراع يتحمل المسؤولية. قصّر تيار المستقبل في مواجهة هذه الظاهرة في بيئته، ولم يقم بما يجب لحسابات سياسية او تحت ضغط الخوف من خسارة نفوذه وتأثيره في البيئة السنية، وسط استقطاب مذهبي حاد. وكان تعامله مع ظاهرة الاسير اقل حزماً مما يجب. هذا في معزل عما كان يمارسه الطرف المقابل. فما ظهر اليوم كشف كم ان هذه الجماعات المتطرفة خرّبت الثورة السورية، ووفرت لخصومها من النظام السوري وحلفائه هدايا مجانية، وكانت هذه المجموعات الاكثر استجابة لمخططات الاسد.
في المقابل لا يبدو حزب الله مشغولا بالحد من الاستقطاب المذهبي، ان لم يكن مستفيدا منه. فحتى صيدا، التي تقع في عقر دار حزب الله ومدخل الجنوب من بيروت ومدخل بيروت من الجنوب، لم يستطع حزب الله استيعابها. وظل يبرر سلوكه السيئ بما هو اسوأ. فإذا كان الاسلاميون السنة خصومه، والتكفيريون اعداءه، وتيار المستقبل متآمراً، وما استطاع استيعاب نموذج الرئيس نجيب ميقاتي حتى، واصرّ على اختراق هذه البيئة بنموذج سرايا المقاومة: فهل يعتقدن الحزب بعد هذا ان ليست لديه مشكلة مع الطائفة السنية؟ لهذا لم يستطع ان يحدث تسرباً حقيقياً لفكرة المقاومة كما يحملها، الى البيئة الصيداوية او السنية في الجنوب عموما؟ً (منطقة العرقوب نموذجا آخر).
فشل حزب الله في ان يستوعب المكون السني في عقر داره، ﻷنه دائماً يذهب في حساب الربح والخسارة سياسيا وايديولوجيا الى “انتصار مجيد” و”مهما فعلتم نحن منتصرون وانتم مهزومون”. وهو لا يسأل مثلا هل ربح لبنان ام خسر؟ حتى المقاومة التي يريد من الجميع ان يوافقوه عليها كما يريدها ويشاء، ليس مستعداً ان يتنازل عن كونها فصيلا من فصائل الولي الفقيه. يمكن للبناني ان يتفهم وجود فصيل في المقاومة من فصائل الولي الفقيه ولكن كيف له ان يقتنع بها اذا كانت كلها في جيش ولاية الفقيه؟
ثمة تفاعلات اجتماعية في البيئة اللبنانية وفي العلاقة السنية الشيعية. وظاهرة الانتحاريين في صيدا مؤشر على الذهنية الامنية في التعامل مع هذه التفاعلات. انهاء ظاهرة الاسير، بكل ما احيط بها، رافقها خطاب استعلائي، وسلوك الانتصار المجيد. وجرى التعامل، يقول احد مشايخ المدينة (رفض الكشف عن اسمه) “بحملة حقد تحت عنوان:يا زينب“، اختبأت وراء الجيش وأحياناً بلباس الجيش نفسه.. وشهدت أقبية التعذيب في مجمع حزبي مذهبي ثم في أقبية الجيش اللبناني جرائم ضد البشرية والعدوان على كرامة الإنسان نشرتها الصحف ووثقتها لجان المحامين المتطوعين.. وشكلت قيادة الجيش لجنة تحقيق بشأنها”. واضاف: “إن الانتقام الجماعي والعشوائي والظالم غير المقيد بالإجراءات القانونية مع التعبئة المذهبية الاستثنائية يزيد من الأزمة ولا يحلها”.
قبل يومين هبطت طائرة عسكرية اميركية في مطار رياق العسكري تحمل مدربين عسكريين اميركيين، لم ينبس حزب الله ببنت شفة، ولا احد غيره نبس. هو الذي عودنا ان يقيم الدنيا ولا يقعدها. لكن عشية اتفاق جنيف اختلف اﻷمر.
alyalamine@gmail.com
البلد